(1-5)
صار الناس كل الناس يكتبون أو يتحدثون في نقد العقل العربي، والبحث في أسباب أزمته المزمنة، وكل يرى أنه هو مَنْ أصاب كبد الحقيقة، وواصل ليلى، و.. ليلى (قد) لا تقر لهم بذاكا.
فإذا كان الأمر كذلك فما المانع من أن أدلي بدلوي!، وليكن كالدلاء الأخرى في عمقه، أو في تسطحه وتبسيطه للمعضلات.
ففي الواقع أنه ليس من الضروري أن تكون النظريات الأكثر تعقيداً هي الأهم أو الأكثر أثراً في البشرية، إذ إن كثيراً من النظريات والكشوف العلمية بدأت من ملاحظة عابرة، وكمثال نظرية الجاذبية وهذه الملاحظة تنطبق أيضاً في المجالات النظرية ثقافيةً وفكريةً وفلسفيةً وإبداعيةً.
وأنا الآن أمارس التبسيط ذاته فيما يخص الفشل العربي والتطرف والإرهاب باعتبارها معطيات متشابكة الأسباب والنتائج.
فقد كانت البداية - في تقديري - لهذه المعضلة من اختلاط التصورات والمفاهيم في كل شيء تقريباً، ومن شيوع مشكلة الطفيليين لا أقصد على الموائد المادية، وإنما على التخصصات العلمية والفكرية والأدبية، بل الدينية.
كيف ذلك؟
لدينا فئة من الأساتذة (الزائرين) في تلك المجالات كافتها. وهم ليسوا زواراً مدعوين، بل متطفلين، وهم يمنحون أنفسهم قيمة مساوية لقيمة أصحاب
الدعوة، حتى لكأنهم من قال فيهم الشاعر العربي:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل |
كانت المائدة المفضلة في فترة مضت- ليست بالبعيدة- هي مائدة التمشيخ وتولي مهام المفتي العام والمرجعية المقدسة، وكان من مظاهر هذه المرحلة- ومازالت- التبرع بإطلاق هذا اللفظ الشريف (الشيخ) على كل من هب ودب، فبمجرد أن يكون هذا أو ذاك قارئاً حسن الصوت، أو منشداً إسلامياً، أو حتى عابراً للرؤى، أو راقياً على المرضى.. فإنه يلبس لباس الشيخ، ويعتم بعمته.
ثم بعد أن ينال شرف هذا اللفظ- بغير حقه- تنثال عليه الاستفتاءات في المعضلات الفقهية والعقدية من كل حدب وصوب.. ثم هكذا إلى أن يستمرىء (البعض منهم) هذه العيشة الرغيدة في ظل التكريم الذي هبط عليه من سماء المجتمع الساذج، فلا يبرح حتى يسعى لحيلة جديدة يثبت بها أطناب هذه الشهرة والمكانة، فيفجأ المريدين بفتوى صارخة من فتاوي التكفير، أو التفسيق والتبديع، أو الإفتاء بغير برهان من الله ولا نور مبين من هدي سيد المرسلين. وهنا ترسخ قدمه وتشتد شوكته فلا يرى أن أحداً جدير بأن يناقشه في فتوى أو يخالفه في رؤية وأن من جرؤ على ذلك متهم في ديانته، أو علمه وفقهه.
ثم استلم الراية من هذا الصنف صنف آخر، وقع في المصيدة عينها من حب الشهرة، وتلبس بلباس التطفل ذاته.
وجد هذا الصنف بعد أن لم يعد (التمشيخ) سيد الساحة المتفرد، بل نازعه فيها سيدان جديدان هما السياسة والفكر، فأما السياسة فلها حماها وسدنتها المدافعون عنها، ولاسيما في العالم العربي الذي احتكر فيه القرار السياسي بيد من حديد، ولم تعد المشاركة فيه تغني من جوع، بل ربما تجيع من غنى.
ومن هنا تحولت الموضة الكلامية إلى الخيار الآخر، فبعد صراع (المتمشيخين مع - المتمشيخين) بدأ صراع (المفكرين مع - المتمشيخين) وأتنبأ بأن المرحلة التالية ستكون - أعني في مجتمعنا - صراع (المفكرين مع - المفكرين).
وفي تصوري أن بوادر تلك المرحلة الانتقالية - صراع (المتمشيخين و- المفكرين) في مجتمعنا بدأت في حدود السنوات العشر الماضية.
وحينها كنت مع أحدهم في جلسة عابرة فكان يتعمد إثارة بعض من القضايا الشرعية الخلافية الكبرى، من أجل أن يسأله الحاضرون عن رأيه فيها، هل تعد نفسك شيخاً، وأنت نحوي من رأسك إلى أخمص قدميك، ولا أعلم أنك طلبت علم الفتيا والشرع؟ فرد بالقول: بل أنا مفكر.
ولأن الفكر لابواكي له، ولا ضوابط أو قوانين، ولأنه قاسم مشترك بين العقلاء، ولأحق أن يسلبه من أحد.. فقد تركه الناس يلبس لنفسه ما يشاء من أسمال (الفكرية) التي يدعيها.
هذه الحادثة تصور جانباً من أوّليات الصراع التزاوجي بين التمشيخ و(التمفكر) فقد كانت المسائل التي يخوض فيها خوض الحوت في أعماق المحيط مسائل فقهية خالصة، مبنية على الدليل الشرعي. ولا يقبل فيها دعوى الفكر المجرد بعيداً عن الدليل الثابت، وإلا لكان من المقبول أن نأخذ أحكامها من الأوروبيين والأمريكيين وسواهم من أساتذة الفكر الأكثر عمقاً وعلميةً.
وجاء الخطر ووقع الفأس في الرأس من أثر ذلك الزواج التصارعي بين فئتي التطفل على منزلة المشايخ، ومكانة المفكرين. فهو لم يكن زواج توافق في المصالح والمهام، والبناء، والتعمير للعقل والتعقل، بل زواج الكيد المتبادل، والبغضاء والكراهية، في سبيل نيل الشهرة وحصد الأصوات وكأنَّ الذي عقد عقده هو الشيطان الذي أخبر عن حاله رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إن الشيطان قد أَيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) روه مسلم.
ووقع هذا الخلل الذي نراه ونعايش آثاره في الحكم والتصور وتجلَّى الاختلاط في تشوش المرجعية واضطراب نظام المهام والأوليات في مجالات بناء النفس والناس.
وصار من السهل التلاعب بالعقول وتلغيم الأفكار، واختُرق المجتمع السعودي من قبل فئات لا تسعى إلا إلى تفتيته وتشتيته وإضعافه.
فمع أن الوطن يضم أصنافاً من الكفاءات العلمية والعملية، فقد اتحد الجميع وراء هذه الموضة اللقبية، وصار الشرف لمن حاز لقب (المفكر) بعدما كان للقب (الشيخ). وهذا ما عنيته (بالتخصص في الهامش) أي الهامش بالنسبة لمن هو ليس من أهل اللقب المؤهلين له تأهيلاً علمياً كافياً.
وأما (تهميش التخصص) فمن سماته أنك لا تكاد تجد من يعطي في مجالسنا من عطائه العلمي المتخصص، ومجاله الذي أمضى فيه زهرة عمره. وفي المقابل فقلما ترى أحداً من أصحاب هذه المواهب إلا ويخوض خوض المهرة في قضايا أبعد ما تكون من تخصصه. بل يجد في نفسه حرجاً كبيراً من رفض الإغراء بالمشاركة في هذه المائدة أو تلك من موائد التخصص الهامشي.
لدينا أديب، وفيزيائي، وطبيب، وبيطري، وصيدلي، ومهندس، ونحوي، وفقيه، ومفسر..الخ ومن النادر أن يخلو منهم مجلس لكنهم قلما يمنحون الفرصة ليستفاد منهم، أو يفيدوا غيرهم.
وإذا حدث ذلك فقليلاً ما يسلم الواحد منهم من صوت معارض يأتي من طرف المجلس، فالاعتبارات والأدوار مشوشة في المجتمع ومن هنا كانت النكبة والمصيبة والكارثة. وهذه قضية أخرى، ربما تتاح لي الفرصة لأتكلم فيها.
أما حين يتلبس أمثال هؤلاء النخب العلمية الفريدة بلباس غير لباسهم، فحيهلا بهم في مجتمع لا يقيم للتخصص قدره، ولا يسلس قياده إلا لأطول الناس لساناً وأجرؤهم على الفتيا، أو التفكير الهادم المخرب، او الادعاء الثقافي الأجوف.
وفي تقديري أننا بحاجة إلى أمرين لتصحيح هذا الوضع: فالمجتمع ومؤسساته الفاعلة لابد أن يعيدوا النظر في أسس التقييم والحكم والتصور وأن تتم السيطرة- اجتماعياً أولاً- على فوضى الألقاب، وشهية الشهرة، وأن ينزل الناس في منازلهم.
ولابد- بعد هذا- من إعلاء شأن العمل والإنتاجية، وهذا يتحقق بعد أن تتوقف عن التعويل في قياس الناس من خلال أقوالهم وتصريحاتهم، ونعول على النفع العلمي والعملي الملموس.
|