الجامعات صروح مضيئة تنشر نور العلم والمعرفة، وتفتح أبواب التفكير المستقيم والرؤية السليمة، وترعى القيم والمبادئ، وتربي الأجيال على المعلومة الموثقة، والمعرفة المدعومة بالدليل، وتقضي بذلك على الشبهات التي تدفع بالعقل البشري إلى الانحراف، والتطرُّف، والغلو، وتسوقه إلى الشك والاضطراب والشطط في تفكيره، وإذا لم تقم الجامعة - أي جامعة - بهذه المسؤولية العلمية الكبيرة خير قيام، فإنها تفقد قيمتها، ودورها الحضاريّ في البناء. حينما زرت جامعة أم القرى في مكة المكرمة قبل أسابيع، شعرت أنني في ساحة علمية تستحق التقدير؛ لأن مظاهر التنظيم، والتنسيق، والتطبيق الجيد للأنظمة تتحدث بلسان الحال حديثاً يسر من يعرف قيمة سعة الأفق في تطبيق النظام مع الدِّقة والمتابعة الجادة.
لقد شعرت بأن (جامعة أم القرى) تخطو خطوات جادة في طريق التطور المدروس القائم على تحقيق مبدأ (البقاء للأصلح)، وإتاحة الفرصة لمن يعمل ويعطي وينتج، مع مراعاة التكافؤ في إعطاء الفرصة لمن يملك طاقة تحقق للجامعة ما تريد. هذا ما شعرت به، وأنا أجالس عدداً من المسؤولين وأعضاء هيئة التدريس في الجامعة، وأستمع الى بعض طلاَّبها، ولقد سرَّني ذلك، لأننا في مرحلة تحتاج إلى تنظيم العمل، وتوجيه الطاقات، واستثمار القدرات بإنصاف وموضوعية لبناء الإنسان الذي تنتفع به الأوطان.
وقد لفت نظري نشاط ثقافي دؤوب في الجامعة يتمثل في إقامة الندوات والمحاضرات، ومهرجانات التكريم لرواد العلم والمعرفة، وهذا النشاط ذو أهمية كبيرة في تحقيق جزء من رسالة الجامعة يتجاوز حدود (المحاضرات) الخاصة بالمقررات والمناهج، إلى فضاء التفاعل مع المجتمع الذي يحتاج إلى علم الجامعة ومعرفتها وثقافتها.
حينما دخلت إلى القاعة الكبرى في مبنى جامعة أم القرى في حي العزيزية بمكة المكرمة (قاعة حسن آل الشيخ- رحمه الله-)، أسعدني ما رأيت من ذلك الحضور المبارك من مسؤولي الجامعة وأساتذتها، وطلابها، لأنه أكد لي ذلك الشعور الجميل نحو هذه الجامعة العريقة، جمهور كريم، كان ينتظر عزف الكلمة الشعرية ونزْفها، وكان يؤكد بحضوره وتفاعله أنني أمام جمهور متذوّق ناقد، قادر على تمييز الجيد من الرديء، وهذا الجمهور يسعد من يخاطبه، لأن المحاضر أو الشاعر أو المفِّكر يشتاق إلى مجالسة أصحاب الدراية والمعرفة الذين يدلُّونه على مواطن الجودة أو غيرها فيما يقدِّم لهم.
في جامعة أم القرى كان الإحساس عميقاً بعراقة تاريخنا ومبادئنا، وكيف لا يكون كذلك، ونحن نجلس في صرح علمي كبير من صروح العلم في بلادنا العزيزة، ونكاد نصافح مواقف التضحية والفداء، والثبات على الحق التي وقفها أفضل الخلق محمد بن عبدالله- صلى الله عليه وسلم- في تلك الرحاب الطاهرة ومعه الكوكبة الأولى من أصحابه السابقين إلى الإسلام، ونكاد نسمع صوت بلال بن رباح في بطحاء مكة الملتهبة يردِّد والصخرة على صدره العامر بالإيمان (أحَدٌ، أحد).
ونكاد نسمع زفرات ياسر وسمية وهما يعانيان من جبروت المشركين وقسوتهم وتعذيبهم الذي يكاد يساوي تعذيب المحتل الأمريكي لسجناء العراق في هذا العصر، وأقول يكاد لأنه لا يمكن أن يكون مساوياً لما يجري على يد دُعاة الديمقراطية الزائفة في بلاد الرافدين، فإن الموازنة تؤكد لنا رقة كفار قريش - برغم قسوتهم - إذا ما قيست بأعمال الجيش الأمريكي القاسية في العراق. في جامعة أم القرى كان اللقاء مميزاً، لأن مكة مميزة عن غيرها، أليست هي أم القرى؟ بارك الله فيها، وفي جامعتها، وتحية خاصة إلى مديرها وأساتذتها وطلابها، وطالباتها.
إشارة:
لأم القرى يشتاق نبض قصائدي
وترنو إليها أعينُ الكلماتِ |
|