في الإنسان تجاه السلطة نزوعان، أحدهما افتقار واحتياج، والآخر نزاع ورفض، وقد اختارت الحداثة الثاني منهما، وهذا طبيعي، ومتماش مع فلسفتها، فهي ترفض النمطي والسلطوي والمؤدلج، والثابت، وهكذا.. ورفضها له ما يبرره في أصل انبثاقها..
فالسلطة إذا وجدت فهي تأخذ واحداً من اتجاهين، فهي إما سلطة حوار، أو سلطة قمع، وأحادية في التفكير.
ومهما يكن من أمر فوجود السلطة التنظيمية أياً كانت أفضل من عدمه، وقد قيل:
لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم
ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والأب مثال لذلك.. فكثيراً ما ترى أبناء مميزين، فتعثر من خلفهم على أب ذي شخصية حوارية، ومن خلالها رباهم على الإقناع والاقتناع، وليس على الجبرية والإكراه. بينما ترى أبناء فقدوا الأب - السلطة، فتاهوا، وتقطعت بهم السبل. إذ مهما كانت نوعية السلطة الأبوية فإنها تظل عامل جذب واستقطاب نفسي.
وأقصد السلطة التي تحمل هم التربية والتوجيه، إما قسراً، أو بالإقناع والحوار. أما السلطة التي لا تحمل ذلك الهم ولا تخطط له، أو كانت تسعى لتحقيق مآرب خاصة ونفعية ذاتية فوجودها كعدمه، بل ربما كان الأجدى غيابها أو تغييبها.
وهذا النوع من السلطة هو الذي سعت (الحداثة) في أول مراحل تكونها إلى الاشتباك معه، ممثلاً في سلطة الكنيسة الأوروبية قبيل الثورة الفرنسية. حيث انتظمت مع العقل والعلم في صراع ضدي.
وإذا كانت هذه حقيقة العلاقة السلطوية بين الدين الكنسي والمجتمع والعلم والثقافة، فمن الطبيعي ان يكون إسقاطها عيداً عالمياً للبشرية.
فهل يتمتع إسقاط سلطة الدين الإسلامي على الحياة بذات المشروعية؟. أما من ناحية أصل الدين بوحييه القرآن والسنة، فلا، لأنه دين منطقي في تعاملاته، ومتكامل تشريعاته، وهذا ما لا يشك فيه مسلم، بل كل منصف من غير المسلمين يعترف به.
فهو دين الحوار: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ125} سورة النحل. والإنصاف {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} سورة الممتحنة. والعدل {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} صورة آل عمران.
ومن هنا فالصراع مع السلطة الدينية الإسلامية في هذا الإطار ليس له ما يبرره. لأن الحوار معها مفتوح، بل مشروع. ولا يتصور تحقق الصراع معه إلا في حال واحدة، وهي افتعال التناقضات وتغذية الشبهات، أو تحميل الدين مشاكل أتباعه، وتصوراتهم الخاطئة،أو الناقصة.
فمثلا هل ثمة مشكلة بالنسبة للمرأة في السلطة الإسلامية الأساسية، أم ان (النقد النسوي) الحديث ثمرة لواقع غربي هضمها حقها في الحياة وفق الطبيعة التي خلقت عليها، وقاسمها أعباء الرجل، إضافة إلى أعبائها الفطرية، من غير ما وجه حق سوى الحرص على تحقيق (المساواة). وثمرة أيضا لممارسات إسلاميين حُمِّل الإسلام وزرها، وهو منها بريء.
فالمرأة المسلمة - في هذه الحال - بحاجة فعلية أيضا لمن يرد لها حقوقها المقررة لها فيما سميته (السلطة الإسلامية الأساسية).
وإذن فالثقافة والفكر وكافة أنساق الحياة في المجتمعات الإسلامية ليست مفتقرة إلى الحداثة الفرنسية لتنقذها من جور السلطات الميتافيزيقية، وقيود المؤسسات الدينية القمعية.إنما تحتاج لقيم الوحي السماوي الذي أعلى من شأن الإنسان، وشرف قدره، وسما بأساليب الحوار والإقناع معه {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}.
وعلى غرار الثورة الفرنسية نحتاج - على سبيل الاستعارة - إلى ثورة فكرية إسلامية، تبدأ من هرم الفعاليات الدينية إلى قاعدة الأتباع العريضة في المجتمعات الإسلامية. ومن المؤسف ان هذه الثورة بدأت بالفعل لكنها لم تبن على أصولها، وبنيت على تطرف ومحدودية في التصور في مواجهة ممارسات فردية أو تنظيرات محدودة لها نفس الصبغة من ضيق الأفق، وضحالة الفهم.
فمن سمات هذه الثورة العقلية والليبرالية: تغييب الوحي، والانطلاق في الطرح من رؤية عقلية شخصية، والافتقار إلى أدوات التحليل الموضوعية، وغلبة الطابع الهجومي والتدمير على جملة من خطابيات كتابها ومنظريها، والميل إلى تضخيم المقدمات، وتعميم الأحكام، والقطع بصحة الرؤية والتصور الذاتي، وعدم الاعتراف بالآخر - ولو كان يسعى في نفس المنظومة ويحمل نفس الهم والفكر - بينما تعترف هذه الثورة الفكرية الإسلامية الحديثة بالآخر الغربي، وتُنَمْذِج فكره، وتتبنى تصوراته، ونظرياته، على اعتبارها قيماً فكرية كمقاسات الأزياء الجسدية التي تناسب الشرقي والجنوبي كما تناسب الغربي والشمالي.
وعندما أطرح تصوري للثورة الفكرية الإسلامية التي أنادي بها فلا أعتقد انها ستنجح إلا بالقيام على أصول وقيم أساسية، أهمها الاعتماد على مرجعية الوحي القرآني والثابت من السنة النبوية، والاعتراف لهما بالقداسة والمكانة والقدرة، وان قداستهما لا تنافي التحاور في فهم مقاصدهما، فالقرآن {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} صورة ص. وعلى أن للحوار والتدبر والتفهم أصولاً وضوابط مستنبطة من اللغة التي بها نزل القرآن، ومن الهدي النبوي في فهمه وتفهيمه.
وهذه القيم والأصول ربما تحمل على إعادة النظر في كثير من أطروحات التجديد والتحديث الفكري المتعجل.
|