حلقات يكتبها - سليم صالح الحريص - تصوير - حمدان حسين:
مبتدأ الحكاية:
** للوجوه ذاكرة كما للأمكنة ذاكرتها، الوجوه امتداد لتاريخ المكان.. والأمكنة تحفظ ذاكرة الوجوه.. ذكراها، وذكرها، العلاقة قائمة والمخطوط سجل يُقرئنا ويقرأ لنا ونقرأه كلما راودنا الحنين لتلك الاماكن.
** تلك الأمكنة، تلك الوجوه تركت لنا الكثير وتركوا لنا ما يجعل من ذكرهم يُردد. كل صبح.. بل كل حين.
** تذهب الوجوه.. وتبقى الأمكنة.. اطلالا.. مزارا.. تعيد للوجوه حضورها.. وتعيد الذكريات.. للمكان.. انفاسه.
** تحضر الوجوه والأمكنة حين نطرق باب الذكريات وتغيب حين توصد تلك الأبواب.
** تأتي حين يغضبها الحديث.. ترفض أن تغير الحقائق.. وتثور حين يطغى العقوق على لغة الكلام وحين تتطاول الأيدي حد العبث.. التبديل أو المغالطة.
** نخاتلها لحظة أن تغفوا.. وتفاجئنا بحضورها البهي حين نشتاق لقراءة صفحات من أمسها البهي.
** الأرض سر، والأماكن ذاكرة الأرض، والأطلال رنة يتنفس منها الإنسان ذاكرته وحضوره في امس نُسي.. أو هو منسي.. أو أننا تناسيناه.
** هذه الأرض.. نسألها حين تلف بنا سحب الاغتراب.. ماذا فعلت بنا؟؟ لا تجيب.. وكأن صمتها لغة حبلى بالمعاني والدلالات، حاضرة بنا وكأن حضورنا بها يكفي.. ينفي عنها صفة التغريب.. لكنني اتذكر.. حين تضم رأسي وسادة الليل وتأخذني مراكبه.. تحضنني صور من أمسنا الذي كان.. حيث كان الدفء.. وكانت تلك الحميمية (المفقودة اليوم) وذلك الصفاء الذي أرضعناه ذات ليلة كانونية.. بصقيعها.. ومواقد الدفء وأنفاس الأنس واصوات تشيع في المكان ألفت الصلات ومصداقية الأحاديث وصدق المحدث وإنصات من الجميع.. ليال شتائية تشيع الدفء وتكلل بيوتنا بأدخنة الغضا.. وصباحاتنا بزمهرير الصقيع.. لكنه دفء.. قد كان للأمكنة حضور.. وجود.. فمن أين تكون البداية؟؟
** هل ذاكرة المدن تبلى؟ تشيخ؟ تهرم؟؟
** وهل الأمكنة تتخلى عن ذكرياتها؟؟ والوجوه عن ذاكرتها؟؟
** وأنت تغادر إلى حيث الذكريات.. إلى الأمكنة التي تذكر.. إلى الوجوه التي عانقتها ذات يوم وأصغيت بكل جوارحك لأحاديثها.. عما تتذكره وما ذكرته.. تحسب كم هي السنين؟؟ كم هي الأيام؟؟ التي مرت.. طويت.. وكم هي الأماكن التي لم تعد؟ لم يتبق منها شيء.. لم يبق منها إلا ذاكرتك عنها؟. تشعر بالمكان.. تحس به.. كأنه يبادلك الحديث أو كأنك تبثه همك.. ووجوه غادرتنا.. غابت وتركت لنا كل ما هو جميل.. إنها رحلة الأيام.. بل هي رحلتنا الممتدة من هذا المكان وتلك الوجوه الحاضرة إلى يومنا الذي فقدنا فيه كل شيء إلا الذاكرة وصور عالقة تمر بنا.. بي.. بين الحين والآخر.
وقفة بين سجلات الذاكرة.. بحث عن ظل نخلة.. وذكرى لجدار طين بقي (ساسة) الحجري يشحذ دمعة.. دمعتين.. وآهة تستنشق منها الأمس.. بيت من حجر وطين وجذع نخلة كانت ظلا للعابرين.. المتعبين في رحلة بين الشرق والغرب.. ومحطة لنفض غبار المسافات وتجديد لأنفاس رحلة جديدة تفضي بهم إلى مكان آخر.. إلى أناس آخرين ووجوه تكتحل بصورها العيون.. ربما لأول مرة. قد يكونون حجاجاً حيث كانوا يمرون من هنا.. تجارا يحملون بضاعتهم من بلاد الشام.. وربما.. ربما قادمون جدد في رحلة بحث عن العيش هنا.
** من هنا تبتدئ الرحلة.. وقد تكون نهايتها.. وقد تكون محطة لانطلاق رحلة اخرى..
** مضت الأيام وتوقفت الرحلات وبقيت (القريات) بوابة الوطن.. مشارف الوطن الحلم يبدأ من هنا.. والطريق توضع الأقدام عليه من هنا، إلى أي جهة أردت.. رغبت لكن رحلتنا في (حدود الوطن) تبتدئ من أين؟؟ من الغرب؟؟ أم من الشرق؟؟ أم نغوص في الأمس والأمس يعني لنا الكثير.. ذاكرة ثرية وسجل غني بالأحداث والوقائع فمن أين نبتدئ؟؟
بين الغار وظليما
من هنا، من حيث يقع المكتب في غرب المدينة أرى ذلك المكان على بعد خُطى مني، إنه (غار العمّة) ملاذ الهاربين إلى فضاء متحرر من القيود.. مكان حفل بالأنس.. ونصب فيه ذات ليال مقمرة خيام للمحبة والألفة وتردد بين جنباته أصداء الأحاديث وقهقهة المنصتين.. بين (غار العمة) و(ظليما) تتواصل الذكريات وما بينهما من بعد بين الشرق والغرب هي مسافة زمنية امتدت بناء سنوات من أعمارنا.. من صفائنا.. من عشقنا للحياة.
** مسافة مكانية تجعل من الوصول لهذه النقطة من النقطة الأخرى هاجس يخيف أقدامنا.. فراغ يوحش وأمكنة تشكو التباعد والبعد.. من طرف المدينة الغربي حيث أناخ مركز التنمية الاجتماعية مبناه وبين (غار العمة) فياف خالية.. تسكنها الوحشة ويقطنها الصمت.. وحين تصوب نظرك إلى الشرق من قصر الطين والذي ذهب به (الجهل) تطالعك مزرعة (ظليما) حيث كان الاخضرار.. وكان النماء.. بستان مورق، باسق الطلع وقد زارها جلالة الملك سعود عليه رحمة الله خلال زيارته للقريات في النصف الأول من السبعينيا ت الهجرية.. تحول بينك وبين أشجاره ا ذلك الحين (قصايم ) و(سباخ) واشجار (المصع) (ومن ثمر هذه الشجرة الذي يشبه حب الكرز كان يقوم اهالينا بتصنيع الدبس) التي سكنها الظمأ وأحاط بها السراب الخادع من كل اتجاه.
** أي تمدد وتوسع أخذت به هذه المدينة الحالمة!.. قد كان ما بين النقطتين التي ذكرت فراغ موحش.. أرض جرداء.. قاحلة تشكو الظمأ.
وجوه غابت وأماكن تتنفس منها الذكريات
من بدايات المدينة.. من الجذر حيث غرست وسقيت ونمت وترعرعت وكبرت وتمددت الأغصان.. من وسطها حيث كان النشوء.. استحضر الأمس بكل صفائه.. واشم رائحته من الأمكنة التي أتذكرها وإن غابت معظم المعالم، هنا كان قصر الطين.. في ظل جداره الشمالي كان سوق الحراج.. أغنام وإبل وسمن وبقل (إقط) وحطب و..و وأصوات تحرج ومبتاعون يبحثون عن حاجاتهم، وهنا كانت تباع المنتجات الزراعية المحلية والواردة من قرى وادي السرحان التي هي نتيجة مشروع توطين البادية في هذه المنطقة اوائل الثمانينيات الهجرية وقد كانت مشروعاً ناجحاً ومثمراً كفكرة لكن آليات التنفيذ وطرقه أدت به إلى ما عرف فيما بعد بالفشل لكنه حقق توطن أبناء البادية وقيام هجر جديدة واستقرار سكاني.. المهم.. قد غاب القصر وغاب الحراج وغابت وجوه وضاعت الوجوه الحية وسط زحام التمدن.. هناك إلى الشمال منه حيث نخلات (الجوخا) ذلك المورد القديم. تقزمت قامات النخيل وضاع (العد) وتفرق الورد.. هناك وقبالة الجوخا حيث تلتئم الوجوه ضحى وعند انكسار ظل العصر كل يوم لتستعذب بأحاديث (أبو علي) عليه رحمة الله.. إنه (فريح الفريحي) وتلك الوجوه الطيبة النقية والتي تحمل قسمات البشر والخير..
قد سمّو هذا المكان ب(صوت العرب).. قد كان المنتدى وملتقى الأحبة والأصحاب وتروى منه وتنقل إليه الأخبار (من بدو ومن حضر).. أرى عبدالله العبوش تغمده الله بواسع رحمته والوقار الذي يجلله وشخصيته الهادئة.. الرصينة والتي جعلتني اكن له الكثير من المحبة والتبجيل منذ عرفته وأرى الوالد علي العرمان أطال الله في عمره وما يتحلى به من أدب جم وطيبة قل مثيلها في هذا الزمان ومشاكسات وملح وطرائف إبراهيم الحمد وصوت (الشحتوت) رحمهما الله في مناداته على بضاعته من (اللزقات والعلوك الخ) وغيرهم من وجوه غيبتهم الأيام عنا ففقدناهم وبفقدهم تغيرت الكثير من الامور ورحل عنا الأنس وغادرتنا مواكب آبائنا واعزائنا مثلما غادرت اسراب القطا موارد مائها وفقدنا مجالسهم ومجالستهم والتي كانت مدرسة للتربية والسلوك والرجولة.
كنت ذلك المساء أراهم أمامي تتراقص قاماتهم بين ناظري.. يزهرون في وجداني وأصواتهم تصافح أذني.. أرهف السمع لكن مرافقي ايقظني من لذة حلم عشته للحظات وقطع على تراسل الصور وطوح عن جسدي (غطاء الدفء والذي وجدت جسدي ومشاعري تلتحفة)، بأن سألني وماذا بعد هذا الصمت؟؟ هل سيطول بك المقام هنا..؟؟ ماذا رأيت؟؟ وماذا سمعت؟؟ لم أجبه. صمت اطبق علي. ووجع أرسل سهامه صوب خاصرتي.. ودمعة تحدرت لم أقو على إيقافها.. إنه يا صاحبي حلم وجدت نفسي أعيشه في لحظة صحو.. يا له من حلم رائع وجميل حين ترى من تحب بعد غياب طال.. وهمّ كساني من الرأس وحتى موطئ القدم.. الحلم شق عباءة النسيان فاعادني إلى موطن الذكريات.
صوت يردد (راكب واحد.. طريف) إنه صوت (روثان) رحمه الله (مدلل سيارات الأجرة) قد غابت قامته ودرست خطاه وهو يجوب السوق بحثا عن راكب واحد ليكتمل عدد الركاب.. كانت هنا محلات تجمع كل ما يبحث عنه المتسوق من الخضار والكماليات بدءا من (الإبرة) (والبيتون) و(الدافور) و(السمن) و(الملابس) وغيرها في محل واحد انطلاقاً من دكان (الصبرات) و(اللعيط) و(أبوفهد) و(العموري) و(العراقي) وغيرهم وغيرهم من الأشقاء من الأردن الذين قدموا للقريات وكانوا تجاراً هنا لسنوات طويلة.. وإلى جوارهم تنتصب دكان احد أبناء القريات (أبو بشير. سعود العسكر رحمه الله) وأنس مجلسه والذي هو مكان لقيا الجميع ومنادمته التي لا تملها.
في المرتفع كان الجامع الكبير المبني بالحجر و(المئذنة) تعلو وصوت (أبو ناشي).. مبارك الناشي الجويهل رحمه الله يرفع أذان الظهر.. كانت المحكمة الشرعية تجاوره من الشرق وجوارها مطحنة الملح والى الغرب من الجامع (إدارة الجمرك).. وبمحاذاة الجامع اول مكتبة (الفلاح) الثقافية المدرسية التي أسسها الاستاذ إبراهيم حبرم بهدف نشر المعرفة اذ كان يأتي بالمجلات والكتب من الأردن وبيروت لتشكل ينبوعاً متدفقا للثقافة والمعرفة، وهناك إلى الجنوب الشرقي في موقع (جامع ابوشتيوي) كانت تضع وزارة المالية (الكازخانة.. بهدف توفير الوقود من كيروسين وبنزين ووقود الطائرة وغيره من المحروقات) والى الشرق من القصر كانت مولدات الكهرباء والعائدة ملكيتها ل(على الوادي) تضيء منازل المدينة للقادرين من الأهالي في وقت كانت مدن أكبر من القريات تنام بعد غياب الشمس وقد خصص يوم للكهرباء اسبوعياً وذلك لاعمال الغسيل وكي الملابس إذ تأتي الكهرباء طيلة ذلك اليوم.
مواقع لها ذكرى.. قال صاحبي محاولاً ابعادي عن كل شيء.. لا يريدني أن أتذكر.. مختصراً الشريط.. نعم قد كان وقد كان فما الذي تريد أن تصل له؟؟ هل يفيدك التذكر؟ هل ستبقى تقتات على الأمس وصوره؟؟ اجبته وبحسرة.. هل تعلم ما تعنيه لي هذه الاشياء؟؟ إنها ذاكرتي التي أتنفس منها وبها.. قد لا تعني لك.. أنت شيئاً.. ليست لها دلالات عندك ولكنها بالنسبة لي تعني الشيء الكبير والكثير.. شواهد حية.. وذاكرة مدينتي لم تمت.. بل باقية معنا.. تعيش فينا.. وبنا.. إنها خالدة.. أطالعها كل حين.. أرى تفاصيلها كلما قادتني الخطى صوب تلك الاماكن.. في كل ركن حكاية.. وفي كل طوبة طين صورة وما بين الصورة والصورة وجوه ووجوه.
لتعلم بأن يومك الحاضر هو امتداد للأمس بكافة أشكاله وصوره وأن تغير الكثير فإن ذلك لا يعني نسيان ما كان حيا هنا ونبضاً هناك.. إنها تعنّ من ذلك الأمس وجذور الحاضر ترتوي من ذلك النبع والشجرة التي نتفيأ ظلها اليوم هي تلك النبتة التي غرسوها وسقوها وتعبوا عليها بالأمس فقد زرعوا ونحن اليوم نتفيأ الظلال.
غداً الحلقة الثانية
|