*مضواح بن محمد آل مضواح:
أ- انتخاب القضاة: نشأ هذا النظام أول ما نشأ في فرنسا وصدر في ذلك قانون سمي بقانون انتخاب القضاء سنة 1790م، ثم نقلت عن هذا النظام كثير من دول العالم، ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلا ينتخب القضاة من قبل جمهور الدائرة الانتخابية في كل ولاية، وغالبا ما يرشح القضاة أنفسهم تبعا لحزب معين، وتتراوح مدة الانتخاب من سنتين إلى مدى الحياة.
وينظر إلى أسلوب انتخاب القضاة على أنه وسيلة تعزز استقلال القضاء وتزيد من اهتمام المواطنين بالقضاء وثقتهم فيه، لأنه جاء بإرادتهم وفق عملية تضمن أنهم قد اختاروا الأصلح.
لكن هناك محاذير تكتنف هذا النظام، ولا بد من أخذها بعين الاعتبار، منها أن المرشح للقضاء قد ينتخب لأسباب سياسية، وقد ينتخب لأن الذين صوتوا له لا يتمتعون بالكفاية المطلوبة التي تمكنهم من وزن الصفات التي يجب أن يختار على أساسها القاضي، ويذهب المنتقدون إلى حد القول بأن نظام الانتخاب يعد ثالث سبب للهبوط بمستوى القضاء بعد قصر مدة الولاية القضائية والمرتبات المتدنية. يضاف إلى كل ذلك أن الحزبية والانتماء السياسي تتعارض مع الحياد المفترض إلى درجة لا يؤمن معها وصول عناصر غير كفأة إلى مناصب القضاء، وليس القول بعدم انتخابهم مرة ثانية إذا ما بدر منهم سوء التصرف يعد حلا؛ لأن الضرر في هذه الحالة قد وقع، فضلا عن كون التخلص المتكرر من القضاة يؤثر على مجرى العدالة.
****
و من حيث عدم إتاحة الفرصة للقضاة كي يكتسبوا الخبرات والقدرات اللازمة لممارسة أعمال القضاء، كما أن القاضي المنتخب لا يمكنه أن يتجاهل أثر تمسكه بالحيدة والنزاهة على الانتخابات القادمة؛ لأن هذه الحيدة والنزاهة ستضر بمصالح كثيرين ممن انتخبوه وربما يكون من بينهم أشخاص مؤثرون.
ب - تعيين القضاة:
إن حساسية العمل القضائي تجعل المرء يحتار أي الطرق أفضل لشغل مناصب القضاء، وكما رأينا فقد كان مجرد ورود كلمة (انتخاب) يشنف السمع ويطرب الفؤاد، لكن ذلك كاد أن يتبدد كله عند مناقشة سلبيات نظام الانتخاب.
وفي نظام التعيين يمكن الخروج من مجمل القراءات حول هذا الموضوع بعدد من الطرق لتعيين القضاة لا تخلو هي الأخرى من معنى الاختيار، لكنه اختيار مبني على إرادة فرد أو مجموعة قليلة من الأفراد، وذلك بعدة طرق منها:
1- قد يتم اختيار القضاة من قبل لجنة أو هيئة قضائية عليا، أو تقديم اقتراح من هذه الهيئة إلى صاحب الصلاحية باختيار أو ترشيح القضاة، ويتخذ قرارا بتعيينهم، كما هو الحال في المملكة العربية السعودية، حيث يتولى هذه المهمة المجلس الأعلى للقضاء، والذي يتكون من أعضاء تم تعيينهم من قبل الملك، فقد نصت المادة الثانية والخمسون من النظام الأساسي للحكم على أن يتم تعيين القضاة وإنهاء خدماتهم بأمر ملكي بناء على اقتراح من المجلس الأعلى للقضاء.
2- قد يتم تعيين القضاة من السلطة التنفيذية بعد موافقة المجلس الأعلى للقضاء كما هو حاصل في فرنسا، حيث يعينهم رئيس الجمهورية بعد أخذ رأي المجلس القضائي الأعلى، عدا قضاة محكمة النقض الذين يتم ترشيحهم من قبل المجلس.
3- قد تقوم السلطة التشريعية باختيار القضاة وتعيينهم، كما في سويسرا واليابان.
وتأخذ جميع الدول العربية بنظام تعيين القضاة، فبمراجعة التشريعات العربية وأنظمة القضاء فيها يتبين أنه لم تعرف أي دولة عربية نظام انتخاب القضاة، وفي الغالب يتم التعيين من بين الأشخاص المشتغلين في مجال القضاء أو المتخصصين فيه، مثل أساتذة الشريعة والقانون، وأعضاء النيابة والمحامين.
والمناصرون لنظام التعيين يرون أن هذا النظام يحمي القضاة من الضغوط والتأثير عليهم من قبل الشخصيات والأحزاب السياسية والجماهير التي انتخبتهم، فالتعيين يتم حسب معايير المؤهلات ومواد النظام، ومن هنا فلا سلطان لأحد عليهم سوى ضمائرهم، وخوفهم من الله بالنسبة للقضاة المسلمين.
ويرتبط بشغل منصب القضاء موضوع آخر على جانب كبير من الأهمية، بل إنه شرط من شروط القضاء العادل، ألا وهو استقلال القضاء، ونحن نعتقد أن الوجه الأول لاستقلال القضاء يتحقق من خلال الفصل الحقيقي والعملي بين السلطات على ضوء المفهوم الصحيح لهذا الفصل، ويمكن أن يتحقق مفهوم واضح لاستقلال القضاء، وبالتالي نزاهته، من خلال المقابلة أو المضاهاة بين المفهوم الحقيقي للفصل بين السلطات وبين الانتهاكات المحتمل حدوثها لمبدأ الفصل هذا ومبدأ استقلالية ونزاهة القضاء، والتي قد تحدث نتيجة للقصور في تطبيق مبدأ الفصل شكلا ومضمونا، ونتيجة لعدم توفر الحماية الذاتية لاستقلال القضاء والحماية من قبل المجتمع. ولا شك أن الصور المحتمل وقوعها لانتهاك نزاهة واستقلال القضاء كثيرة ومتعددة، سواء تلك الانتهاكات والممارسات التي يمكن أن تتم أثناء نظر القضايا أمام المحاكم، أو تلك التي يمكن أن تتم بعد صدور الأحكام أو القرارات القضائية، أو تلك الانتهاكات الماسة بالضمانات النظامية المعززة لاستقلال ونزاهة القضاء، وبخاصة ما يتعلق منها بضمانات تعيين القضاة ونقلهم وتقاعدهم وعزلهم وتأديبهم، ورغم هذه الكثرة إلا أنه يمكننا تصور بعض الأمثلة لتلك الانتهاكات من قبيل التنبؤ بحدوثها لأخذ الحيطة والحذر من خطرها على النحو الآتي:
1- قد يسعى البعض من الوجهاء والمسؤولين، بل ومن القضاة أنفسهم، للوساطة والتدخل للحصول على أوامر وتوجيهات لتعيين أشخاص كقضاة أو لترقيتهم أو نقلهم أو للحصول على امتيازات مشروعة وغير مشروعة.
وضرر هذا على استقلال القضاء يتمثل في أن القاضي الذي حصل على شيء من ذلك عبر هذا المسلك المشين لن يستشعر في نفسه الاستقلال أبدا؛ لأنه سيصبح مديناً لشخص معين أو جهة معينة بمنصبه القضائي، أو بما حققه من أهداف، وسيظل يستشعر في نفسه نقطة ضعف لأنه لم يحصل على ما حصل عليه بفضل كفاءته وأهليته.
2- قد يسعى بعض الوجهاء والمسؤولين إلى التأثير على سير القضايا أمام المحاكم، أو يحول دون تنفيذ أحكام القضاء ثم عرقلتها.
3- قد يعمد بعض أصحاب القضايا أو ذووهم إلى الاعتداء على القضاة والتهديد بالقوة، وربما يدفع إلى هذا الاعتداء وقوع ظلم بيِّن ناشئ عن الفساد القضائي أو بسبب عدم أهلية القاضي، وفي أي من الحالين فإن على السلطة القضائية أن تتهم نفسها؛ لأن هذا الاعتداء دليل قاطع على تدني نظرة الناس إلى القضاء، وعدم احترام القضاة، وعدم احترام الأحكام والتصرفات القضائية الصادرة عنهم.
4- قد تنتهك نزاهة واستقلالية القضاء من قبل الأجهزة القضائية الرئيسية نفسها من خلال عدم الحرص على حقوق القضاة النزيهين في غمرة الانشغال بتحقيق مصالح القضاة الذين يسلكون لتحقيقها مختلف الطرق الملتوية.
5- قد تنتهك نزاهة واستقلال القضاء من خلال السخرية والاحتقار، فعندما يفقد القضاء سنده الاجتماعي يصبح محل سخرية واحتقار أبناء المجتمع بسبب التناقضات التي تثير هذه السخرية وهذا الاحتقار، وبالتالي عدم الثقة فيما يصدر عنه.
6- قد يسلك بعض القضاة سلوكا مشينا يكرس القناعة لدى أفراد المجتمع بأن القضاء أصبح وسيلة للتكسب والتجارة، كأن ينخرط القاضي في التجارة الإنتاجية أو الاستهلاكية أو العقارية، أو يدخل شريكا من الباطن في مكتب أو أكثر للمحاماة.
ومن هنا تنتهك نزاهة القضاء من قبل بعض القضاة أنفسهم، وينتهك أفراد المجتمع استقلال ونزاهة القضاء بتعميم حكمهم هذا على جميع القضاة، فيحطون من هيبة القضاء ويشككون في نزاهته.
7- قد تتفاقم الانتهاكات إلى درجة تصبح فيها وظيفة القاضي مهنة تشترى وتباع وتورث، وأي شيء أسوأ من أن يشتري شخص وظيفة القضاء كمورد رزق؟!.
إنه إذا ما وجد شيء من هذه الانتهاكات لنزاهة واستقلال القضاء في أي مجتمع فينبغي أن يعد ذلك كارثة تنذر بعواقب وخيمة، وستتعزز هذه الانتهاكات عندما لا تقابل بالردع والعقاب الصارم من قبل أجهزة الدولة أيا كان الانتهاك، ومهما كانت منزلة المنتهِك.
رابعا- إعداد القضاة وتخصص القضاء:
تفرض التطورات الكبيرة في شتى المجالات، والتطورات في مجال السلوك الإجرامي بخاصة، الاهتمام البالغ بإعداد القضاة وتأهيلهم على ضوء معطيات العلم الحديث، إذ من المؤكد أن عملية الإصلاح وإعادة التأهيل سوف تكون ناجحة أو فاشلة بقدر ما يكون الإجراء العقابي أو التدبير البديل صحيحا أو خاطئا، لذلك فمن المهم أن يكون تأهيل القضاة في أي مجتمع تتطلع نظمه إلى مسايرة ركب البشرية في التقدم عبر التنمية الشاملة مشتملاً على العلوم والمعارف الصحيحة المتعلقة بعلم الجريمة والعقاب، سواء تلك المستخلصة من الدين السائد في المجتمع نفسه، أو من معطيات العلوم الوضعية في أي مكان من العالم.
ويأتي على الدرجة نفسها من الأهمية اختيار من سيتم تأهيلهم للعمل في مجال القضاء، إذ لا بد من اختيارهم وفق معايير مقننة تعطي صورة واضحة عن الصفة النفسية والعقلية لديهم، وتعطي كذلك مؤشراً صادقاً عن توجهاتهم الثقافية، ومعرفتهم بالمتغيرات وقدرتهم على استيعابها والتعامل مع المستجدات الطارئة في حياتهم المستقبلية، وذلك من خلال المقاييس النفسية والاجتماعية والثقافية قبل التأهيل وأثناءه وبعده، ويأتي ذلك تمشياً مع اهتمام الأسرة الدولية بالقضاء، فقد أكدت مؤتمرات الأمم المتحدة على الحاجة إلى تطوير الكفاءات القضائية علميا وعمليا ليكونوا قادرين على مواجهة التغيرات في مجال الظاهرة الإجرامية والتحولات في المجتمع الإنساني بشكل عام.
كل ذلك يهدف إلى أن يكون القاضي ملما بالأسباب الدافعة إلى السلوك الإجرامي، والعوامل التي تسهم في رفع حدة تلك الأسباب، ويكون قادراً كذلك على التعامل مع المتخصصين في تلك الأسباب والعوامل، وفهم التقارير التي يعدونها للاستعانة بها في وصف العلاج المناسب للحالة المرضية التي بين يديه، لأن عدم الاستعانة بالعلوم الطبية والنفسية والاجتماعية لتقييم حالة المتهم ومعرفة الظروف المحيطة به قبل المحاكمة وأثناءها قد يحجب عن الحكم بعض الزوايا المهمة، وبالتالي إعاقة برنامج الإصلاح وإعادة التأهيل، فالقاضي (ناظر القضية) الذي تلقى تأهيلاً أكاديمياً وعملياً يتماشى مع روح العصر ومع توصيات المنظمات والهيئات الدولية ومؤتمراتها في هذا الخصوص، يستطيع أن يجمع المعلومات الواردة في تقارير المتخصصين مع المعلومات التي استقاها من تأهيله الأكاديمي والعملي ومتابعته لكل جديد في مجال علم الجريمة والعقاب، ثم يوظفها جميعاً للحصول على تقدير واقعي لمدى توافر أركان الجريمة، ومدى مسؤولية الجاني، ومدى تقصير مجتمعه في توفير الظروف الملائمة للحياة السوية، ومدى الضرر الذي لحق بالمصلحة المعتدى عليها، ثم ينتقي العقوبة أو البديل المناسب في حالة الإدانة، وكذلك الأسلوب الأمثل للتنفيذ حتى يكون للعقوبة أثرها العلاجي والوقائي، وليس مجرد الانتقام. ويبدأ إعداد وتكوين القاضي في العصر الحديث منذ التحاقه بالمعهد أو الكلية الشرعية أو القانونية، وهناك علاقة قوية بين ما تتضمنه المناهج التعليمية والطرق المتبعة في تدريسها نظريا وتطبيقيا وبين تحقيق مستوى عال من الكفاءة لدى المتخرج للعمل في مجال القضاء، وقد اهتمت بهذه العلاقة الحقيقية معظم دول العالم، ففي التجربة الفرنسية أنشئ معهد متخصص للدراسات القضائية تابع لوزارة العدل حيث تجرى مسابقة واختبارات متعددة لخريجي كليات الحقوق لتحديد أفضل العناصر، ثم قبولهم للدراسة بهذا المعهد، كما استحدث نظام القضاة المستمعين، واستحدث أيضا مركز قومي للدراسات القضائية، كل ذلك بهدف إعداد وتكوين قضاة محترفين في المستقبل، وبالإضافة إلى الإعداد الأساسي هذا نجد أن بعض الدول تقوم بتدريب المتخرج للعمل كقاض جنائي من خلال العمل في النيابة العامة، فيكلف بالعمل في القضايا الجنائية دون غيرها، ثم يتدرج في مناصب القضاء الجنائي، ويسلك زميله المسلك نفسه ولكن بالتخصص في مجال القضاء المدني، وقد سلكت اليابان نفس المسلك تقريبا في إعداد وتأهيل القضاة تأهيلا عاما وتخصصيا، فقد غدا التخصص سمة من سمات هذا العصر، ولتوضيح أهمية التخصص في القضاء الحديث نجد التشريع الفرنسي لسنة 1958م يشترط أن يكون القاضي الذي ينظر في القضايا ذات الطابع الاجتماعي متخصصا في القضاء الاجتماعي، ويشترط كذلك ألا يقضي القاضي إلا فيما تخصص فيه، وأن يبقى في إطار تخصصه طوال مدة خدمته.
يتضح مما سبق أن الحفظ والتلقين والترديد ليس وسيلة مناسبة لإعداد القاضي، فمع أهمية ذلك في مجال القضاء برمته، والقضاء الجنائي والإجراءات الجنائية وإجراءات ونظم المرافعات القضائية وعلم الإصلاح وعلم الإجرام والعقاب على وجه الخصوص، إلا أن الشخص الذي يجري إعداده ليكون قاضيا لا يمكنه الحصول على الإعداد الأمثل عن طريق الدراسة النظرية فحسب، سواء الحديث منها أو التقليدي، وإنما أيضا من خلال تلقيه تدريبا عمليا يتوقف على نتائجه أن يعمل المتدرب في القضاء أو لا يعمل.
وليست عملية إعداد القاضي في المجتمع السعودي بعيدة عن مثيلاتها في الدول المتقدمة من حيث المراحل لا المضمون، فالقاضي يتلقى علومه الشرعية في مرحلة البكالوريوس، ثم يلتحق بالمعهد العالي للقضاء، وقد يعمل بعد التخرج ملازما قضائيا لأحد القضاة المتمرسين لمدة سنتين تقريبا وبعدها يمارس مهام القضاء.
غير أنني لست مقتنعا بإمكانية وجود القاضي الموسوعي في هذا العصر الذي تعددت فيه المشكلات والتخصصات إلى درجة أصبح معها التخصص الدقيق قابلا لأن ينقسم إلى عدد من التخصصات خلال مدة وجيزة، وبخاصة في الجانب التكنولوجي، لهذا أنادي بضرورة التخصص في التأهيل والممارسة القضائية حسب معطيات العلم الحديث، إلى جانب التأهيل الشرعي المعمول به حاليا.
ويمكن أن تضطلع هيئة التحقيق والادعاء العام بتدريب المتخرجين من المعهد العالي للقضاء، وذلك بالعمل فيها لعدد من السنوات يتدرج خلالها الشخص المراد أن يصبح قاضيا في السلم الوظيفي حتى يصل إلى الدرجة التي يكون معها مؤهلا لممارسة القضاء مباشرة.
بحيث يمارس أثناء مدة العمل التدريبية هذه تأدية الأعمال المتعلقة بتخصص قضائي معين ليصبح في المستقبل قاضيا في هذا التخصص.
ويوما بعد يوم تزداد المطالبة بأن يكون هناك قضاء جنائي متخصص بعد أن وجد قضاء متخصص أو لجان شبه قضائية في كثير من المجلات، وهناك عدد من المبررات لوجود هذا التخصص صنفت إلى فئتين هما: الضرورات الفقهية، والضرورات العلمية والعملية، فمن حيث الضرورات الفقهية نجد أن الحدث في الشريعة الإسلامية، وفي كل القوانين والأنظمة، يعامل معاملة خاصة إذا اقترف فعلا من الأفعال المعاقب عليها، وهي معاملة تختلف عن معاملة المذنبين أو المجرمين البالغين من كل الوجوه، لذلك فالأمر يستدعي وجود تخصص لقضاء الأحداث، يضاف إلى ذلك ما صدر عن المؤتمرات الدولية من توصيات ودعوات تبنت فيها مبدأ تخصص القضاء الجنائي، ودعت إلى إعداد القاضي تخصصيا إعدادا جيدا.
أما المبررات العلمية لتخصص القضاء الجنائي بخاصة، فمنها ضرورة فهم القاضي لسياسة وفلسفة التجريم والعقاب، وليس الاكتفاء بالبحث في مدى توفر أركان الجريمة، كما أن المشرع له مقاصد دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية لا بد للقاضي من فهمها، ولن يتسنى له هذا الفهم إذا ما تصرف كقاض موسوعي.
كما أن شخصية المتهم تحتاج إلى دراسة لفهم العوامل والظروف التكوينية والنفسية والاجتماعية التي دفعت به إلى الجريمة، وهذا أمر أساسي في القضاء الجنائي، بينما القاضي المدني يفصل في النزاع دون الالتفات إلى أي شيء من ذلك.
ومن المبررات العلمية أيضا ضرورة إشراف القاضي على تنفيذ العقوبات، فالقاضي الجنائي هو الذي يرسم الصورة التي ينبغي أن يكون عليها المستقبل الجنائي للمحكوم، لذلك لا بد أن يتابع هذه الصورة بالمراقبة والإشراف حتى يكون التنفيذ على النحو الذي يحقق أكبر قدر ممكن من مكونات هذه الصورة، وبخاصة عندما يصدر الحكم بتدبير احترازي أو وفق تدابير الدفاع الاجتماعي، أو عند إعمال بدائل عقوبة السجن وبدائل العقوبات البدنية، لأنها جميعا قد تكون غير واضحة المعالم على وجه اليقين للسلطة التنفيذية، وهنا لا بد من وجود قاض متخصص في مجال التنفيذ العقابي حتى تتحقق أهداف الحكم الصادر ضد المتهم من الناحية التشريعية والعلاجية، وليس ذلك في إمكان القاضي الجنائي الذي أصدر الحكم، بسبب انصرافه لنظر القضايا، فضلا عن كون عمل الإشراف القضائي على التنفيذ العقابي يحتاج إلى قدرات ومعارف نظامية واجتماعية وإنسانية.
إن عملية الإصلاح القضائي والشروط الواجب توفرها لكي يؤدي القاضي عمله على أكمل وجه، وتؤدي المحكمة وظائفها كما ينبغي، يمكن أن تنسحب أيضا على الأجهزة القضائية الأخرى المعنية بإجراءات التقاضي.
فمن المعلوم، كما سلف، أن مسمى الأجهزة القضائية لا يقتصر على المحاكم فحسب، بل يشمل عددا من الأجهزة التي تشترك في سلسلة من الإجراءات القضائية تبدأ بالاستقصاء والاشتباه، وتنتهي بانتهاء المعاملة العقابية، وقد تكون الأمور أكثر وضوحا في مجال التقاضي المدني عنه في التقاضي الجنائي، فالدعوى المدنية تنشأ عن فعل غير مشروع يلحق ضررا بالغير، وهدفها الحصول على حكم بالرد أو التعويض أو ما يسمى بالضمان، سواء كان هذا الفعل صادرا عن مكلف أو غير مكلف. أما الدعوى الجنائية فلا تنشأ إلا عن فعل يعد جريمة ويصدر عن مكلف يكون أهلا للمسؤولية التامة عن فعله، وهدفها الحصول على حكم بعقوبة ما على الجاني، وهذه العقوبة في الإسلام على أربعة أنواع: حد، قصاص، دية، تعزير.
وقد يجمع القاضي بين عقوبة مدنية وعقوبة جنائية، كالحكم بالقطع في حد السرقة مع رد المسروق أو تعويض صاحبه، وقد يجمع بين عقوبة الدية وعقوبة التعزير، وليس ذلك من باب معاقبة الشخص على فعل مرتين، لأنهما دعوتان منفصلتان اعتبارا ومضمونا، وإن اتصلتا زمنيا وإجرائيا.
ومن حيث العدد نجد أنه لا حصر للأفعال التي تنشأ عنها الدعوى المدنية، أما الجرائم التي تنشأ عنها الدعوى الجنائية فمحصورة، إذ لا جريمة إلا بنص، كما أن الدعوى المدنية في التنظيمات القضائية الحديثة ترفع أمام المحاكم المدنية، أما الدعوى الجنائية فترفع أمام المحاكم الجنائية.
وهناك أيضا دعوى إدارية تقصد إلغاء قرار إداري أو التعويض عما ألحقه هذا القرار من ضرر، وهي ترفع أمام محاكم خاصة كديوان المظالم في المملكة العربية السعودية، وهناك أيضا الدعوى التأديبية التي تنشأ عن الإخلال بواجبات الوظيفة. وإذا صدر ضد الشخص جزاءات إدارية فإنها لا تعد عقوبات لأنها تستهدف محاسبة الموظف على خطأ وظيفي، فتكون منصبَّة على حياته الوظيفية، بينما تكون الجزاءات الجنائية عقوبة على جريمة وتلحق الشخص في حريته أو بدنه أو ماله.
لكن إذا ما كانت لجنة ما مخولة بممارسة اختصاص قضائي ما فإن قراراتها ليست قرارات إدارية ولا جزاءات إدارية، وإنما هي جزاءات جنائية ومن قبيل ذلك قرارات اللجان الجمركية. ومن المهم جدا في المملكة العربية السعودية معرفة أن ديوان المظالم، وإن كان وجد للفصل في المنازعات بين السلطات والأفراد وحماية الأفراد من جور هذه السلطات، إلا أنه ليس مخولا بالبتّ في القرارات والأحكام القضائية، سواء كانت صادرة عن محكمة أم عن لجنة قضائية.
وسوف أقتصر في المعالجة التالية على الضبط القضائي في الدعوى الجنائية لتوضيح بعض الجوانب المتعلقة بمعاملة المشتبه والمتهم والمدان منذ بداية التعامل معه حتى صدور الحكم القضائي، لأن لهذه المعاملة دورا كبيرا في نجاح العلاج القضائي للمحكوم عليه وتحديد مآله مع نفسه ومع مجتمعه مستقبلا إذا لم تكن عقوبته استئصالية.
من الطبيعي أنه إذا فشلت إجراءات وتدابير الضبط الاجتماعي في منع وقوع الجريمة فإنها بعد وقوعها تحتاج إلى إجراءات ضبط قضائي تمر بخمس مراحل هي:
1- الاستقصاء والاشتباه.
2- التحري والتحقيق.
3- المحاكمة.
4- الطعن (الاعتراض أو الاستئناف) على الحكم.
5- تنفيذ العقوبة.
وفيما يلي سوف أناقش المراحل الأربع الأولى، أما تنفيذ العقوبة فقد سبق التحدث عنه ومناقشته في الجانب المتعلق بتخصيص القضاء.
أولا: مرحلة الاستقصاء والاشتباه:
وهي حالة ذهنية يصح معها في العقل القول بمظنة وجود جريمة، وتتحقق هذه الحالة في عدد من الصور منها:
1- الوفاة: فقد يتم العثور على جثة في ظروف تدعو الأجهزة الأمنية إلى الاشتباه في أسباب الوفاة، فتعمد إلى استقصاء كل المعلومات عن الجثة، فإذا رجح رجال الأمن أن أسباب الوفاة جنائية انتقلت الأمور إلى مرحلة الاشتباه فيمن قد يكون اقترف هذه الجريمة عمدا أو خطأ، فإذا لم يسفر الاشتباه عن دلائل أو قرائن على اتهام شخص أو أشخاص معينين سجل الحادث ضد مجهول، أما إذا قامت هذه الدلائل أو القرائن ضد شخص ما فإنه يصبح شخصا مشتبها فيه.
والمشتبه فيه لا يجوز اتخاذ أي إجراءات تمس حريته، كالقبض عليه أو تفتيشه شخصيا أو تفتيش أشيائه أو سيارته أو دابته لكونها متعلقة بحرمة شخصه إلا أن يأذن في ذلك بمحض إرادته دون إكراه أو تهديد، والقاعدة أن من يجوز لرجل الأمن تفتيشه فإنه يجوز له تفتيش جميع مستلزماته، ويجوز استدعاء المشتبه فيه دون القبض عليه لسؤاله تحت مبرر عيشنا في مجتمع يجب الحفاظ على أمنه، فإذا لم يستطع دحض الاشتباه تحول من مشتبه فيه Suspect إلى متهم Accused.
2- إيجاد الشخص نفسه في ظروف تدعو إلى الريبة والشك: ومن قبيل ذلك أن يشاهد رجل الأمن شخصا في وقت متأخر من الليل يحمل أشياء ذات قيمة، فله أن يسأله، فإذا لم يقدم إيضاحات مقنعة حول هذه الأشياء أو تبين أنها مسروقة فلرجل الأمن أن يستوقفه، ومن تجارب الدول وطرائق نظمها في مثل هذه الحالة نجد أنه يجوز في بريطانيا لرجل الأمن أن يفتشه بعد الاستيقاف للتأكد من عدم وجود أسلحة، ويعد هذا التحسس قبضا وحجزا وانتهاكا للحرية غير مشروع بقدر الوقت الذي يستغرقه إذا ظهر أن هذا الشخص بريء.
أما إذا تبين أنه قد ارتكب جريمة فإنه يتحول إلى متهم، وإذا تبين أنه كان يخطط لارتكاب جريمة ما جاز اتخاذ إجراءات منعية ضده، كالتعهد بعدم اقتراف أي عمل مخل بالأمن، أو تكليفه بالحضور إلى الشرطة في أوقات محددة، أو تكليفه بعدم مغادرة منزله ليلا لفترة محددة، ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن يكلف بالحضور أكثر من مرة واحدة في اليوم الواحد، كما لا يجوز للشرطة انتهاك حرمة منزله للتأكد من وجوده إلا إذا رفض الإجابة بعد النداء عليه ثلاث مرات على الأقل.
3- حالة التلبس بالجريمة: وفي هذه الحالة يجوز لرجل الأمن أن يأمر جميع من وجد في الموقع بعدم مبارحته حتى تتبين حقيقة الموقف، وهذا الاستيقاف تبرره حالة التلبس والخوف من إفلات الجناة وفقْد الشهود.
وهنا يتبين أن المساس البسيط بالحرية أمر تقتضيه مصلحة المجتمع، إضافة إلى أن الحرية ليست مطلقة، غير أنه يجب عدم استغلال مثل هذا الموقف لانتهاك الحريات المكفولة بشكل تعسفي.
ثانيا : مرحلة التحري والتحقيقات الأولية:
وهي مرحلة يستطيع المتهم من خلالها أن يعرف التهمة المنسوبة إليه وما يتوفر ضده من أدلة، ويجوز له أن يحتفظ بدفاعه ضدها إلى جلسة المحاكمة.
وتعد هذه المرحلة من أكثر المراحل التي تنتهك فيها حقوق الإنسان، فالمفترض من المحقق أن يستخدم كل الوسائل المباحة لجمع الأدلة فينتقل إلى موقع الحادثة مرات متعددة، ويجمع المعلومات من مصادر مختلفة وكثيرة، ويبذل جهودا مكثفة في التحليل والتفكير لجمع هذه الأدلة وتصنيفها والربط بين الوقائع، وعليه أن يستعين بكافة الوسائل العلمية المتاحة والمشروعة وذات الصلة المباشرة بالأدلة المطلوبة لإدانة المتهم حسب نوع التهمة، وهنا تظهر قدرات المحقق الكفء، وهنا أيضا تظهر نقاط ضعف المحقق الفاشل.
ونجد، مع الأسف الشديد، أن بعض المحققين في بلدان كثيرة من العالم يعمدون إلى صنوف شتى من التعذيب النفسي والبدني لانتزاع الاعتراف من المتهم بأقصر الطرق، متجنبين الجهود التي تتطلبها عملية جمع الأدلة والحصول على اعتراف أو إدانة المتهم بالطرق المشروعة، راكنين إلى مبدأ (الاعتراف سيد الأدلة) وتكشف الخبرات والتجارب أن هذا المبدأ ليس صحيحا؛ لأن الاعتراف قد ينتزع بالقوة، ولأنه قد يتم رغبة من المتهم في التضحية دفاعا عن المجرم الحقيقي، ولأنه قد يحدث رغبة في الخلاص من أساليب التحقيق الوحشية.
ومن المؤسف أيضا أن التحقيق عند هؤلاء المحققين الفاشلين الكسالى يتحول إلى وسيلة للاتهام فقط، فيجردون التحقيق من صفته أو وجهه الآخر كوسيلة للدفاع أيضا.
إن الهدف من التحقيق هو الكشف عن الحقيقة ليعاقب المذنبون وتعالج انحرافاتهم، وتصان كرامة الأبرياء، فمن المعلوم أنه بعد وقوع الجريمة تثور مصلحتان هما: مصلحة المجتمع في العقاب، ومصلحة الأفراد في صيانة حقوقهم، وإذا كان لا يمكن تحقيق المصلحة الأولى دون المساس بالمصلحة الثانية فإنه يمكن تحقيق الثانية دون المساس بالأولى، وذلك باحترام حقوق الأفراد، سواء كانوا أبرياء أم مذنبين، وبخاصة أن البراءة هي الأصل في الإنسان حتى تثبت إدانته، والأمر لا يقتصر على عدم جواز إجبار المتهم على الاعتراف، بل يتعداه إلى عدم جواز إجبار الشهود على الإدلاء بما لا يريدون، مثلما أنه لا يجوز منعهم من الإدلاء بما يريدون الإدلاء به.
وسأضرب صفحا عن الخوض في الإعلانات والمبادئ والصكوك الدولية الموجهة لحماية الأشخاص من التعرض للتعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية، مكتفيا بجزء يسير من شريعتنا الإسلامية في تحريم مثل هذه الممارسات، فمن غير المشكوك فيه أن الشريعة الإسلامية تهتم بعدم إدانة البريء أكثر من اهتمامها بمعاقبة المجرم، وهذا مبدأ صحيح وفي غاية الروعة؛ لأن الضرر الذي يلحق بالعدالة جراء إدانة بريء يفوق الضرر الناتج عن إفلات مجرم منه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لَأنْ يُخطئَ الإمامُ في العفوِ خيرٌ منْ أنْ يخطئَ في العقوبةِ) ليس هذا فحسب، بل إن الشريعة الإسلامية تأمر أن تُدرأ الحدود بالشبهات.
وهذه الشريعة لا تجيز أن يكلف المتهم بإثبات براءته وإلا عد مذنبا، ولا تجيز أن يطلب منه تقديم دليل ضد نفسه، فعبء الإثبات يقع على عاتق الاتهام، وإذا تطوع لإثبات براءته فلا يطلب منه أن يصل بهذا الإثبات إلى حد اليقين القاطع، بل يكفي أن يقدم ما يبعث على الشك في صحة الأدلة المقدمة من جانب المحقق أو الادعاء، كما أن الشريعة الإسلامية تحرم على جهة التحقيق أن تخفي دليلا ظهر لصالح المتهم لكون ذلك من الخداع والظلم وغمط الحق والتعدي على الشريعة الإسلامية التي قوامها العدل والمحافظة على كرامة الإنسان، وفي كل الأحوال فإن من لوازم العدالة أن يتم إبلاغ ذوي المتهم بوجوده لدى الجهات الأمنية فور القبض عليه.
وقد يستمر توقيف المتهم أثناء مدة التحقيق وجمع الأدلة، وبخاصة في الجرائم الكبيرة، وفي هذه الحالة فإن هذه المدة ليست ملكا للمحقق يصرفها كيف ما اتفق، فقد تطول هذه المدة ثم يظهر أثناء المحاكمة أن المتهم بريء، لذلك فإن تحقيق العدالة يتطلب بالضرورة أن تتم عملية تجديد الأمر بالتوقيف من قبل الجهة المشرفة على التحقيق وفق خطوات دقيقة تجعل من الصعب على المحقق أن يتمادى في استخدام هذا الحق أو يتساهل في إنجاز التحقيق في أقصر مدة ممكنة.
وفي كل الأحول نجد أن المادة الرابعة عشرة بعد المائة من نظام الإجراءات الجزائية السعودي لعام 1422هـ نصت على ألا يزيد مجموع مدد التوقيف على ستة أشهر من تاريخ القبض على المتهم، يتعين بعدها مباشرة إحالة المتهم إلى المحكمة المختصة أو الإفراج عنه.
ويثور هنا سؤال مهم جدا لا بد أن تتم الإجابة عليه في اللائحة التنفيذية لهذا النظام، مفاده: هل حضور المتهم أمام القاضي لتصديق اعترافه شرعا يعد إحالة إلى المحكمة؟ ذلك لأنني أجد في هذه المادة ثغرة يمكن أن يحدث من خلالها شيء من الظلم والإجحاف، ولا أشك في أن هذه المادة لم تقصد وجود هذه الثغرة.
ثالثا : المحاكمة:
لا شك أن العدل من أكثر حقوق الإنسان التصاقا به، ومن أكثرها حاجة للحماية، ومن العدل أن يعترف للإنسان ببراءته حتى يثبت العكس، وليس هناك خلاف بين فقهاء الإسلام على هذا الأصل في المتهم، ولا خلاف بينهم في أن سند هذا الأصل هو استصحاب الحال، وأن اليقين لا يزول إلا بيقين مثله، ومن اليقين أن الإنسان يولد على الفطرة بريئا، ومن حقه أن يستصحب هذه الحال وأن تظل ملازمة له حتى ينهض الدليل على تغيير هذه الحال، والحنابلة يأخذون بالاستصحاب كدليل تستند إليه الأحكام الشرعية، كما جاء في ( أعلام الموقعين ) لابن قيم الجوزية، وكما جاء في ( قواعد الأحكام ) للعزّ بن عبد السلام، بأن الأصل براءة الذمة من الحقوق وبراءة الجسد من القصاص والحدود والتعزير.
لهذا فإن القضاة، وبخاصة في المجتمع المسلم، أمام مهمة عظيمة، تتطلب منهم عدم الأخذ باعترافات المتهم وحدها، بل لا بد أن يحتوي ملف القضية على أدلة قاطعة، ربما تكفي وحدها لإدانة المتهم، وتتطلب منهم التأكد من أن القضايا الجنائية المعروضة عليهم قد خلت تماما من كل أشكال القبض والتوقيف التعسفي، وأن اعتراف المتهم لم ينتزع منه بوسائل غير مشروعة، وأنه ليس اعترافا قُصد به حماية مجرم حقيقي آخر، وأنه ليس اعترافا قصد به المتهم دفع الأذى عن نفسه.
وهناك طرق كثيرة يمكن للقاضي أن يتأكد بها من أن الاعتراف هو عين الحقيقة، وانه لم ينتزع بالقوة والتعذيب، وأن الأدلة المعروضة أمامه هي أفضل ما يمكن تقديمه، ومن هذه الطرق أن يكون المحقق قد بذل جهدا واضحا ومشروعا تشهد به محتويات ملف القضية، وأن يكون قد استعان بالخبرات العلمية المناسبة، مثل التحاليل المتقدمة لما هو منسوب إلى المتهم من موجودات مسرح الجريمة، وكذلك مواجهة المتهم بغيره من المتهمين أو الشهود.
ومن مؤشرات الإجراءات الجنائية العصرية ومن دلائل التطور التشريعي - وشريعتنا الإسلامية من أفضل الشرائع تطوراً - ومن علامات الحرص والأمانة لدى الجهات المشرفة على التحقيق أن ينجز أصحاب التخصص النفسي والاجتماعي والطبي إعداد ملف لشخصية المتهم إلى جانب الملف الجنائي للقضية، يشتمل على تقرير واقعي ونزيه يوضح فيه كل شيء عن شخصية المتهم، وما ظهر من الأسباب أو العوامل التي دفعته إلى السلوك الإجرامي. ومن دلائل الوعي والنزاهة والدقة القضائية أن ينظر القاضي الذي يتولى تكييف الواقعة والحكم فيها إلى ملف الشخصية هذا جنبا إلى جنب مع الملف الجنائي، حتى يُكوّن مفهوما صحيحا عن شخصية المتهم في جميع مراحله العمرية، من خلال معرفة تنشئته الأسرية والتربوية والمعيشية، وطبيعة تنشئته الاجتماعية، وظروفه الصحية جسميا ونفسيا وعقليا، لكي ينجح في اختيار الطرق العلاجية المناسبة لتعديل سلوك الجاني، وبغير ذلك فان الدواء الذي يصفه القاضي، والمتمثل في العقوبة، قد يزيد الداء ويضاعف الآثار والأعراض الجانبية للعلة والدواء على حد سواء.
في الغالب تسفر المحاكمة عن التبرئة، أو الإدانة، ثم الحكم بعقوبة ما، وفي كلتا الحالتين لا بد أن يوازن القاضي بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع، ولمَّا لم يكن القاضي خصما أو منتقما فإن تفعيله لمبدأ الصلح وكذلك اللجوء إلى بدائل العقوبات ما أمكنه إلى ذلك سبيلا - دليل وعي ونزاهة ومساهمة فعالة في الوقاية من وصمة الإجرام، والوقاية من الجريمة بصورة عامة. وإذا لم يكن من العقوبة بدٌّ فيجب على القاضي أن يدرك أن العقوبة علاج وليست انتقاما، وأن هذا العلاج سيسهم في رفع معدلات الجريمة إذا لم يكن صحيحا، مثله مثل العلاج الذي يضاعف أعراض المرض إذا كان خاطئا من حيث النوع ومن حيث طريقة التقديم، فالقاضي الذي يحكم بالسجن لمدة طويلة دون حاجة إلى ذلك، ودون أن يتضمن الحكم وصف المعاملة العقابية الإصلاحية الصحيحة، فإنه لا يساهم في العلاج والوقاية من الجريمة إلا بقدر ما يمنع المتهم من اقتراف جريمة أخرى طوال مدة سجنه، وهذا إجراء مؤقت وليس جذريا، وضرره أكثر من نفعه، فقد يتعلم المتهم صنوفا من الإجرام خلال هذه المدة داخل السجن، وقد تتضاعف مشاعر الكره والنقمة على المجتمع، وقد تكون مدة السجن هذه سببا في وصمه بالإجرام طوال حياته، وكل ذلك من العوامل الرئيسية المؤدية إلى ازدياد معدلات جرائم العود.
وللمحامي عظيم الدور في سير العدالة، فبالقدر الذي يسعى فيه إلى تبرئة موكله عليه أن يتذكر أن الانتقام وارد إذا تمت هذه التبرئة وهو مذنب، فالضحية له الحق في معاقبة الجاني، لكن هذا الحق لا يعني انصياع القاضي إلى رغبة الضحية في تشديد العقوبة دون مبرر، كما أن الضحية قد يكون له دور في حدوث الفعل الإجرامي، وعلى المحامي هنا أن يعمل كل ما في وسعه لتبرئة المتهم إن كان بريئا بالفعل، وأن يعمل على شرح الظروف والملابسات المحيطة بموكله قبل حدوث الفعل وأثناءه وبعده إن كان مذنبا، وهذه مثالية اشك أن تتحقق في كل المواقف، فمن المعروف أن المحامي يطلب الحكم ببراءة موكله في كل الأحوال.
وقد كفلت المادة الرابعة من نظام الإجراءات الجزائية السعودي حق المتهم في الاستعانة بوكيل أو محامٍ للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحاكمة، ومهما كان قرار القاضي فإن الحقوق الإنسانية للمتهم يجب ألا تنتهك أو تضيع؛ لأن تحقيق العدل في المجتمع لا يتحقق، ولا يتحقق أبدا، عن طريق ظلم بريء أو إساءة معاملة مذنب وانتهاك حقوقه.
لهذا نصت المادة السادسة والعشرون من النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية على أن الدولة تحمي حقوق الإنسان وفق الشريعة الإسلامية.
رابعا : الاعتراض (الطعن أو الاستئناف) على الحكم:
تكفل كافة الشرائع حق المحكوم عليه في الطعن أو الاعتراض على الحكم من عدة نواحٍ، ثم طلب الاستئناف أمام المحكمة العليا أو محكمة التمييز، وأمام المحكمة الدستورية أو المجلس الأعلى للقضاء.
ويمكن القول أن من المبررات الواضحة لهذا الطعن أن يكون القاضي حكم في القضية مع وجود مانع أو أكثر من موانع نظر القاضي نفسه للقضية، أو موانع نظر المحكمة نفسها للقضية.
ومن المبررات أيضا حدوث خطأ ترتب عليه انتهاك الإجراءات النظامية المنظمة للدعوى، أو شعور المحكوم عليه بالحيف والظلم، أو حتى مجرد رغبته في الطعن سعيا وراء تخفيف الحكم، إذا كانت درجة الحكم مما يجوز الاعتراض عليه. ومن حق المحكوم عليه أو وكيله أن يحصل على صك الحكم وأن يعطى المدة النظامية الكافية لإعداد الطعن وتقديمه للمحكمة، وقد نصت المادة الثامنة والسبعون بعد المائة من نظام المرافعات السعودي لعام 1421هـ على تحديد هذه المدة بثلاثين يوما.
وفي الختام أتمنى أن أكون قد وفقت في إماطة اللثام عن ما يمكن أن يكون مجهولا في التنظيمات القضائية.. أما السباق إلى الجنة أو النار فلا يزال مستمرا، وأسأل الله تعالى أن يكون قضاتنا جميعا من الثلث الموعود بالجنة.
******
المراجع..........
1- أبو شادي، أحمد، نظام المحلفين في التشريع الجنائي المقارن، إسكندرية: 1980م.
2- أبو الوفا، أحمد، تاريخ النظم القانونية وتطورها، بيروت: الدار الجامعية، 1984م.
3- آنسل، مارك، الدفاع الاجتماعي الجديد، ترجمة حسن علام، إسكندرية: دار المعارف، 1991م.
4- البريك، يوسف، محاضرات أكاديمية، جامعة نايف العربية، 2003م.
5- البريك، يوسف، محاضرات أكاديمية، جامعة نايف العربية، 2004م.
6- حتاتة، محمد نيازي، إسهام الجمهور في مكافحة الجريمة، بنغازي: جامعة فاريونس 1980م.
7- خضر، عبد الفتاح وآخرون، السجون مزاياها وعيوبها من وجهة النظر الإصلاحية.
8- طالب، أحسن، محاضرات أكاديمية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية 2003م.
9- عبد الرحمن، عبدالله محمد، علم الاجتماع القانوني، الأزرطية: دار المعرفة، 1998م.
10- علي، سيد أنور و آمال عبد الرحمن، علم الإجرام وعلم العقاب، القاهرة: دار النهضة، 1980م.
11- عمر، محمد عبد الخالق، النظام القضائي المدني، القاهرة: دار النهضة،1980م.
12- العوجي، مصطفى، التصدي للجريمة (2) بيروت: نوفل، 1980م.
13- عودة، عبد القادر، التشريع الجنائي الإسلامي، بيروت: الرسالة 1992م.
14- عوض، محمد، الإجراءات الجنائية، الرياض:جامعة نايف العربية 1419هـ.
15- غانم، عبدالله وآخرون، برامج التدريب في المؤسسات الإصلاحية، الرياض: جامعة نايف العربية 1412هـ.
16- الفحل،عبد الرزاق وآخرون، المدخل لدراسة النظم، جدة: دار الآفاق 1414هـ.
17- الكيلاني، فاروق، استقلال القضاء، القاهرة: دار النهضة، 1972م، الرياض: جامعة نايف العربية، 1984م.
18- آل مضواح، مضواح بن محمد، دور المنهج العلمي في صياغة السياسة الجنائية (مجلة الأمن العدد 177) 1997م.
19- آل مضواح، مضواح بن محمد، النتائج المترتبة على عقوبة السجن (رسالة ماجستير) جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، 2000م.
20- آل مضواح، مضواح بن محمد. عقوبة السجن، (صحيفة الجزيرة) 2001م.
21- وجيه، محمد منصور، النظم القضائية الإسلامية المعاصرة 1977م.
E-mail:Midwah@hotmail.com
|