لك ما يمكن قوله عن «الانتماء» في محاولة لإسقاط الادعاء المخادع الذي راوح في مخادعته بين تحميل الإسلام معرة الإرهاب، واتهام المناهج الدراسية بالتمهيد له. وخلاصة القول: أن الإرهاب ليست له أرض ولا ديانة ولا جنس، وأنه عرض لمرض، متى وُجد العرض فعلى المهتمين التماس المرض، وأن من مثيراته ممارسات غربية خارجة على الأعراف الدولية. وحينئذ نكون أمام «المواجهة» وهي عصية الانقياد ك» المفهوم» و» السبب» و» الانتماء» ، وإشكاليتها أن لكل سبب أسلوباً في المواجهة، لا يصلح إلا له. وإذا كانت مثيرات الإرهاب: دينية أو سياسية أو عرقية أو غيرها، وليست مرتبطة بلعب كونية، فإن المشكلة تتفاقم، وقد تتحول إلى «حرب أهلية» ، تفقد فيها الدولة السيطرة على الأوضاع، وتفقد فيها الأمة الحياة السوية، وقد تتعرض البلاد لفراغ دستوري، ولربما يمس الفراغ الدستوري دولاً مجاورة، ويغري دولاً انتهازية، كي تستغل الفوضى لغرس أقدامها، وتحقيق مكتسبات لا تحلم بها. وليس بمستبعد أن تستشري الفتن في المنطقة برمتها، فتصيب القاصي والداني، وقد ينقلب الضرر على مثيره. وأي دولة لا تضمن جبهتها الداخلية يكون الإرهاب فيها نذير شؤم على أهلها. وحينئذ لا بد من تقصي الأسباب والعمل على تلافيها، والتصنت لحسيس الداخل لا لزعيق الخارج، واتخاذ الحلول المناسبة، وعدم التعويل على الحسم بالقوة، لأن للقوة تداعياتها المضرة، وليس من الحصافة اقتصار المواجهة على مطاردة الفلول، فذلك مؤذن بتصعيد العنف، ولهذا لا بد من الفصل بين العرض والمرض، وتجاوز العرض إلى المرض. فالصداع قد تهدئه المسكنات، ولكنها لا تمتد إلى المرض المثير له. ولقد بدأت العمليات الإرهابية في بعض الدول على شكل مظاهرات فئوية أو كلية، تصاعدت بسرعة، لهشاشة الجبهة الداخلية وقابلية المجتمع للانفجار، وتحولت من الهتافات والشعارات إلى العنف والتخريب، وإشعال الحرائق، وتعطيل الحركة والعمل، والامتداد بسرعة من شارع لشارع، ومن مدينة لمدينة، حتى إذا وجد المتصدون للإرهاب أنفسهم أمام طوفان الغضب، اضطروا إلى التخلي عن مهماتهم والانضمام إلى الجماعات المعارضة التي تعبِّر عن معارضتها بنسف الجسور، وتهديم المؤسسات، وإحراق الممتلكات. وقد تعلن الدولة حالة الطوارىء، وتنزل فرق من الجيش إلى الشوارع، وعندما تستنزف الدولة كل وسائلها وإمكانياتها، تخنع أو ترحل، أو لا تتمكن من كل ذلك، فتسقط. ولقد شهد العالم أنواعاً من المظاهرات المصحوبة بالعنف الذي أسقط الحكومات. أما حين تكون الدولة شرعية وجبهاتها الداخلية متماسكة، والإرهاب فيها محصوراً في فئة قليلة، ليس لها عمق بشري، ولا مشروعية، فإن عمليات المطاردة تكشف عن فئات الإرهابيين، بحيث يسقطون الواحد تلو الآخر. وهذا اللون من الإرهاب يكون جزءاً من لعبة سياسية، استكملت مهمتها، ولم تأبه بفلول المنفذين لها، أو هو إفرازات لعبة سياسية. وأقرب مثلين «أحداث إيران» زمن الشاه «وأحداث المملكة» زمن استفحال الظاهرة في العالم، بعد الحادي عشر من سبتمبر. فأحداث «إيران» أسقطت الدولة، فيما بدأت بوادر سقوط الإرهاب في «المملكة» . وقد لا يكون الإرهاب ناشئاً من خلاف بين السلطة والأمة، وإنما هو ضد مصالح دولة كبرى منتشرة في أنحاء العالم، وعندئذ تدخل حسابات الخسائر والأرباح، وحين يتغلب الإرهابيون في نظر الدولة المحتلة، تلملم أطرافها، وترحل، تاركة البلاد تعيش حالة من الفوضى وحمامات الدم، وهذا ما نخشى وقوعه في العراق، فالتحالف أسقط الحكومة، وأحدث فراغاً دستورياً، لم يسده بعد ورحيله، وذلك مؤذن بحرب أهلية مدمرة. والمتابع للحروب الباردة والساخنة وصراع المصالح، يقف على أعمال إرهابية خطط لها المتنازعون على الغنائم، ونفذت في موقع التنازع، وعدت من المقاومة المشروعة. وقد تتشكل في الدولة الواحدة مراكز قوى متعددة، تقود البلاد إلى تناوش في السلاح، منذرة بتفكك الوحدة الوطنية وتعدد الكيانات، متى كانت تركيبتها السكانية من عدة طوائف أو قوميات أو كانت أقاليمها ذات خصوصيات جغرافية أو تاريخية. ومثل هذه الأحوال تستدعي النظر الثاقب، وعدم خلط الأوراق، ولا يمكن مواجهة أي عمل إرهابي، وقطع دابره إلا برصد دقيق لكل ملابساته، ودراسة متقصية لأسبابه: داخلياً وخارجياً، ورسم خطة ناجزة أو مرحلية لمواجهته، والحيلولة دون نمائه وانتشاره وإيقاظه للخلايا النائمة. فالمواجهة قد تكون بالمثل، وقد تكون عن طريق الحوار والتنازلات، وقد يكون الإرهاب عرضاً زائلاً، لكونه إفراز ظروف خارجية، لا يكون للبلد فيه إلا الظرفية المكانية. وليست المواجهة قصراً على رجل الأمن، وليس الحل وقفاً على المطاردة والمصادرة، وتبادل إطلاق النار، وليست التصفية حصراً على التصفية الجسدية، فإذا كان وراء الإرهابي مبادىء يؤمن بها، فإنها ستظل قادرة على التفريخ، وإذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد، فإن الكلمة المحكمة لا يفلها إلا الكلمة الأحكم، والذن يُقدِمون على العمليات الانتحارية، يستمدون إقدامهم على الموت من مبادىء يؤمنون بها، ومن علماء يزينون لهم الانتحار باسم الاستشهاد، ومثل هؤلاء لا يحسم شرهم القتل، ومن ثم لا بد من سلاح الكلمة، لتصحيح المفاهيم، وتحصين من لم يخترق الانحراف أدمغتهم.
والتصفية الجسدية قد تمتد إلى شباب غرر بهم، واتخذوا سبيل الإرهاب عن قناعة، ولو هيئت لهم حواضن فكرية ودينية وسطية متزنة وقادرة على استمالتهم وإقناعهم لكان أن تحولوا عما هم عليه، وندموا على فعلهم، ومتى أمكنت المواجهة بالموعظة والتوعية، فإن المصير إلى غير ذلك مصير إلى المفضول مع إمكان الفاضل، والمواجهة السليمة الحكيمة تكون من هذا ومن غيره، ولكل حدث حديث. والمصابون بداء التطرف والغلو والإرهاب لن يقتصر فعلهم على التفجير والاغتيال، إذ ربما يكونون أصحاب قضية، لهم أهدافهم وذهنياتهم، ولهم نظرتهم المستقبلية القائمة على الدعوة، وتنشيط الخلايا وتنميتها، وحين تكون قضيتهم عقدية فإن من الصعوبة بمكان قطع دابرهم بقوة السلاح بل لا بد من قوة الكلمة، ولقد شهدنا مؤشرات لذلك، وليس ببعيد أن يعيد التاريخ نفسه، ونرى خوارج العصر يمثلون الغلو والتطرف الذي اتصفت به طائفة الخوارج في الصدر الأول من الإسلام، ولقد شهدنا «معتزلة العصر» ممن عولوا على العقل، وهمشوا النص في «نظرية المعرفة» . والتطرف العقدي أنكى من التطرف السياسي، وإذا كانت حركة التطرف العقدي تتنامى، والشباب من حول المتطرفين يتعاطفون معهم، ويستمعون إليهم، ويتقمصون رؤيتهم، ويمارسون عملهم، فإن الحل الأمثل لا يكون في واحدية المواجهة, ولا في عنفها، ولا يكون - أيضاً - في تسامحها، ومن ثم لا بد من التفكير والتقدير والنزول بكثافة الإمكانيات العلمية والثقافية والإعلامية، لإيقاف تشكلهم الذهني ونموهم البشري، والحيلولة دون ممارستهم للدعوة والتغرير بالناشئة، ثم النظر في أساليب الدعوة والإرشاد والموعظة، وتشكيل كوادر قادرة على مقارعة الحجة بالحجة، وقادرة على اعتماد الأسس النفسية الممكنة من اختراق أجواء الآخر، واستبعاد أي أسلوب قسري فوقي متعنت، والحيلولة دون قيام أي كيان تطوعي، لا يخضع للمراجعة والمساءلة والتقويم المستمر. والمتابع للخلايا والمنفذين يدرك أن وراءهم تعبئة ذهنية منظمة وقادرة على التكيف مع الأوضاع والسرعة في تحولات الخطاب، ولما كان الإرهاب يتطلب تعبئة حسية ومعنوية، تعبئة السلاح، وتعبئة الأفكار، كان لزاماً على المسؤولين والمقتدرين من المواطنين أن تتضافر جهودهم لمواجهة التعبئتين:
- التعبئة المادية.
- التعبئة المعنوية.
ولما كانت التعبئة الحسية عند الإرهابيين قائمة على صنع المتفجرات، وتهريب الأسلحة، وتخزينها فإن المعنيين من المسؤولين والمواطنين أمام ثلاثة أنواع من أنواع التعبئة الحسية: - «التهريب» و» التصنيع» و» التخزين» ولكل نوع أسلوب مواجهة، ذلك على مستوى المواجهة الحسية، وهي أهون المواجهتين.
أما المواجهة المعنوية فإنها ذات شقين:- مواجهة الذات، ومواجهة الآخر، وكلتاهما تحتاج إلى تحرف متوازن. فالذات تحتاج إلى النقد والمساءلة والتقويم والتطوير، والآخر يحتاج إلى خطاب يراوح بين الإحكام والتفصيل، والمواجهة تكون بإزاء خطر قائم، وآخر متوقع القيام. فهناك مواجهة تتمثل بأخذ الحذر، وأخرى تأخذ بزمام المبادرة. والخطر القائم يكون قابلاً للنمو أو الانكماش أو الاجتثاث، وقد يتبدل من حال إلى حال، على سنن السباق بين أساليب الجريمة وأساليب المواجهة، وعلى ضوء هذه التوقعات يحتاج المسؤول إلى مراجعة مستمرة لكل أساليب الاحتياط والمبادرة، فذلك يحول دون جمود آلية المواجهة، واكتساب المناعة عند الممارسة الإرهابية. ولأن الجريمة والمكافحة في سباق مستمر، فكلما تفنن المكافح في آلياته تحرف المجرم في محاولاته فإن الوقوف في المكافحة ولو للحظة واحدة أو ارتهانها بالمقاومة المسلحة تمكن الجريمة من التحرف الماكر. وهكذا يستبق كل من المجرم والمكافح طريق النجاة. والظفر والنجاة مبتغى الطرفين، وكل طائفة تعد لهما ما استطاعت من قوة أو حيلة.
وما تعرض له رجال الأمن من قتل وما تمكن منه الإرهابيون من الإفلات والنجاة تعد مؤشر تفاوت في إعداد الخطط واتقانها، ودليلاً على تعدد الحيل للوقيعة في الطرف الآخر. وحين تتخذ المواجهة مساراً واحداً وأسلوباً واحداً، يتحرف الإرهابيون أنفسهم أو المخططون لهم من وراء الحجب لأساليب تمويهية، وقد تضطرهم المحاصرة إلى التحول من التفجير إلى الاغتيال، وقد يُضَيَّق الخناق عليهم، فَيُمارسون البيات، من ثم يتحولون من عصابات تنفذ الأعمال الإرهابية إلى دعاة على أبواب الفتنة، كما يجد المستفيدون فرصة التغرير والتضليل والتعبئة الذهنية، والجميع يتحينون فرص الغفلة أو الضعف أو خطأ التقدير والتوقيت والتدبير، فيما يتصور المتصدون لهم من رجال الأمن والمباحث أنهم قد قطعوا شأفتهم. ولهذا لا بد من تنوع أساليب المواجهة وتعددها واستمرار التوعية والمتابعة، ودخول المؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية والدينية طرفاً فاعلاً في المواجهة، وليس طرفا متطوعاً، وليس من المعقول ِأن تقتصر تلك المؤسسات على مواجهة نفسها ومساءلة بعضها. وفي تعدد أساليب المواجهة وتنوعها، وعدم الإذعان لمن يحيل على المناهج أو على الحركة الإصلاحية أو على بعض المؤسسات الخيرية بشائر خير. ومكمن الخطورة أن القبول بإحالة الإرهاب إلى المؤسسات التربوية والدعوية والخيرية يصرف المواجهة عن مسارها الصحيح. ومع أننا نصر على أن الإرهاب وافد على البلاد، وأن المؤسسات الإسلامية والدعوية والتربوية منه براء، إلا أن من الحصافة أن نأخذ كل شيء في الاعتبار، وألا تحملنا الثقة على الغفلة، إذ كل شيء ممكن، ولا أقل من الرصد والتحري، ووضع كل مؤسسة تحت المراقبة والمتابعة، والنظر في أساليبها التربوية والدعوية، فإذا سلم «المقرر» و» نصوصه» فقد لا يسلم «المنهج» ،وإذا سلم «المنهج» فقد لا يسلم «الموصل» للمعلومة، وإذا سلم الجميع فقد تكون «المرحلة العمرية» للطلبة غير قادرة على استيعاب المقتضيات وتمثلها، ومن ثم لزم تحديث الناس بما يعقلون، فسلامة المقرر والمنهج والمدرس قد يقابلها عقل المتلقي الذي أعطي ما لا يعقل ،ولقد نهي حملة العلم الشرعي عن محادثة الناس بما لا يعقلون، حتى لقد عُدَّ مثل ذلك من دواعي الكفر بالله ورسوله، والدعوة المرحلية سبيل الرسل. ولقد أومأ أحد المسؤولين إلى أن «مادة العقيدة» تقع في عشر ورقات، ويمكن أن تقرأ في ساعة، ولكنها مع المدرس تظل طوال العام، فماذا هو قائل؟ إذ ما من أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو الغفلة التي تمكن الماكرين من استغلال غفلته واختراق أجوائه، وليس بمستبعد أن يحرف الكلم عن مواضعه. ومن زكى مؤسساته وغفل، سبقه إليها من لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار إلا بالإفساد. وقد يعمل الإنسان لا يريد من عمله إلا الخير، وليس في نيته إلا ذلك، ولكن عمله يؤدي إلى ما سواه، وقد يندس في المؤسسات من ليسوا من أهلها، مستغلين الثقة المتبادلة ودعوى الحصانة أو العصمة. والقطاعات الأمنية والتربوية والتوعوية والإعلامية مسؤولة أمام الرأي العام عن كل ما يحصل من تقصير أو انحراف. وكل بلاد العالم معرضة للمؤامرات والمكائد واللعب الكونية، وكل مواطن على ثغر من ثغور أمته، عليه ألا تؤتى الأمة من قبله.
وإذا لم تأخذ الدولة حذرها، أخذتها المصائب من كل جانب، وليس أدل على ذلك من اختراق الحدود بأفتك الأسلحة والمتفجرات، واختراق الأفكار بأضل الأقوال. ولو كنا حذرين لما كانت الأسلحة بهذا الحجم، ولما كان الانحراف بهذه الخطورة. وصفوة القول أن تكون المواجهة حضارية متعددة المستويات، فوضع المواجهة المسلحة في موضع الحوار والتوعية مدعاة إلى مزيد من التدهور، ويقال مثل ذلك عن وضع الرأفة والرحمة والحوار موضع المواجهة المسلحة، فالمسألة مرتبطة بالأحوال، ولا يجوز الرهان على مواجهة محددة، ولكي تكون المواجهة حاسمة لا بد أن نحدد «المفهوم» و» الأسباب» و» الانتماء» فإذا وضح الأمر أمكن حسم المشكلة. وإشكالية العالم الثالث أن أموره تقضى في غيابه، وأنه لا يستشار عند حضوره، وأن خطابه نقيض إمكانياته، وأن أزماته في مؤسساته، وأن العالم المتغطرس يتخذ منه مجالاً لتصفية الحسابات واكتشاف القدرات، وكل لعبة يخطط لها، ثم لا يتقن تنفيذها، تكون مهيأة لتفريخ الإرهاب بوصفه الحل الوحيد لمواجهة التحدي.
ولا يمكن حسم الإرهاب إلا بمواجهة الذات قبل مواجهة الآخر.
|