Friday 28th May,200411565العددالجمعة 9 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "حدود الوطن"

قراءة في ذاكرة الوجوه والأمكنة قراءة في ذاكرة الوجوه والأمكنة
غاب القصر وغاب الحراج وضاعت الوجوه في زحمة التمدن
القريات
بوابة الوطن

  *حلقات يكتبها: سليم صالح الحريص تصوير: حمدان حسين 4/2
ها هي الأمكنة.. وها هي الأطلال.. وها هي الوجوه.. قامات وهندام وزي مميز وتجمع بشري يتحلقون حول بعضهم.. إنه قصر إمارة منطقة القريات ومفتشية الحدود الشمالية الغربية ومن ثم مفتشية الحدود الغربية. نعم لقد كان هذا هو مسماها منذ توحيد المملكة وحتى عام 1414هـ حين ضمت إلى الجوف... هؤلاء هم (خويا الإمارة) بزيهم الموحد (كما هو في الصورة) فقد كان زيا ذا رونق وهيبة، وقد كانت لهذا اللباس قصة يرويها أحد أبناء القريات وهو الأستاذ محمد بن عبد الله الحواس (وكيل الإمارة المساعد - محافظ القريات بالنيابة سابقا) يقول:
تعين والدي في إمارة منطقة القريات وقد عمل في فلسطين ويجيد القراءة والكتابة وكان يشاهد لباس (الهجانة) أو ما يعرف في الأردن ب(البادية) وقد كان له رونق وحين تقررت زيارة المندوب البريطاني في الأردن (قلوب باشا وهو الشهير بأبي حنيك) للالتقاء بمعالي الأمير عبد العزيز السديري مفتش الحدود وأمير منطقة القريات رحمه الله والتباحث في أمور عدة هي محل اهتمام جلالة الملك المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله. فتقدم بفكرة تمييز لباس (خويا الإمارة) وليكون لهم الزي الرسمي فوافق معاليه وتم تنفيذه ويتكون اللباس من الثوب والزبون والشماغ المهدب والعقال مع وضع التاج وهو (السيفين والنخلة) إضافة للمجند وسفايف مع شكث تلبس على الزبون مع حزام الفشق وكان لون السفايف أحمر زاهيا وتم تدريب الخويا تدريباً عسكريا وعند وصول أبي حنيك فوجئ بهذه الهيئة وأعجب بما رأى ومن بعد عرض معالي الأمير على المسؤولين مناسبة هذا اللباس صدرت الموافقة عليه وعلى تعميمه لكافة الإمارات.
اتجهت وصاحبي إلى حي المطار وهي حي سكني حديث حل مكان مطار القريات الذي شهد هبوط الرحلة الملكية التي جاءت من الرياض عام 1371هـ وعلى متنها بعثة الشرف الملكية والمكلفة من جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله لمرافقة جلالة الملك حسين بن طلال في زيارته للمملكة (للمرة الأولى) بعد تسلم سلطاته الدستورية وبعثة الشرف هذه يرأسها معالي الأمير عبد العزيز السديري أمير منطقة القريات ومفتش الحدود الشمالية، وبعد عودة العاهل الأردني إلى عمان ترافقه بعثة الشرف وما حققته الزيارة من نجاح, وكان جلالته سعيداً بالزيارة، قلد جلالته رئيس بعثة الشرف عبد العزيز السديري وأعضاء البعثة أوسمة رفيعة تقديراً لهم. ويقول الأستاذ إبراهيم حبرم: بعد عودة معالي الأمير إلى القريات كتبت له مهنئا باسم أهالي كاف واسمي برئاسته البعثة وثقة جلالة الملك بشخصه وبعد أسبوع قام الأمير رحمه الله بالمرور علينا في كاف فدعاني رئيس المركز لمقابلة معاليه فناولني كتاباً يثمن لي فيه مشاعرنا ومقدراً ما ورد في رسالتنا من اعتزاز.
كانت وسيلة الاتصال في السابق هي البرقيات للأمور المستعجلة أما نقل البريد فكانت الركايب هي الوسيلة المثلى للتواصل مع المراكز والمدن، ولبعد القريات الجغرافي كانت ولادة المطار والتي تعتبر نقلة جيدة جداً وقد مارس دورا هاما وحيويا في ذلك الوقت، وشهد هذا المطار هبوط أول رحلة إلى القريات على طائرة البريستول في شهر أكتوبر من عام 1955م بواقع رحلة واحدة أسبوعياً ثم سيرت طائرة الداكوتا (dc3) بواقع رحلتين أسبوعياً ثم أضيفت رحلة إلى بيروت وأخرى إلى عمّان ليشكل مطار القريات حلقة وصل محلية ونقطة تواصل دولية.. وقد شهد هذا المدرج وصول الطائرة المقلة لخادم الحرمين الشريفين حفظه الله والقادمة من بيروت ليقدم التعازي والمواساة في وفاة خالة معالي الأمير عبد العزيز السديري وكان يرافقه معالي الشيخ إبراهيم العنقري المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين حالياً وذلك في عام 1375هـ.. ملامح كثيرة اختفت بل حتى طائرة (البريستول) التي تعطلت في المطار وبقيت سنوات متكئة على أرضيته متوسدة ذكريات حلها وترحالها مضت إلى (السكراب) بمبلغ زهيد لا يتجاوز العشرة آلاف ريال دون رجعة.
من قيادة الطائرة إلى ظهر الحمار
.. وبحكم موقع القريات الحدودي يحدثنا الأستاذ إبراهيم حبرم عن بعض القصص الطريفة مع الطيران إذ يقول:
في أحد الأيام من عام 1375هـ هبطت إحدى طائرات التدريب الأردنية التي تتسع فقط لقائدها ومدربه هبوطا اضطراريا قرب قرية القرقر (شمال شرق القريات) ونزل الطيار منها فقابله الأهالي وعرف بنفسه بأنه طيار أردني متدرب وقد تعطل جهاز الاتصال بطائرته وسأل الأهالي أين هو؟؟ فقالوا له أنت في القريات بالسعودية فطلب منهم إيصاله إلى أقرب مركز حكومي وحيث لم يكن هناك وسائط نقل سوى البهائم فأحضروا له حمارا، فقال: كيف؟.. (يارب من قيادة طائرة إلى ظهر حمار) فساروا وبعد أن قطعوا جزءا من الطريق إلى مركز إمارة كاف شعر بالتعب فركب الحمار حتى وصلوا المركز وكان أميره صالح الصقر رحمه الله وبعد أن قدمت له القهوة جهزت سيارة المركز ونقلته إلى القريات حيث قابل الأمير عبد الله السديري وقام بواجب الضيافة وطلب الطيار من الأمير إصلاح عطل جهاز اتصال الطائرة فأرسل معه مهندس اللاسلكي آنذاك (علي الوادي) والد الأستاذ إبراهيم الوادي في مكتب معالي وزير التربية والتعليم حالياً وقام بإصلاحه وكذلك رئيس تشريفات الإمارة آنذاك (صياح المفضي) رحمه الله
(عم الفريق طلال المفضي قائد القوات البحرية سابقا)، ليرافقه على الطائرة كدليل وقد طلب الوالد صياح بعد إصلاح الجهاز أن يكون طيرانه على علو منخفض كي يتمكن من معرفة الأرض وصولا إلى عمان وقد فعل ذلك حتى وصولهم إلى مطار عمان بالسلامة وعاد صياح مع السائق الذي بعثه الأمير على سيارة الإمارة لتعيده إلى القريات.
الطيار الحربي بدر ظاظا وجلالة الملك حسين في القريات
أما القصة الثانية، والحديث للأستاذ إبراهيم، حيث يقول: كنا في شهر رمضان من عام 1386هـ كنا في حضرة معالي الأمير سلطان السديري رحمه الله قبل نهاية الدوام وقد دخل المجلس المرحوم عودة مقنط وبرفته شاب مديد القامة يرتدي زي الطيارين وبعد السلام عرف الضيف بنفسه قائلا أنا طيار حربي أردني واسمي (بدر ظاظا) هبطت طائرتي اضطراريا في القاع جنوبي القريات دون أن أعرف أني داخل الأراضي السعودية ووجدني الأخ عودة فطلبت منه إيصالي للمسؤولين. وقد شكر الأمير الأخ عودة على ما فعل وقد شرح الطيار للأمير ما حدث له قائلا تعطل جهاز
الاتصال والسماء ملبدة بالغيوم المنخفضة وما إن انخفضت عن مستواها فوجئت بقرب الأرض وقرب نفاد الوقود فهبطت بالقاع وأعتقد أنني بالأزرق في الأردن لأفاجأ بأن الأرض موحلة وغاصت عجلاتها بعمق (15سم) والطائرة حربية من نوع (هوكر هنتر) فقال الأمير وما هي طلباتك؟؟ قال أرجو توفير حراسة على الطائرة حيث هي محملة بالذخيرة، وكلف الأمير حرس الحدود بالمهمة وكلف وكيله الشيخ عبد الرحمن بن يوسف بإبلاغ مركز الحدود الأردني (العمري) بسلامة الطيار والطائرة بعد أن اجهدوا في البحث عن الطيار والطائرة خشية سقوطها وتم استضافة الطيار في دار الضيافة وبقيت معه - والحديث ما زال للأستاذ إبراهيم - وقال: حدثني الطيار بأن شقيقا له كان طياراً وكان يتدرب في الأزرق قبل شهرين وسقطت طائرته فتوفي. أما ابن
يوسف حين وصوله العمري والتقائه بالمسؤولين شاهد سيارات الجيش وهي تمشط المنطقة بحثاً عن حطام الطائرة لكنه أراحهم وأبلغهم بسلامة الطيار وقد أبلغوا جلالة الملك حسين. وفي صباح اليوم التالي كان الملك حسين في طائرته يهبط بمطار القريات وكان في استقباله الأمير سلطان وابن يوسف وظاظا ولفيف من أهالي القريات ثم صعد الملك والأمير والطيار إلى طائرة الملك الذي قادها إلى الطائرة الجاثمة في القاع والذي أصبح مطارا للقريات فيما بعد. وقد شاهد الملك حسين الطائرة ولام ظاظا وسأله لماذا لم يستخدم مظلة الهبوط الاضطراري، وعاد الطيار برفقة الملك وبقيت الطائرة نحو عشرين يوما حتى جف القاع من آثار المطر وقامت البلدية بمسح المهبط حتى أقلعت الطائرة وهذا الطيار حول إلى قيادة طائرة الهليكوبتر ليقود الطائرة التي تحطمت بقريته جلالة الملك (الملكة عليا طوقان) ووزير الصحة (محمد البشير) وهما في طريقهما إلى جنوب الأردن.
الداكوتا تهبط في قيعان خنّا والطيار نهار العتيبي
أما القصة الثالثة فهي لهبوط طائرة الداكوتا القادمة إلى القريات عام 1378هـ وكان على متنها (25) راكبا من ضمنهم الأخ عبد الله العويسي رحمه الله الذي عين رئيسا لبلدية الزلفي قبل ثلاثة عقود إذ يقول حين وصولها إلى القريات: كان الجو عاصفاً ومغبراً فاتجه الطيار إلى طريف وكان الجو مماثلا فاتجه إلى عمان حيث هو أقرب ولكنه حين أبصر الأرض شاهد قاعا واسعا لا يقل طوله عن عشرين كيلو متراً وإذا هو (قيعان خنّا) ووقود الطائرة على وشك النفاد فأطلق نداء وحدد موقعه وهبط بسلام، وكان الطيار هو الكابتن (نهار العتيبي) وعلى الفور جاءتهم طائرة داكوتا أردنية وتم تزويد الطائرة السعودية بالوقود وأقلعت الطائرتان باتجاه عمان وما إن وصل الركاب إلى عمان أبلغوهم بأن رحلتهم إلى القريات التاسعة صباحاً من اليوم التالي.. وهكذا كان.
أصبحت الشعاب الصغيرة في هذا المكان، والتي كثيراً ما تجملت في موسم الربيع بأزاهيرها وخضرة شجيراتها، أصبحت بلا خضرة وتحولت إلى معابر أسفلتية بلونها الأسود وشيد على أرض المدرج مساكن ومرافق خدمية وبقي مبنى المطار صامدا على حاله إلى أن آلت ملكيته لبلدية القريات... ذهب المطار وبقيت الذكريات فقط، لا يملك تفاصيلها إلا من عايشها وعاش أحداثها.
.. أنت على هضبة منبسطة كانت متنزها للأهالي طيلة موسم الربيع ومراعي لماشيتهم.. والهضبة تشرف على مدينة القريات.. ترى الشرق ولا ترى أطراف المدينة وتدير نظرك إلى الغرب فلا ترى للعمران نهاية.. على بعد كيلو مترات قليلة وقليلة جداً، ترى علامات خط الحدود الأردنية السعودية بالعين المجردة.. إنها آخر مدينة سعودية في شمال الوطن.. مدينة حديثة النشأة.. لا تعني شيئا لمن يجهل.. أو لا يهمه أن يعرف عن أهميتها الجغرافية والسياسية أو الأمنية.. عن ذلك الدور الأمني الذي أدته في يوم ما.. وتؤديه اليوم، ولا الدور السياسي الذي لعبته إمارة منطقتها في حقب كثيرة أي شيء.... قد لا يهم.. قد لا يعني شيئا.. قد مضى كل شيء إلى حال سبيله.... ولكن يبقى العيب في أن المعلومة لم تصل أو لم يُسع لها أو يبحث عنها وهنا كان لابد لي وأنا استعرض تاريخ مدينة بل منطقة أن أذكر بعض هذه الجوانب المهمة للتوثيق وللتاريخ؛ فقد كانت القريات ملاذا للسيد رشيد عالي الكيلاني رئيس وزراء العراق فترة الانتداب البريطاني والذي حكم عليه بالإعدام فما كان منه إلا الوصول إلى القريات وبقي فيها عدة أيام مكرما آمنا. ويروي الشيخ محمد بن صالح بن سلطان رحمه الله (آخر حوار صحفي لإصدار مدينة الرياض العدد 38) وهو الذي كان يعمل في ديوان جلالة الملك عبد العزيز رحمه الله. قائلا: أتذكر أننا مرة كنا مسافرين مع الملك عبد العزيز إلى مكة المكرمة وكنا مخيمين وجاءت للملك برقية من أحد أمراء القريات (والمقصود هنا هو عبد العزيز السديري أمير المنطقة منذ عام 1357ه وحتى 1375) حيث ذكر في البرقية أن شخصا من العراق يريد القدوم إلى جلالته وكان في ذلك الوقت لا توجد جوازات ولا حدود ولا شيء من هذا القبيل فرد عليه الملك وقال: دعه يأتي (ما يخالف) ولما وصل الضيف دخل المخيم على الملك وسأله قائلا: هل عرفتني. قال الملك: لا لم أعرفك. قال له الضيف: أنا رشيد عالي الكيلاني، وسأله الملك: وماذا أتى بك إليّ؟ فقال الضيف: أنا دخلت عليك ولن أخرج أبداً. ويضيف الشيخ ابن سلطان: استدعى الملك وقتها السفير البريطاني وحكى له ما حدث وقال له: هذا الرجل دخل عليّ وهو الآن مثل عيالي ولا يمكن أن أفعل شيئا وبلغ حكومتك أن تتركه وتسقط الحكم الذي أصدرته بحقه وهذا ما حدث بالضبط. وقد جعله الملك عبد العزيز من مستشاريه وبقي في الديوان يرافقه ضابط من الحرس الملكي وقد جاءت عائلته إلى المملكة فيما بعد). وبحكم الموقع الجغرافي فقد كانت القريات نقطة تواصل مهمة مع الطرف الآخر والحصن الآمن والملاذ الذي يجد فيه الشقيق كل خير وحماية. فقد كانت ملاذا آمنا ل (بني معروف) الدروز أيام الانتداب الفرنسي بدءا بأميرهم سلطان الأطرش. كما وفد عليها فضيلة الشيخ علي الطنطاوي وبعض المواطنين من أبناء سوريا الشقيقة وقد كتب عن هذه الرحلة الشيخ الطنطاوي في مذكراته المطبوعة.
لقد شكلت القريات في موقعها وأهميتها الكثير فقد كانت همزة الوصل مع دول الجوار وكان أميرها يمارس هذا الدور بأمر وتوجيه من جلالة الملك المؤسس، فقد لعبت إمارة المنطقة دورا في ترسيم الحدود مع العراق وكذلك ترسيم الحدود مع الأردن وإعادة ترسيمها أكثر من مرة وكان معالي الأمير على اتصال دائم ومستمر مع الحكومة الأردنية وتباحث في المجالات الأمنية وخلافها. يتبع

غداً.. الحلقة الثالثة


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved