Thursday 27th May,200411564العددالخميس 8 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

فيض الضمير فيض الضمير
إلى جمعية حقوق الإنسان من يحمي الأطفال من إيذاء وتعذيب الوالدين ؟!
د. محمد أبو بكر حميد

ما نسمعه من قصص عن تعذيب وإيذاء الأطفال من قبل آبائهم أو معلميهم تحت مسمى التربية والتأديب تقشعر له الأبدان ، وما تنشره الصحف يومياً عن حالات العقاب البدني الذي يتعرض له الأطفال على يد آبائهم وأمهاتهم يفوق الخيال في أجسادهم الصغيرة ، وفي المستشفيات أطفال تكسرت ضلوعهم أو أيديهم أو سيقانهم ، ومنهم من فقد السمع أو البصر أو تعرض لعاهة في عقله ؛ بسبب الضرب الغاشم المبرح من أحد الوالدين أو من كليهما ، وهناك مَنْ ضرب طفله حتى الموت !
ان هذا النوع من الآباء يرفضون تماماً تدخل جار أو قريب استنكر قسوتهم على أطفالهم فتدخل بالنصح ؛ ظناً منهم ان أطفالهم ملكاً خاصاً بهم يفعلون بهم ما يشاءون ، متناسين انهم أيضاً أمانة في أعناقهم ، وأول واجبات هذه الأمانة (الرحمة) .. وقد غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذين قالوا له إننا لا نقبل أطفالنا ولا نلاعبهم وقال لهم : (مَنْ لا يَرْحَمْ لا يُرْحَم) . فما الذي كان سيقوله لو علم بالذين يعذبون أطفالهم ويؤذونهم ويورثونهم عاهات مستديمة في أجسادهم ؟!
فهل يعتقد هؤلاء ان هذا النوع الفاحش من العقاب البدني تربية ؟ وهل أنواع العقاب كافة حتى أقلها إيذاء يؤدي إلى نتيجة أخلاقية ؟
رغم ان العقاب البدني يعد أقدم وسيلة مارسها صاحب السلطة في الجنس البشري ؛ لغرض (السيطرة) وتعلم (الانضباط) ، إلا انه على مدى القرون والعصور لم يثبت جدواه في تحقيق الهدف التربوي منه ، تشهد الدراسات الميدانية في العلوم السلوكية ان الكثير ممن يقال لهم (أصحاب السوابق) في السجون ، هم إما من الذين تعرضوا للإيذاء والعنف والعقاب البدني في طفولتهم من الوالدين ، أو هم من الذين تعرضوا للتعذيب والإهانة عند دخولهم السجن لأول مرة أو ممن اجتمعت فيهم الصفتان معاً .
وإذا كان العقاب البدني يؤدي في بدايته إلى نتائج إيجابية سريعة ، فانه لابد من الإدراك ان هذه النتائج لا تطول كثيراً ، بل تظل مؤقتة مدتها فترة التألُّم واستشعاره ، فإذا انتهت جاءت مرحلة الخوف منه ، لكن الخوف من الألم لا يؤدي إلى الانضباط المستمر ، بقدر ما يؤدي إلى التحايل على صاحب الصلاحية باللجوء إلى الكذب والخداع والمكر . فالذين يتعرضون للتعذيب البدني يعترفون بما لم تقترفه أيديهم ؛ فيجبرون على الكذب ويتلقون على أيدي جلاديهم أقوى الدروس في تعلم الكذب وأقساها .. وكذلك الطفل الذي يُعاقب جسدياً في المدرسة أو البيت يتلقى أول دروس الكذب على أيدي والديه أو معلميه وذلك للهروب من العقاب البدني ، إذ لم يعْلَق في ذهنه انه يجب ان يتعلم (الانضباط) بتجنب الأخطاء التي ارتكبها ، بقدر ما علقت في ذهنه الآثار المؤلمة للعقاب البدني الذي تلقاه ، فانشغل بمسألة تجنبه بأية وسيلة .
فليس عبثاً ان تقرر المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تحريم تعذيب المساجين أو انتزاع الاعتراف منهم بالإيذاء الجسدي ، وهو الشيء نفسه الذي تدعو إليه أساليب التربية الحديثة بمنع الضرب في المدارس وتحذير الوالدين من العقاب الجسدي للأطفال .
أثبتت الدراسات التطبيقية في المجالين النفسي والاجتماعي ان العقاب البدني بما فيه من تدمير للشخصية وإهدار للكرامة الإنسانية يهدم الثقة بين الأبناء والوالدين ، ويعلم العنف ويزرع في أذهان الناشئة إذا ما كبروا ان الإصلاح لا يتم إلا بالقوة ، ويلغي لغة الحوار والتفاهم ، حيث يعجز الذين يلجأون للعنف في التأديب والتربية عن التفاهم مع المخطئ ومحاورته حتى يفهم نوع الخطأ الذي وقع فيه .
ان الطفل الذي يخطئ ويكرر الخطأ نفسه يكون قد عوقب على الخطأ الذي ارتكبه ، لكن أحداً لم يهتم بمحاورته وإفهامه بهدوء نوع الخطأ الذي وقع فيه ، ولم يعلمه أحد كيفية تجنبه فينشأ لا يعرف لغة للتفاهم إلا القوة والعنف والعقاب الجسدي ، فيكون لذلك عواقبه الوخيمة على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع .وتشير الحقائق النفسية إلى ان الكثير من الآباء والأمهات والمعلمين الذين يتجاوزون حدود الرحمة والإنسانية في العقاب البدني للأطفال ، ويصلون إلى درجة التعذيب بالإيذاء والقسوة هم مرضى نفسيون لا يؤتمنون على أطفالهم ؛ لانهم ينتقمون - لا شعورياً - من آبائهم ومن المجتمع الذي عانوا فيه هذه القسوة في شخص هؤلاء الأطفال الأبرياء .ان تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف التي تحث على الرفق بالحيوان لا بالإنسان وحده ، ناهيك عن اهتمام هذا الدين بالطفل والطفولة ، فضلاً عن مؤتمرات حقوق الطفل وجمعيات الأطفال والدراسات والأبحاث التي تحذر من إيذاء الأطفال وترصد عواقب ذلك على جيل المستقبل ، لم يعد كل ذلك بكاف لردع هذا النوع الشاذ من الآباء ، بعد ان اصبح العنف الأسري ضد الأطفال ظاهرة عالمية لا محلية أو إقليمية فحسب .هذا النوع من الأطفال - بحق - هم أسوأ حالا من الأيتام ، فاليتيم محروم من عطف وحنان الوالدين ويعوضه عنه كل المجتمع ممثلاً في دُور الأيتام ، أما هذا الطفل الذي يتعرض للإيذاء في كنف والديه فهو يتيم من درجة أسوأ ؛ لأنه ليس محروماً من الحنان والرحمة فحسب ، بل يُعذَّب بأيدي من يفترض ان يكونون أرحم الناس به ، ويحدث ذلك دون علم دور الرعاية الاجتماعية والجهات المهتمة بحقوق الطفل ورعايته .
ان هذا النوع من الأطفال بحاجة إلى بيوت مستقلة تؤويهم ، أشبه بدور الأيتام أو دور الرعاية الاجتماعية إذا ما فشلت وسائل توعية الوالدين بأساليب التعامل معهم .
ولكن السؤال : من سيقوم بهذه التوعية ؟ وكيف تصل للذين لا يقرأون الصحف والكتب ؟ وإذا فشلت وسائل التوعية من سيحمي هؤلاء الأطفال من آبائهم ؟ وهل سيتم اللجوء للجهات القضائية بسحب هؤلاء الأطفال من أسرهم بعد ثبوت عدم أهليتهم لرعايتهم ؟
اعتقد انه لابد ان يكون لجمعية حقوق الإنسان دور عملي في هذا ، يتم التنسيق فيه مع جمعيات الأطفال ووزارة الشؤون الاجتماعية والمستشفيات التي يجب ان تبلغ عن حالات الأطفال التي تصلها بسبب العنف والتعذيب الأسري ، ولابد من تجاوز مرحلة المؤتمرات والندوات والأبحاث إلى مرحلة تتحول فيها كل نتائج دراسات (العنف الأسري) إلى واقع يخدم الطفل .. وبالتالي يخدم المستقبل الذي نريد - بإذن الله - .


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved