مضت سنون عجاف على بلادنا، بما حملته من تهم وويلات انقلبت فيها موازين كثيرة، وتبدلت فيها أسارير عديدة، واختلطت فيها قيم ومبادئ، حتى عز على ذوي الألباب أن يفهموا، جيداً، كل خيوط المشكل المجتمعي الذي سماه العالم (الإرهاب). ولم أكن أخشى كثيراً على مجتمعي من الإرهاب؛ لأنني أرى فيه رجالاً قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأنهم سينتفضون للذود عنه والذب عن حياضه مما يلفّق حوله من تهم وأكاذيب، وما يراد له من هجوم واختراق. لكن المشكل المعاصر ليس في هذا، بل في رجال كانوا من المحسوبين معنا، فإذا هم فجأة يتحولون علينا عوناً للزمن الذي جارت علينا فيه كتل بشرية وكيانات محلية ودولية. تقلبت بهم الأحوال، حتى لم نعد نعرف الذي يريدونه منا، ويتمنونه لنا. الدكتور خليل الخليل (الأكاديمي السعودي من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) جاء مؤخراً ليهاجم المؤسسات الدينية في المجتمع السعودي في مقال نشره في جريدة (الشرق الأوسط) في عددها الصادر في 29-4-2004م بمقال عنوانه (مؤتمرات ومواقف للبراءة...)، لتكون الكبوة الأكبر عندي للرجل. ولي حول هجوم الدكتور خليل الخليل على المؤسسات الدينية وقفات، مع التأكيد على أنني هنا لا أتخذ موقف المدافع عن تلك المؤسسات إيماناً مني بأن جميع مؤسساتنا الثقافية الاجتماعية بحاجة اليوم إلى التقويم والمراجعة الشاملة، ولكن ليس بالآحادية التي جاء بها مقال الدكتور خليل الخليل، وليس بالأسلوب الذي أراد به أن يختزل المشكل المجتمعي المعاصر في المؤسسات الدينية.
الوقفة الأولى: يعجب الدكتور خليل من أن تقوم مؤسسات المجتمع بتنظيم مؤتمرات يظن أنها تعقد للبراءة من الإرهاب، وفي استنكار لما ذهب إليه، أقول: (نعم) لو لم يكن من عقد هذه المؤتمرات إلا البراءة من الإرهاب، فنحن نبرأ منه ونعقد كل التفاعلات لنقول للعالم كله إننا بريئون من الغلو والتطرف والإرهاب، فكراً وسلوكاً. وإن كان الدكتور خليل لا يجد حماساً للبراءة من ذلك فهذا شأنه.
الوقفة الثانية: يرى الكاتب أن المجتمع قد تسامح، ولعقود مضت مع الفكر الراديكالي، وفي هذا التوجه (الراديكالي أيضاً) لدى الكاتب ملحوظات، أهمها:
أولاً: أن اتهام المجتمع كله بهذا التعميم أمر تنقصه الحكمة وتعوزه أسس الفهم والإدراك الحصيف لطبائع الأمور، ذلك أن الرجل - ربما - لم يكن يعرف أن ما سماه (الفكر الراديكالي) إنما وجد في المجتمع الإنساني قاطبة وفي المجتمع السعودي كرد فعل طبيعي لفكر آخر منافس جدا وهو الفكر الليبرالي المتحرر الذي كان له وجود كبير في مقابل مجموعة أخرى من التوجهات الفكرية والسلوكية المتمايزة شكلاً ومضموناً.
ثانياً: أنه مع التسليم بإمكانية وجود مظاهر لتوجهات فكرية مختلفة، فلم يكن أي من الأفكار المتطرفة أو (الراديكالية) اليمينية أو اليسارية، هو المسيطر على واقع المجتمع السعودي، بل يتبع معظم الناس ومعظم المؤسسات المجتمعية فكراً إسلامياً وسطياً، وهو المنهج الذي استطاعت معه المملكة العربية السعودية أن تحقق المعادلة الصعبة في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، في أنموذج رائع لم يُسبق في العصر الحديث.
ثالثا: أن اختزال المشكل المعاصر في مجتمعنا في سبب واحد (وهو المؤسسات الدينية) لأمر يثير القلق من أن مثل هذا التقويم للمشكلة لو صارت له السيادة سيكون مصدر ضلال كبير، وذلك ليس دفاعاً عن تلك المؤسسات، ولكن انطلاقا من أن مركبات المشكل المجتمعي المعاصر متعددة جداً ومتنوعة بالقدر الذي ربما لم يتمكن الدكتور خليل من تصوره كاملاً، وقد أوردت في زاوية (من أين أتينا) التي شرفت بنشرها في هذه الجريدة، خلال الأشهر الستة الماضية، أكثر من سبعين سبباً دولياً ومحلياً ساعدت على تكوّن ثقافة الاختراق لكياننا الثقافي الاجتماعي.
الوقفة الثالثة: عرفت الدكتور خليل - للسنوات الأخيرة التي مضت - محسوبا على المنظومة الدينية (المؤسسية) في المجتمع، ومدافعاً متحمساً للتوجه الديني السائد، وفي المؤسسات الدينية والثقافية السعودية في الخارج بشكل خاص، لما كان له من صولات وجولات في مجال دعم المؤسسات الدينية العاملة في الخارج. وكنت أتمنى أن يقدم الدكتور خليل في مقاله ذاك معلومات حول الكيفية التي كان يدير بها المؤسسة (الدينية) التي كان يشرف عليها في أمريكا لسنوات عديدة، وهل كانت إدارته (إدارة راديكالية) أم أنها غير ذلك؟ وهل تلك المؤسسة محسوبة ضمن المؤسسات الدينية التي يتحدث عنها الدكتور خليل في مقاله، أم أنها كانت شيئاً مختلفاً؟ وهل كانت تتسم بسمات المؤسسة الدينية السعودية، أم أن لها سمات أخرى، ومناهج أخرى، وبلغة مختلفة؟ ماذا كان يفعل الدكتور خليل هناك بالضبط؟
الوقفة الرابعة: جاءت القارعة في مقال الدكتور خليل بهجومه الموغل في الذاتية على جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقد كان متوقعاً أن يختم الدكتور خليل مقاله بهذا الهجوم؛ لأنه حيث بدأ بالمؤسسات الأكثر احتراماً في المجتمع السعودي وهي المؤسسات الدينية، فسيأتي هجومه على الجامعة تبياناً للموقف المشكل الذي اعترى الرجل حتى وجد حقاً ان يهاجم الجامعة الوحيدة التي انتفضت لتهاجم الإرهاب شكلاً ومضموناً في مؤتمر عالمي هو الأول من نوعه. مع الإشارة مرة أخرى إلى أن جامعاتنا (كل جامعاتنا) بحاجة ماسة جداً للمراجعة الشاملة والتقويم، ولكن ليس جامعة دون أخرى، كما لذّ للدكتور خليل أن يوجه هجومه، ويلمز بخطابه، حيث لا يعرف - ربما - أن الجامعات السعودية تعمل وفق (اللائحة الموحدة للدراسة والاختبارات) في المرحلة الجامعية، و(اللائحة الموحدة للدراسات العليا) في الدراسات العليا، وكذا اللوائح التنظيمية لشؤون العاملين في (الجامعات) من أعضاء هيئة التدريس ومن في حكمهم.
الوقفة الخامسة: عندما يشير الدكتور خليل إلى أن الجامعة لم تنظم خلال ثلاث سنوات أي نشاط لمواجهة الإرهاب فهذا غير صحيح، وهو قول تنقصه المعلومة الدقيقة، فقد نظمت الجامعة عدداً من المناشط العلمية المباشرة التي تمت في شكل محاضرات عامة، أو زيارات لعلماء وأساتذة متخصصين، أو برامج شبابية متنوعة ومتسقة مع الضرورات التربوية والتعليمية المعاصرة، مما لا يعرف عنه الدكتور خليل شيئاً بالتأكيد، كما تم تسجيل عدد من موضوعات الماجستير، والدكتوراة لمواجهة هذه المشكلة كظاهرة من الظواهر الجديرة بالبحث والدراسة، وذلك في عدد من كليات الجامعة ومن بينها كلية الدعوة والإعلام التي أشرف بعمادتها.
الوقفة السادسة: على الرغم من أن الدكتور خليل يعد أستاذاً أكاديمياً إلا أن حكمه على حضور أعضاء هيئة التدريس بالضعف، جاء خالياً من أي دليل علمي، وقد يكون فات على الدكتور خليل أن جلسات المؤتمر كانت تعقد في أربع قاعات متزامنة للرجال وأربع أخرى للنساء، لم يقل الحضور فيها كلها عن الحضور في أي مؤتمر آخر نظمته الجامعة أو غيرها من مؤسسات المجتمع. ولست أدري من اين استطاع الدكتور خليل أن يحكم على مستوى الحضور في كل تلك القاعات في جميع فعالياتها؟!! وأعتقد أن هذه الحقيقة كفيلة بالرد على أن الحكم على مستوى الحضور لم يكن موضوعياً على الإطلاق.
الوقفة السابعة: فات الدكتور أن يتابع التغطية الإعلامية العالمية للمؤتمر والتي - إضافة إلى التغطية التقليدية في الصحافة والإذاعة والتلفزيون - قد تجاوزت ثلاثمائة مليون رسالة بريدية عالمية بخمس لغات هي العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية. إضافة إلى أكثر من مائة ألف رسالة عالمية أخرى تم إرسالها لمواقع متعددة الاستخدام والانتشار بملايين الأرقام شملت وكالات الأنباء العالمية والمنتديات والمواقع الرسمية الحكومية والخاصة، وهذا إضافة إلى زوار موقع المؤتمر على الشبكة الذين تجاوزوا ثلاثين ألفا، وكل هذه المعلومات موثقة بالأرقام والإحصاءات، ولعلي أطلب من الدكتور خليل أن يطرح أنموذجاً آخر (ليس في المملكة فحسب ولكن على مستوى الشرق الأوسط) لمؤتمر نظمته أي جامعة شرق أوسطية وبلغت رسالته أطراف الدنيا مثلما حصل لمؤتمر (موقف الإسلام من الإرهاب).
الوقفة الثامنة: يثبت الكاتب مرة أخرى ضعفاً في فهم الأمور حين وصف المنظمين للمؤتمر ب(الهواة) حيث لم يتبين أن الجامعات في كل اصقاع الدنيا هي التي تخرج الكفايات لمعظم مؤسسات المجتمع الأكثر احترافية في معظم التخصصات. ومن العجيب ان تفوت هذه الحقيقة على رجل محسوب على الأكاديميين، بل إن أكبر المؤسسات العاملة في المجتمع السعودي في القطاعين العام والخاص تستند إلى مستشارين متفرغين وغير متفرغين من أساتذة الجامعات وتقوم بتصميم برامجها وفقا لتوصيات هؤلاء المستشارين. وقد تشكلت اللجان المنظمة للمؤتمر من أكثر العاملين في الجامعة كفاية علمية ومهنية، كما عمل في اللجنة العلمية للمؤتمر عدد من أكبر أساتذة الجامعة رتبة علمية وخبرة تراكمية تتجاوز العشرين عاما، وعمل في اللجنة الإعلامية أيضا أكثر من عشرين عضواً احترافياً من الكفايات العلمية والمهنية من الجامعة ومن خارجها (من المؤسسات المهنية) ممن أعتقد أن الدكتور خليل لا يعرف أكثرهم. يضاف إلى ذلك مساهمة خمس شركات ومؤسسات كبرى في دعم المؤتمر ومساندته.
الوقفة التاسعة: جاء افتراء الكاتب على بحوث المؤتمر وعلى توصياته، بالشكل الذي أجد حرجاً حتى في مناقشته؛ ذلك أن البحوث والتوصيات منشورة على موقع المؤتمر، وفي مطبوعات كثيرة أخرى، ومتاحة للجميع، ولكل من أراد أن يعرف الحقيقة أن يدخل إلى الموقع الذي لا يزال يعمل (استمراراً لرسالة المؤتمر) ليجد بنفسه أنه في حين جاءت البحوث لتعبر بصدق عن الآراء المتعددة والمتنوعة لأصحابها، فقد خلص المؤتمر إلى جملة من التوصيات البناءة التي من شأنها المساهمة باقتدار في تعريف الناس بموقف الإسلام من الإرهاب، ومواجهته، بالقدر الذي لن يتمكن الدكتور خليل معه من حجبها أو القفز عبرها ليمرر شيئاً مما لديه - ربما - من مواقف مسبقة.
الوقفة العاشرة: مرة أخرى يحاول الكاتب استدرار ولاء القراء عبر إظهار وصايته على واقع الجامعة ومستويات الرضا الوظيفي فيها متجاهلاً أن الجامعة ليست إلا واحدة من مؤسسات المجتمع الخاضعة لنظام وزارة الخدمة المدنية وأن أبسط مبادئ علم الإدارة العامة يربط مستويات الرضا الوظيفي - إذا سلمنا جدلاً بما ذهب إليه الكاتب - بالنظام العام الذي تخضع له مؤسسات المجتمع كافة، وهو ما لم يجرؤ الدكتور خليل على تناوله، كما يبدو.
الوقفة الحادية عشرة: يأتي التساؤل الاكثر غرابة في نهاية المقال حيث يتساءل الكاتب عمن يكون السبب في كل مظاهر البلاء التي يعتقد بوجودها ليلمح إلى أن المؤسسات الدينية هي التي وراء ذلك وليؤكد من جديد وحدوية في منهج التفكير، وعزوفاً عن الرؤى الاستراتيجية التي تصب في الصالح العام، متناسياً أنه ربما كان الداء الأعم والأشمل هو في وجود نماذج من الافراد والمؤسسات التي تسعى لتحقيق ما تعتقده وتبتغيه من مصالح ذاتية، مستغلة جملة من الظروف ومحاولة امتطاء أكتاف الأفراد والمؤسسات من أجل الوصول إلى حيث المبتغى.
الوقفة الثانية عشرة: مما يثير الغيرة أن سوى الدكتور خليل ممن نحسبهم لا ينتمون لنا ولا يعنيهم أمرنا كثيراً، يكونون أكثر إنصافاً لمجتمعنا المكلوم، من بعض أبناء جلدتنا، ومن هؤلاء الكاتب والأكاديمي المعروف مقتدر خان الذي كتب مقالاً مطولاً تناول فيه تنظيم الجامعة للمؤتمر، وكان مما قاله: إن المؤتمر يعد نقلة نوعية في إشاعة ثقافة الحوار والتسامح وجهداً علمياً منظماً لمعالجة إشكالية العنف والتطرف والإرهاب. يقول ذلك وهو الذي أورد جملة من الموضوعات والقضايا العامة الأخرى التي يختلف فيها معنا (جميعاً) ولكن في سياق توازني عقلاني عز على الدكتور خليل الخليل.
أخيراً، تحية لكل محب لمجتمعنا العربي والإسلامي.
|