يبدو ان هزيمة الولايات المتحدة في العراق قد باتت رهاناً دولياً, بكل ما تحمله الكلمة من معنى, لأنها ستؤدي لا محالة إلى ولادة نظام وتوازن دولي جديد, يكون العالم فيه أكثر أمناً وأكثر سلاماً من الأمن والسلام الامريكي الذي ينعم العالم في ظله الآن!!
بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 9-4-2003م كتب هنري كسنجر مقالة بعنوان (يجب ان لا تهزم أمريكا في العراق) ويناشد فيها دول أوروبا قاطبة ويستجديها ان تقف إلى جانب الولايات المتحدة في حربها مع العراق, لأن انتصار أمريكا في الحرب على العراق -حسب اعتقاده- يعني انتصار الغرب الليبرالي وقيمه في الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة؟!! وأن هزيمة أمريكا في العراق سوف تقوي شوكة الإرهاب الدولي القادم من الشرق, وستفتح شهية شعوب الشرق على مواصلة معركتها مع الغرب الديمقراطي المسيحي حسب رأيه.
ولكن بعد ان تيقن العالم أجمع بما فيه الشعوب العربية وخصوصاً شعب الولايات المتحدة الأمريكية من كذب الإدارة الأمريكية على شعبها وعلى العالم من أن الحرب على العراق كان دافعها الأساسي ردع العراق الذي كان يهدد الأمن القومي الأمريكي ويهدد الأمن والسلام العالمي لامتلاكه اسلحة الدمار الشامل المزعوم وأن العراق المتحالف مع الإرهاب ومع تنظيم القاعدة كان لا بد من خوض هذه الحرب ضده حتى يصبح العالم أكثر أمناً إلا أن النتيجة قد أصبح العالم أقل أمناً وأكثر إرهاباً, والعراق اليوم أصبح غطاء جديدا لمواصلة الإرهاب الدولي وتطويره ليمتد إلى ساحات متعددة تهيئ له السياسة الأمريكية كل أسباب الاستمرار والتطور والتمدد ليشمل الكون بأجمعه.
فقد قويت شوكة الإرهاب بسبب سياسات الولايات المتحدة وتضاعفت قدراته الإرهابية وأصبح العراق مسرحا كبيرا للصراع بين القوة الأمريكية والحركات المناهضة للهيمنة الأمريكية, كرد فعل طبيعي على استمرار العنف والإرهاب الدولي الأمريكي المنظم, والذي يمنح لنفسه الغطاء القانوني والشرعي في استخدام كافة أشكال القوة والعنف بمختلف صوره العسكرية والاقتصادية والنفسية والجسدية والمعنوية, ضد كل من يعترض على هذه السياسات العنيفة والإرهابية الأمريكية, إن سقوط المبررات القانونية والأخلاقية للحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العراق: النظام والحضارة والتاريخ والشعب والاقتصاد والنفط.. الخ تفقد الولايات المتحدة أي مبرر في طلب الدعم حتى من الغرب المسيحي الليبرالي الديمقراطي, الذي ليس من مصلحته ان تنتصر هذه القيم الأمريكية المخادعة والتي تعبر عن فاشية جديدة ترى من خلالها ان العالم أجمع مجرد حديقة أمريكية خالصة تعيد تشكيلها وصياغتها كما يحلو لها ويتوافق مع مصالحها, ومصالحها فقط دون غيرها من الشعوب حتى الشعوب الأوروبية المسيحية التي يتمنى عليها هنري كسنجر ان تساند أمريكا في حربها هذه وان لا تتيح المجال لهزيمتها.
وبعد افتضاح الممارسات الشائنة واللاإنسانية في حق الأسرى والسجناء العراقيين على يد القوات الأمريكية وكذلك البريطانية, والتي كشفت عن الوجه القبيح الحقيقي لهذه الفاشية والسادية والنظرة العنصرية والاستعلائية من جانب الولايات المتحدة ونظامها الفاشي تجاه الشعب العراقي, وبالتالي تجاه الشعوب الأخرى, يصبح لزاماً على العالم هزيمة أمريكا في العراق وغيرها من مواقع الصراع العسكري وغير العسكري ودفع أمريكا للانكفاء إلى ما وراء الأطلسي والذي أصبح مطلبا عالمياً حتى يستطيع العالم ان يستعيد كرامته الانسانية ويعيد الاعتبار للشرعية الدولية ويحقق الأمن والسلام لجميع الشعوب, فإذا كان الاحتلال الأمريكي للعراق قد مثل جرحاً للسلطان القومي العراقي والعربي والإسلامي, فإن الممارسات السادية والشاذة التي أظهرتها بعض الصور التي سمح بنشرها فإنها تمثل جرحا لسلطان الكرامة الإنسانية جمعاء, ولا يمكن ان تقرها أي ديانة سماوية كانت أو غير ذلك, ولا أي قيم ثقافية إنسانية يؤمن بها إنسان القرن الحادي والعشرين, ومهما حاولت رموز وعناصر النظام الأمريكي ومؤسساته التكتم أو الاعتذار عن هذه الممارسات واعتبارها خروجاً لقلة من العسكريين عن الخلق الأمريكي, وعن الرسالة القيمية التي تؤمن بها المؤسسة العسكرية الأمريكية, إلا أنها هي الصورة الحقيقية لهذه الفاشية الأمريكية الجديدة التي تسقط حتى الصفة الإنسانية عن غير الأمريكي وبالتالي تتيح للأمريكي ان يفعل به ما يشاء.
إن سياسة الإبادة والتطهير العرقي التي مارستها الولايات المتحدة في حق الهنود الحمر تمثل تراث هذه الثقافة والسياسة الأمريكية المعاصرة, وتعيد انتاج هذه الثقافة بشكل أو بآخر مع كل مرحلة جديدة من مراحل التوسع والاستغلال والاستبداد الأمريكي, فلئن اقتصر تطبيق هذه السياسة وهذه الثقافة على أمريكا خلال القرنين الماضيين, فإنها أخذت تمتد في النصف الثاني من القرن العشرين إلى مساحات أخرى خارج الأمريكتين سواء في أوروبا أو افريقيا أو آسيا حتى يتحول العالم كله إلى سوق امريكي داخلي ينتظم وفق مصالح الفئة الفاشية المتحكمة في إدارة الولايات المتحدة الأمريكية.
وإن التحالف الاستراتيجي بين هذه الفاشية الأمريكية والفاشية اليهودية والمتمثلة بالصهيونية (دولة اسرائيل) والقائمة على نفي الآخر وإبادته وسلبه حقوقه الوطنية والإنسانية في وطنه فلسطين, تستند إلى ذات المنهل الثقافي الاستعلائي العنصري الذي لا يعترف للآخر حتى بحق الحياة, تلك المفاهيم المزورة والمحرفة والمنسوبة للتوراة أو العهد القديم!!
فهل يعقل للإله الواحد الأحد أن يميز بين شعب وآخر وبين عرق وآخر على أساس العرق فقط!!
تلك المفاهيم العنصرية التي صاغتها الفاشية اليهودية عبر التاريخ واستلهمتها في تاريخنا المعاصر الفاشية الأمريكية الجديدة التي وجدت فيها إطارها التبريري لثقافة السيطرة والاستعلاء والاستحواذ ونفي الآخر بل أباحت قتله كما فعلت في إبادة الهنود الحمر والمجازر البشرية التي ارتكبتها أينما حلت القوات الأمريكية والتي انفردت عن غيرها من جيوش العالم باستخدام القنبلة الذرية في نجازاكي وهيروشيما في الحرب العالمية الثانية وأبادت فيها مئات الألوف من البشر الأبرياء, كل ذلك في سبيل استمرار هيمنة هذه الفاشية الأمريكية على مقدرات الكون, وهي تواصل استخدام أسلحة الدمار الشامل من ذكية وغبية على السواء، فقد قتلت خلال عشرين يوما في العراق أكثر من عشرين ألف عراقي أي بمعدل يومي يربو على ألف إنسان ونحن في زمن الأسلحة الذكية حسب توصيف المؤسسة العسكرية الأمريكية!!!
إن المتابع لسير الحرب على العراق يكتشف أن الولايات المتحدة الأمريكية قد كسبت الحرب على النظام العراقي يوم 9-4-2003م عندما سقطت بغداد واختفى معها رموز النظام واكتمل الانتصار على النظام العراقي باعتقال الرئيس صدام حسين يوم 13-12-2003م ولكنها لم تكسب الحرب على عراق التاريخ والحضارة ولا على عراق الشعب، فعراق التاريخ والحضارة ضارب جذوره في التاريخ إلى سبعة آلاف سنة, إنه مهد الحضارة الإنسانية بكل أشكالها وكل صورها, إنه ليس وليد قرنين من الزمان كما هي أمريكا ولم يتشكل الشعب العراقي من مجموعات من المغامرين الذين لفظتهم مجتمعاتهم الأصلية كما هو شأن أمريكا, فالعراق أبو الحضارات والديانات ففيه ظهر سيدنا ابراهيم أبو الأنبياء عليهم السلام والذي تنسب إليه الديانات السماوية الثلاث { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً..}, فلئن حسمت الولايات المتحدة معركتها مع النظام العراقي, فإنها مهزومة لا محالة أمام تاريخ وثقافة وحضارة وقيم العراق, وإذا انتهت معركتها مع النظام العراقي فإن معركتها مع شعب العراق قد بدأت, وما النماذج الأولية من المقاومة الشعبية التي قدمها شعب العراق في الفلوجة وبعقوبة والرمادي والموصل وكربلاء والنجف وبغداد وجميع مدن العراق إلا مقدمات هذه المعركة التي ستتواصل موجة بعد أخرى, حتى ينتظم عقد المقاومة الشعبية العراقية لهذا الاحتلال الغاشم ويخرج مهزوما هو وعملاؤه يجرون أذيال الهزيمة, وسيولد الشعب العراقي من جديد ويعيد صياغة نظامه ويرد الاعتبار لذاته وثقافته وتاريخه وحضارته التي ستعجز الآلة العسكرية الأمريكية عن ترويضه واخضاعه وفصله عن جذوره وعن محيطه العربي والاسلامي، وسيعود العراق قلعة للعروبة والاسلام, وستكون هزيمة أمريكا في العراق نصراً للعراق وللعرب وللمسلمين وللعالم وللإنسانية جمعاء؛ لأن ذلك سيمثل انتصار الخير على الشر الذي تمثله هذه الفاشية الأمريكية الصهيونية الجديدة.
لذلك يجب ان تهزم أمريكا في العراق حتى يتسنى للعالم ان يستعيد وعيه وتوازنه ويعيد الاعتبار للشرعية الدولية المذبوحة تحت جنازير الدبابات الامريكية في العراق وفي فلسطين وافغانستان, ولن يعود السلام والأمن والاستقرار إلى ربوع العالم بدون هزيمة أمريكا واسرائيل, هذا الثنائي العدواني مصدر الشر والإرهاب الدولي بامتياز, وهذه حقيقة يعرفها السيد هنري كسنجر أكثر من غيره فهو استاذ العلوم السياسية العريق وصاحب الخبرة السياسية المتميزة في مجلس الإرهاب الأمريكي وإدارته الخارجية لردح طويل من الزمن, فهو يرى ورطة الفاشية الامريكية في العراق ويستشف المستقبل جيداً لذا يستنجد بأوروبا ويحرضها للوقوف إلى جانب أمريكا في ورطتها في العراق ويحذر من هزيمة أمريكا فيه, لكن ذلك لن يخفى على أوروبا وغيرها من القوى والشعوب, فهزيمة أمريكا في العراق تعني انكفاءها إلى ما وراء الأطلسي وولادة عالم أكثر أمناً وسلاماً وتوازناً تتحقق من خلاله مصالح الشعوب على اختلافها, وتختفي فيه قوى الشر من الفاشية الأمريكية واليهودية الصهيونية, ويعود السلام إلى أرض السلام في العراق وفي فلسطين وفي كل انحاء العالم, فمعركة العراق هي معركة فلسطين وهي معركة كل الشعوب ضد الاحتلال وضد الصهيونية والعولمة والهيمنة الأمريكية على العالم, لذلك يجب ان تهزم أمريكا في العراق!!!
|