الخروج من دوامة الصمت (المجتمعي) عما حدث ويحدث من اعتداءات على الأنفس والممتلكات كان هاجس الأمير عبدالله بن عبدالعزيز عندما وجّه كلمته إلى مجموعة من أساتذة الجامعة والمثقفين الذين قدموا للقاء سموه.. وفي هذه الدعوة للخروج من تلك الدائرة إشارة واضحة إلى أن المجتمع لا يحتمل التراخي في تبيان الحق والحقيقة وتفنيد كل الأعمال والأقوال المارقة التي تتخذ من العنف والغلو والتطرف والإرهاب مداداً لها، ومن أجمل ما في هذا التوجه من قِبل الأمير للأساتذة والمثقفين والخطباء وأئمة المساجد، أنه توجيه مستند إلى منطلقات معرفية عميقة جداً في عملية الاتصال الإنساني.. ذلك أن الخوف من مخالفة ما يعتقد البعض أنه سائد لدى جماعة من الجماعات، يدفع عدداً من أفراد تلك الجماعات للصمت، وعدم المشاركة بالرأي وتفنيد اتجاهات أو سلوكيات معينة، واستناداً إلى هذا المنطلق البسيط، تشكَّلت واحدة من أهم نظريات الاتصال الإنساني.. (دوامة الصمت)، نظرية مهمة جداً لها علاقة وثيقة بتكوّن الرأي العام، طوّرتها باحثة ألمانية اسمها (إليزابيث نيومان) Elisabeth Noelle - Neumann عام 1974م، وتقوم هذه الرؤية على أنه في حين تتخذ وسائل الإعلام والاتصال جانباً متسقاً من قضية أو مشكلة مجتمعية، فإنه من المتوقع أن يؤدي ذلك إلى تبني معظم أفراد المجتمع للاتجاه ذاته وتأييده بحثاً عن التوافق المجتمعي، والتلاحم مع القضايا المصيرية التي تتبناها وسائل الإعلام.. وفي ضوء ذلك فإن الأفراد المعارضين لهذه القضية يتخذون موقف الصمت، وإذا عمّ الصمت فئة مجتمعية معينة، أو جماعة من الجماعات، فإن ذلك مؤشر على أن الرأي المعارض للسائد في المجتمع الكبير قد يصدق على كل عناصر تلك الفئة أو الجماعة، ومن هنا جاء توجيه الأمير عبدالله بن عبدالعزيز بأن من يصمت عن كشف وفضح المارقين والمجرمين سيُعد منهم، وهو أمر طبيعي، لأن الراضي عن الفعل كالفاعل.. اليوم، كل مؤسسات المجتمع وأفراده مدعوون للحديث العلمي الموضوعي الصادق، الملتزم بمنهجية إسلامية وسطية، وبعقلية راشدة، وبفهم حصيف للأمور من أجل تفنيد فكر وسلوك العابثين بمقدراتنا ومكتسباتنا.. كل الجهات المعنية بالشأن المجتمعي، أفراداً ومؤسسات، مدعوة اليوم لإجابة نداء الأمير ولتحقيق مقتضيات المصلحة الوطنية الكبرى.. المساجد في مجتمعنا، مؤسسات تربوية ثقافية من الدرجة الممتازة، ولذا على كل من يُعنى بشؤونها مسؤولية عظيمة أن يقول ولا يصمت، وأن يبيِّن ولا يتجاهل، ولكن وفق منظومة واضحة أتمنى أن تصل إلى درجة العمل المؤسسي الكامل الذي تتبناه وزارة الشؤون الإسلامية ليتم - فعلاً - تحويل منابر المساجد إلى وسائط للتربية والتعليم المجتمعي المنظم، والخالي من اجتهادات الأفراد مهما ظنوا بلوغهم من درجات الفهم والإدراك، ذلك أن المنبر ليس مكاناً للرأي، ولكنه موقع عظيم لبيان الحكم الشرعي، ومن هنا لزم الاعتناء الكبير بأسسه التنظيمية وفق المنظور المؤسسي القائم على ثوابت هذه البلاد.. وفي المرتبة الثانية يأتي أستاذ الجامعة ويأتي المعلمون، الذين يجب أن يكونوا حلقة صالحة في منظومة مجتمعية كبيرة من دوائر التربية والتعليم.
|