كتبت قبل أكثر من عشرين عاماً مقالاً في زاويتي بمجلة (اليمامة) هاجمت فيه (الصُّرصار)، وانتقدته وحَطَطْتُ من شأنه، واتهمته بأقذر الاتهامات ونعتُّه بأسوأ النّعوت، وأعتذر اليوم اعتذاراً متأخراً إلى كل (صرصار) حقيقي لأن طيش الشباب في ذلك الوقت جعلني أستهدف الحشرة البريئة، المسترسلة في شؤونها، كما أن تجربة عشرين عاماً، مع (كائنات) أخرى جعلتني أعرف الفرق الحقيقي بين المخلوقات السامية التي نزلت إلى اسفل سافلين، والحشرات والبهائم المُسخَّرة بغرائزها، القائمة بوظائفها المحتفظة بمراتبها في سلَّم المخلوقات المظلومة باتهامات الناس لها وعدوانهم عليها عندما يلبسونها أوصاف (حالتهم) المتردية، وعلاقاتهم المتدهورة وأخلاقهم المتقيِّحة المتعفنة ومنازلهم السُّفلى، التي ينحطون إليها، عندما يفقدون إيمانهم وينحرفون عن صراط الأخلاق الفاضلة.
** قلتُ في (الصرصار): إنه حشرة تعيش في الأعماق النتنة المظلمة لكنها تتسلق طريقها إلى السطح بكل الغباء، والعفونة والانتهازية اللزجة التي يتفرد بها (الصُّرصار) من بين مخلوقات السَّطح والأعماق لأنه اكتسب كل المهارات اللازمة للتعامل مع الظلامة والعفونة ولزوجة المسالك.
** رأسه المنحني إلى الخلْف يعطيه الفرصة لكي ينظر باستمرار إلى (الصاعدين) وراءَه ليركلهم في اللحظة المناسبة، وقرونه الاستشعارية تعمل كرادار الأواكْسْ في جميع الاتجاهات، فتجعله يُحس على الفور بحركة (القادمين) - و(الذاهبين) - وتعطيه فرصة الكرِّ والفرِّ والظهور والاختفاء.
** تلك هي بعض مهارات الأعماق التي تحترفها وتتقنها (الصراصير) الملوَّثة ولكنها مهارات عالم دوني كئيب لا تناسب الحياة في عالم (الأسطح) المشرقة.
** الغباء (الصُّرصاري) الموروث لا يساعد الصرصار على تغيير سلوكه ليلائم أوضاع (السطح) وظروفه ولذلك تفقد الصراصير توازنها عندما تنجح في الصعود إلى (الأسطحة) ليصيبها ما يمكن أن نسمِّيه جنون الأسطحة الذي يفقدها إحساسها بالزمان والمكان والمناسبة فتجدها تفارق فتحات (البلاليع)، لتتجول وتتصدر الأماكن الطاهرة النظيفة ونجدها في (هَوَسِ) التسلق والرَّكل المسيطر عليها تصر على إخراج قرون استشعارها. من الثقوب وبالوعات المغاسل، وتشهرها في وجوه النظيفين والمتطهرين وعندما تفعل ذلك لا يمضي وقت حتى تثير القرف والغثيان والتوجُّس من موجات القذارة التي تنبئ عنها و(تُبشّر) بها.
** ولهذا لا تعمِّر (الصراصير) في الأسطحة طويلاً، وسُرعان ما تلقى (الصراصير) مصيرها المحتوم عندما تسحقها الأقدام وتلقي بها إلى (المزابل) والأعماق النتنة.. حيث أتت.
وربما كانت هذه حَسَنة (الصرصار) الوحيدة عندما يستثير في الإنسان (مشاعر) التطهُّر والنظافة ويكرس فيه إحساس القرف من (الأذى) و(النَّجس) ويدفعه إلى اتخاذ موقف إيجابي عندما يلعن (صرصاراً) ويسحقه ثم يلقيه في ثقب سحيق.
** بعد عشرين عاماً أو تزيد أعتذر اعتذاراً متأخراً إلى (الصرصار).. الحشرة وأزداد حنقاً، وقرفاً من الكائنات التي ردَّت نفسها إلى أسفل سافلين لأن الهبوط من المكان العلي والإخلاد إلى المكان الأسفل بعد الانسلاخ من الأخلاق، والطهر يثير غثياناً أكبر من الغثيان الذي تثيره حشرة مسكينة ضَّلت طريقها إلى سطح نظيف.
** ونحن لا نستطيع أن نعلم على أية حال كم هو قرف (الصراصير) من الحشرات عندما يهبط إلى عالمها السُّفلي بعض البشر الذين لا يرتقون حتى إلى قذارة (الصراصير) ولكن عليكم فقط أن تتخيلوا كيف سيكون عليه غثيان تلك (الصراصير).
|