كانت هذه الكلمات الحزينة على لسان صدام صالح الذي احتجز لمدة 4 أشهر في معتقل (أبو غريب)، وكان الحراس يجبرونه على البقاء عارياً مدة 23 ساعة لمدة 18 يوماً، وقد ظهر صدام في صورة السجناء والأكياس على رؤوسهم فيما كانت السجانة ليندي إنجلاند تشير بيديها إلى أعضائهم التناسلية والسيجارة في فمها، ويذكر حسبما نقلته رويترز أنهم اغتصبوا فتاة لم يكن يزيد عمرها على 16 عاماً أمام والدها وصرخاتها دوت في هذا الكون، فأي حيوان وضيع يمكنه فعل ذلك؟ وذكر أن الجندي تبول عليه وجره على الأرض، ثم أضاف صدام صالح أنه بعد 6 أسابيع من إطلاق سراحه فقد الرغبة في الحياة، وأنه يشعر بالخجل الشديد وغير قادر على رؤية أصدقائه وأسرته وخطيبته التي ألغى الزفاف خجلاً منها وتركها للأبد ثم قال:(كنت رجلاً من قبل، لكن رجولتي نزعت مني، منذ ما جرى لي، أعتبر نفسي ميتاً، حياتي انتهت).. وفي مقابل هذه الصورة التي أثبتت أن (أبو غريب) قاس ومستبد تحت أي نظام، صورة أخرى أشد إيلاماً تثبت أن الإنسان هو الضحية الأولى في حروب السيطرة وهي نحر بيرنج بالطريقة الوحشية على يد الزرقاوي، مما ذكرني قصيدة (إذا) لأفضل الشعراء البريطانيين على الإطلاق، وهي نصيحة يقدمها روديارد كيبلينج (جائزة نوبل 1907م)، للولايات المتحدة عندما استعمرت الفلبين عام 1899م فقال:تحملوا عبء الرجل الأبيض، وأرسلوا أفضل ما لديكم من رجال، لكي ينتظروا وهم بكامل عتادهم وعدتهم الجماعات البربرية المضطربة والشعوب المتجهمة التي وقت تحت سيطرتكم مؤخراً التي نصفها شيطان ونصفها طفل.
كانت طريقة مقززة تشبه إلى حد كبير الانتهاكات المقززة في سجن (أبو غريب)، سواء بسواء، وكنت أتمنى من أولئك الذين طرحوا ضحيتهم أرضاً انهم عفوا عنه أمام الشاشات وقالوا إن ديننا يرفض قتلك لأن نبينا كان وصى جيوشه ألا تقتل وليداً وشيخاً وامرأة ومسالماً وألا تقطع شجرة ولا تهدم بئراً وبخاصة أن الوضع في العراق لا يستفيد من قتل فرد على الطريقة الزرقاوية وسيدفع المسلمون مقابل ذلك ما لا يتوقعه أحد ولكسبوا قضيتهم عالمياً بعد الاحتقان العالمي والغضب الدولي مما جرى في سجن أبو غريب على يد المحتلين واظهروا الصورة المشرقة للإسلام الذي لم يؤمن بطريقة مصاصي الدماء ذات يوم لأن الهدف الأسمى أن ندعو الناس له، لقد أعطوا الغزاة المبررات على طبق من ذهب وتحول الرأي العالمي من جديد مؤيداً الطارئين والمحتلين ومعارضاً المقاومين، مما يدل على فشلنا في الدفاع عن قضايانا سياسياً وإعلامياً في زمن حروب انقطعت عن أسبابها وفشلت مبرراتها على يد الأقوى، فهي حروب من أجل الحروب والسيطرة، وما تعززه من مصطلحات مزيفة هي مقلوبة رأساً على عقب كالإرهاب والمقاومة لأنها ترسلها على ظهر صواريخ كروز المدمرة وطائرات بي 52 عابرة القارات، ونسي أولئك أن التكنولوجيا لا يمكن أن يوثق بها للأبد، ولا يليق بهم المقام بين الرؤوس المشوهة والأجسام المتفحمة والأعراض المنتهكة لأن الهواجس الثأرية في هذه النفوس لا تلغيها أي شعارات مخدرة وديمقراطيات مزيفة.
يا ترى ماذا سيكتبه السجناء في ذلك المعتقل من مذكرات تشهد آلاماً مثل آلام فورنر الشاهدة على سقوط الإنسانية والتاريخ معاً، وماذا يخفي الحبر الأسود وراءه من احتجاج على لسان برتراند راسل في قوله إن الأخلاق والسلام والمحبة هي ثلاثية محرمة عليك أيها العالم المسجون بقبور الذرائع التي لا تسد أبوابها وتلك الجدلية المجردة من الوئام باسم الخرافة التكنولوجية التي تعود بهذا الكوكب إلى ما قبل عصر جاليليو لتثبت أن الكوكب يدور في فلك مشحون بالهزائم والاستبداد ورائحة البارود.. فقليلاً من الحياء أيتها الأطراف في هذا الزمن المملوء بحكايات لامارتين الخرافية، فالزهو بالنصر إلى درجة الغرور قد يفقد الرؤية، ومن ذهب بعيداً من الشاطئ يعرض نفسه للغرق كما قال مونتيني في إحدى مقالاته.
والأجدر ببلاد تريد أن تصدر نموذجها الخاص وتعممه على البشرية دون التفات لخصائص الشعوب أن تعطي نموذجاً أخلاقياً يتسم بالعدل والرحمة والمساواة لترضاه الشعوب حتى وإن كان ذلك مخالفاً لمبادئ هيئة الأمم المتحدة التي تحترم سيادة الدول وخصائصها وثوابتها السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك سقط مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الأمريكية لإصلاح هذه المنطقة لأنها قد تلقفته من شيمون بيريز الذي نشره في بداية التسعينات من القرن العشرين في كتابه (الشرق الأوسط الكبير) والهدف منه تشكيل منطقة من الخليج إلى المحيط على نحو جديد، تكون فيه إسرائيل رائدة وهي ترفض كل مبادرات السلام والتسوية لتربط دول المنطقة عضوياً بالولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى إلى إعادة تشكيل المنطقة من خلال إقامة النظام الديمقراطي المزعوم وضمان الحريات وحقوق الإنسان والاهتمام بقضايا المرأة العربية ومقاومة الإرهاب وضرورة مراجعة المناهج الدراسية، وكان الأولى أن تصدر الدول الأجنبية الثقة والموقف الحق أولاً قبل تصديرها تلك الشعارات الملونة وهي تعرف أن الديمقراطية ليست في صالحها ابتداء وانتهاء لأن الشعوب ناقمة ومحتجة على سياسات القمع والتهويد والاحتلال، والتدخل في الشؤون الداخلية لأعضاء في هيئة الأمم المتحدة لا مبرر له بسبب أن الحاجة للإصلاحات قد أثبتها تقريران صادران من الأمم المتحدة أعدهما نخبة من المثقفين العرب الذين جلدوا الذات بسياط في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب تحت مبادئ الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وهذه المطالب وصلت على ظهر عربة أمريكية، مازالت كل يوم تفقد بما يجري في هذه المنطقة شيئاً من مصداقيتها بل إن هذه الإسرائيل هي التي ترفض كل مشروعات الإصلاح والسلم والأمن التي قدمتها دول المنطقة تحت رعاية جامعة الدول العربية ومازالت تمارس سياسة الفصل العنصري والاغتيال والتدمير والتهجير وتقسيم الأراضي ورفض كل قرارات الشرعية الدولية، ومازلت أعجب من حرص هذه الدول على نشر ما لا يخدم مصلحتها في هذا الجزء من العالم وهي التي وقفت أمام مشروعات التضامن العربي بكل قواها متجاهلة أهمية استقراره، وهو المحرج كثيراً أمام شعوبه التي ترى الاجتياحات الإسرائيلية للمدن الفلسطينية قبيل أي قمة عربية حتى أصبحت هذه الرسالة القاسية من مستلزمات القمم العربية من قبل رعاة الاستيطان ودهاقنة تسويغ الجرائم في أوطان تحترق بأهرامات أبنائها العراة في عالم صمت مخيف ومنظمات خرساء مقابل صرخة العالم من صورة طارئ يحتضر بزهايمره السياسي الذي أتلف السحايا في الدماغ وقد أدرك ذلك ديزموند ستيورات قبل ثلاثين عاماً فقال إن الإنجليز محرومون من هذه المناجم التي ينعم بها العرب، ويقصد بتلك المناجم العذاب والحزن والهزيمة في القاهرة وبيروت وبغداد والقدس، ولو عاش زماننا لرأى بأم عينه كيف تطورت تلك المناجم التي تفرض على عمالها التعري والتجرد وتشكيل أهرامات من بني آدم على طريقة الفراعنة لتثبت تلك الحضارات المزيفة أن العالم قد عاد آلاف السنين إلى عصوره الحجرية على يد من يدعي أنه بلغ نهاية التاريخ بحضاراته التوسعية.
إن المبادرات والمشروعات التي تخص الآخرين لا تكون ذات جدوى إلا إذا كانت قراءتها بالتساوي في عزلة عن أي عوامل لا تخدم الأطراف المتصارعة، ولا تتناقض مع الواقع دون اللجوء إلى عمليات ترميم المجازر الشارونية، فأي حريات تكتب فقراتها بلغة العسكارتايا، وأي مساواة تطرح عن طريق الغزاة والاحتلال ومعاقبة الشعوب بسبب ذنوب لم يقترفوها، وأي مشروعات إصلاحية تقبلها الشعوب وهي تسويق للقبض على ملايين البشر في مختلف القارات بحجج ظنية مما يعطي تفسيراً لعقوق أبوة كونية، وطبع صور المطلوبين على ورق اللعب دليل على أن اللعبة قد انتهت أو على وشك النهاية بالطريقة التي يريدونها على مسرح الكوميديا السياسية بعدما امتلأ العالم بالحكايات البوليسية والمطاردات الأممية التي لم تستخدم (الفيتو) ذات يوم لمصلحة هذا الكوكب في أروقتها ودهاليزها حتى آمنت الدول الأعضاء انه خاص ببلد واحد ومحرم على الأربعة الباقية..
إن مشروع الشرق الأوسط الكبير تجاوز لحدود منطقة سيادة الدول على أراضيها، ومن الظلم ربط أسباب الإرهاب بالأنظمة العربية التي تريد الولايات المتحدة إصلاحها، وربط ذلك أيضا بغياب الديمقراطية التي صار تصديرها بنداً من بنود السياسة الخارجية الأمريكية، فهي التي حددت مصطلح الإرهاب ومواصفاته وشخصياته، دون نظر إلى السبب الرئيسي في تلك السياسات المعادية من قبل الأفراد المحبطين، فلماذا تحمِّل الولايات المتحدة الأمريكية الأنظمة العربية مسؤولية ذلك دون نظر إلى واقع مؤلم من السياسة الأممية غير منصف للأطراف المختلفة وكل الخطر في تجاوز حدود السيادة وخصوصيات الشعوب، لأن ذلك يترتب عليه انعكاسات مخيفة على الأمن والاستقرار الداخلي والخارجي، ومن يمعن النظر في الخطر الديمغرافي السكاني القادم يدرك أن الشرق الأوسط مرشح للانفجار دون تدخل الأجنبي بسبب خطر التهديد الأمني الذي يحتاج إلى توفير الأموال اللازمة لتنفيذ برامج التخطيط البشرية والرعاية الصحية والتعليم والقضاء على مظاهر الفقر والفساد والأمية والأمراض، ولو حرصت هذه الدول الكبرى انطلاقاً من رسالتها على تنشئة هذه الشعوب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً في هذا الشرق الأدردليكونوا متجانسين مع مصلحة مؤسساتهم ومؤهلين ضد مسببات الانقراض القادم على يد غير عسكرية هذه المرة، في ظل كيان يؤمن بالإنسان فقط، ويكفر بالخوذات والبزات الشهباء والبساطيل والنياشين والأوسمة في هذه الحروب القذرة. والله من وراء القصد.
الإمارات العربية المتحدة
|