المسار الثاني: المسار التشريعي
في مطلع هذه المقالة الثالثة أود التأكيد على مفهوم مهم ومحوري في حل قضية البطالة حلا سريعا لا مؤلما.. وهو مفهوم التعاون بين أطراف القضية الثلاثة وهم:
1- الحكومة.
2- أصحاب العمل ممثلين في مجلس الغرف.
3- المجتمع ممثلاً بالقوى الاجتماعية أو المؤسسات الاجتماعية الفاعلة.
بهدف توفير موارد بشرية وطنية ذات كفاءة وإنتاجية عالية.. وهم من أطلقنا عليهم اسم (طالبي العمل).. الذين هم الطرف الرابع في القضية.
كما أؤكد أيضا على أهمية وضرورة تعاضد هذه الأطراف الثلاثة في تهيئة البيئة ثقافيا واقتصاديا وقانونيا لتحقيق معدلات نمو اقتصادي تناسب معدلات النمو السكاني.. وما ينتج عنه من دخول أفواج كبيرة إلى ساحة العمل كل عام. إذا انطلقنا من هذه المفاهيم، وكان موقف الجميع من القضية التعاون والتعاضد لتحقيق التكامل، وسلمنا بأنّ التشريع بإصدار القوانين ووضع الأنظمة واللوائح، يهدف لتنظيم سوق العمل وحمايته تنظيما وحماية لصالح الجميع وليس لطرف على حساب آخر.. فإن ما بعد ذلك يكون أيسر، إذ إن اتفاق إرادات أطراف القضية.. وتحديد اتجاهات الحلول.. عناصر أساسية للنجاح في وضع حلول فعالة.. قابلة للتنفيذ بالسرعة المطلوبة، وللتعرف على المسار التشريعي وأثره في علاج مشكلة البطالة.. دعونا كما تعودنا في المقالات السابقة أن نتفق على التعريفات:
القانون: نصوص تنظم مرافق وأجهزة الدولة.. أو علاقات الدولة مع الأفراد.. أو علاقة الأفراد فيما بينهم. النظام: مجموعة من النصوص النظامية التي من شأنها توضيح التفاصيل اللازمة لتنفيذ القانون.
التشريعات: وهي القوانين والأنظمة واللوائح التي تصدر وفقاً للدستور أو القانون الأساسي للدولة، ونطرح الأسئلة المهمة التالية.. حيث إن الأسئلة.. كما اتفقنا.. آلة التفكير:
- من هي الجهة التي تصدر التشريعات؟
- وما هي آليات إصدار وتطبيق التشريعات المنظمة لسوق العمل؟
- هل تنظيم وحماية جميع أطراف سوق العمل ماثلة أمام الجهة المشرعة؟
- هل هناك جهات تشارك في إعداد التشريعات، ومن هي وكيف تشارك؟
- هل هناك دراسات وبحوث توضح مدى نجاح أو إخفاق التشريعات الصادرة في تحقيق إستراتيجية السعودة.. ومدى أهمية وضرورة تعديل هذه التشريعات أو إصدار تشريعات جديدة؟
- ما هي التشريعات الصادرة؟ وما آثارها؟ وكيف تعامل أطراف القضية معها؟
- هل تتناسب التشريعات السابقة مع الظرف الحالي؟
- هل كان تطبيقها سلساً أو تحت الرقابة الصارمة والحزم؟
- كيف يتدخل المشرع في الدول المتقدمة في سوق العمل؟ وأيهما أكثر فاعلية نظام السلطة أم نظام السوق؟
- وأخيرا هل نحن بحاجة إلى تقييم التشريعات الحالية بشكل يتناسب مع الخطة الإستراتيجية للسعودة بما يخدمها ويسرع في إنجاحها؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة دعونا نتفق على هذه المسلمات التي سأقتبس بعضا منها من مسلمات الدكتور القصيبي في تصريحه للصحف المنشور يوم الاثنين 29 صفر 1425هـ، وهذه المسلمات تتضمن التالي:
1- أن جميع أطراف القضية يرغبون في توطين الوظائف الحالية والمستقبلية بنسب عالية، والاحتفاظ فقط بالكفاءات الوافدة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. وللعلم، حتى أعظم الدول المتقدمة لا تتخلى عن الكفاءات الوافدة بل تعمل على استقطابها وتوطينها في آخر المطاف لما لها من أثر فعال في التنمية.
2- أن جميع أطراف القضية يرغبون في زيادة فرص العمل بمعدلات تتناسب ومعدلات النمو السكاني، وما يترتب عليه من زيادة في معدلات القوى العاملة.
3- أن أصحاب العمل وطالبي العمل هم مواطنون تعمل الدولة على تنظيم سوقهم وحمايتهم على قدم المساواة.
4- أن البيئة القانونية واللوائح والنظم قد تحفز أو تعيق المستثمرين.. وفي دراسة أعدها مكتب الأستاذ عبدالعزيز القاسم أقرّ (66%) من المستثمرين بتراجعهم عن استثمارات أساسية بسبب التشريعات وصعوبة تطبيق اللوائح والنظم الحكومية.
5- أن التشريعات والأنظمة غير المنطقية أو السلطوية تجعل الخاضعين لها يلجأون إلى وسائل عديدة للتهرب منها كالواسطة والتحايل والرشاوى.
6- لا توجد دولة في العالم.. رغم وجود نسب بطالة بها.. إلا وبها عمالة وافدة.. غنية كانت تلك الدولة أم فقيرة.
7- هناك من المهن ما يأنف منها أبناء المجتمع، نتيجة للضغط الاجتماعي لمفاهيم تكونت على مدى قرون من الزمان، وإن كانت دولتهم فقيرة، فما بالكم إن كانت الدولة غنية (كثير من العمالة الوافدة تقر بأنها لا تعمل بالأعمال المهنية التي تعمل بها في المملكة في موطنها نتيجة للرفض الاجتماعي).
8- تلاقي إرادات أطراف القضية على التشريعات.. ييسر تطبيقها ويزيد من فاعليتها.. دون الحاجة لمضاعفة فرق التفتيش وتشديد المراقبة.. فكل ينفذ ما يؤمن به.
9- أن القطاع الخاص يُعد شريكا كاملا للدولة في مهمة السعودة لا يجب إخضاعه بقوة التشريع بل بالحوار المستمر والشراكة في دراسة الأوضاع وإعداد التشريعات وآلية تطبيقها.
10- أن المنشآت التجارية أسست لتحقيق الربح.. وأن معيار نجاحها أو فشلها وقيمتها في السوق وسهولة حصولها على التمويل والتسهيلات قائم على نسبة تحقيقها للأرباح كعائد على رأس المال.
11- رأس المال جبان يلجأ إلى البيئات الأكثر أمانا واستقرارا، ومن حقه أن يفعل ذلك، بعد اتفاقنا على هذه المسلمات نقول: إن الجهة المخولة وصاحبة الحق في إصدار التشريعات في بلادنا هي الحكومة.. ممثلة بمجلس الوزراء.. وهذا أمر سيادي لا خلاف عليه.. إنما ما يمكن أن يختلف من بلد لآخر، ومن وضع لوضع.. هو آلية إعداد وإصدار وتطبيق التشريعات قوانين كانت أم أنظمة، ففي معظم الدول الرأسمالية وخاصة المتقدمة، منها هناك ثلاثة أطراف تشارك في إعداد القانون قبل عرضه على الجهات التشريعية، سواء كانت المجالس النيابية أو مجالس الوزراء..، وهذه الأطراف هي الحكومة وأصحاب العمل وجمعية أو هيئة نفع عام ممثلة للعمال.. تتحاور للوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف، وتحقق المصلحة العامة.. وهنا تكون الحكومة حيادية لا تنحاز لطرف على حساب آخر، فالطرفان متساويان بالأهمية لدى الحكومة.
إن آلية إعداد وإصدارالتشريعات العمالية في المملكة في السنوات الماضية لم تكن بالكفاءة التي تحقق تلاقي إرادة جميع أطراف القضية رغم الادعاء بالشراكة.. مما أدى إلى تباطؤ عملية السعودة من جهة وتذمر وتحايل أطرافها للتهرب من هذه التشريعات.. وكثيرا ما كان يشارك طالبو العمل بهذا التحايل عبر إعطاء بطاقاتهم الشخصية لأكثر من شركة لتسجيلها مقابل مبلغ من المال لحين إنهاء مهمة التفتيش، أو تجديد الرخصة أو الدخول في المناقصات الحكومية.
إذن علينا أن نلجأ لآلية ثانية التي- ولله الحمد- بدت بوادر تطبيقها في السنوات الأخيرة، وإن لم تكن بالصورة المطلوبة، إلا أن تحقيقها بإخلاص الرجال وصدق النوايا ممكن، وهي أن يشكل فريق عمل متخصص ومتفرغ - لا لجان أعضاؤها مشغولون عنها - وهذا الفريق يشكل من الجهات المعنية وهي الحكومة ومجلس الشورى ومجلس الغرف التجارية والقوى الاجتماعية.
يقوم هذا الفريق بدراسة جميع التشريعات الخاصة بسوق العمل، وما ترتب على تطبيقها.. ودراسة التشريعات العالمية خاصة الناجحة وظروف نجاحها.. والاطلاع على الوضع الحالي للقوى العاملة الوطنية والوافدة والوضع الاستثماري في المملكة.. ليخرج بتصورات شاملة لتنظيم وحماية سوق العمل السعودي.. حتى تتوافر فرصة عمل لكل مواطن سعودي مجد مواظب يلتزم بأخلاقيات المهنة وثقافة العمل.
ويتوقع من هذا الفريق أن يعقد المؤتمرات والملتقيات والمنتديات.. ويقوم بالزيارات.. ويستضيف الخبراء والمختصين من الخارج ويستعين بهم.. فإن الثراء الفكري والمعرفي يؤدي إلى الابتكار والإبداع في الحلول التشريعية الفعالة.
أما بالنسبة لنتائج تطبيق التشريعات السابقة ومدى كفايتها وعدم الحاجة لتشريعات جديدة كما صرح للصحافة معالي وزير العمل الدكتور القصيبي مؤكداً على أهمية تطبيقها بجدية أكبر وحزم أشد.
لقد كان ذلك مستغرباً من الدكتور غازي فقد أعلن نفسه مناوئاً لا حكماً.. وانحاز ضد أصحاب الأعمال.. فنتائج تطبيق التشريعات حسب علمي لم توثق كميا من قبل وزارة العمل.. بحيث يتم ربط تأثر كل عامل من العوامل المؤثرة في قضية السعودة كميا بالتشريعات الصادرة والمطبقة.. كأن نحصل على دراسة كمية تقول مثلا: إن نسبة السعودة في القطاع الخاص زادت بنسبة كذا نتيجة تطبيق القانون رقم (50) على سبيل المثال، والهدف كان الزيادة بنسبة كذا.. والفارق هو كذا سلبا أم إيجابا، وكان تأثيره على معدل النمو الاقتصادي كذا.. وعلى الإنتاجية كذا.. لذلك فالمواطن وصاحب العمل ومسؤول الحكومة يعتمدون على تقييم وآراء شخصية.. قد يدخل الهوى في تشكيلها.. لكنه بكل تأكيد يدخل ضبابية المعلومة في تكوينها.. وعلى كل حال فدراسة مكتب القاسم تشير إلى عدم كفايتها وملاءمتها لتخصيب البيئة الاستثمارية وتنميتها، المطلع على التشريعات السابقة.. يتضح له بأنها تشريعات مجتزأة لا يمكن النظر إليها ضمن منظومة تشريعية متكاملة للاقتصاد عامة وسوق العمل خاصة.. كما هو في الدول المتقدمة.. ويغلب عليها المنهج السلطوي الذي عادة ما يحقق الحد الأدنى من النجاح المصحوب بالإفرازات السلبية على الإنتاجية والتكلفة.. لا المنهج التشاوري التوفيقي الذي يجعل قوى السوق تتحرك بفعالية مما يحقق النفع لجميع الأطراف.. ويحقق الولاء والدعم لهذه التشريعات وتطبيقها.. وبالتالي النمو المتسارع للاقتصاد الوطني. إن التشريعات التي تلزم القطاع الخاص بتوظيف عمالة وطنية على وضعها الحالي.. تجعل سوق العمل يعاني من الاختلال والاضطراب، وهذا يضر بكل الأطراف.. فالمعرفة والمهارات والسلوكيات والقيم تراجعت بفعل عوامل عديدة أهمها الطفرة الاقتصادية السريعة، كما أن إلزام القطاع الخاص بقصر بعض المهن على العمالة الوطنية فقط والتوسع في ذلك سنويا.. دون الأخذ باعتبارات كثيرة.. منها أهمية تبادل الخبرات ورفع معايير العمالة الوطنية من خلال الاحتكاك مع الخبرات الوافدة.. والارتقاء بالتعليم والتدريب ودعم مؤسساته.. تشريعات سلطوية.. ورجال الأعمال ليسوا غير أهلنا.. فلماذا لا نتعاون بدلاً من النزع بالسلطان، أهمية تكامل منظومة التشريعات المنظمة للاقتصاد ولسوق العمل.. وتطبيقها فعليا على الجميع دون استثناءات.. إلى جانب سن قانون الحد الأدنى للأجور، وقانون منع الاحتكار.. ونظام الحد الأدنى للمناقصات في المفاضلة بين المتنافسين.. وغير ذلك.. يقود إلى حراك السوق والمجتمع، قد يقول قائل: وكأنك ضد المواطن السعودي، فأغلب هذه القوانين وضعت لصالحه فهي تلزم أصحاب العمل من جهة، وتقصر بعض الأعمال عليهم دون سواهم، فأين الخلل؟ أقول نعم: إنها حلول في ظاهرها الرحمة وفي باطنها العذاب.. تجلب السعادة على المدى القصير، وتجلب الشقاء والدمار على الاقتصاد وسوق العمل على المدى البعيد.. وإلا ما فائدة شركة نلزمها بتوظيف السعوديين اليوم، وتغلق بعد سنة؟!! ولكي أكون أكثر واقعية، تعالوا معا ننظر كيف نساعد المواطن الذي هو غاية التنمية ووسيلتها.. وكيف نميزه عن الوافد، ونجعل منه المورد البشري المفضل لدى أصحاب الأعمال، أقول يمكن دعم المواطن ليكون البديل الأنسب والأفضل بدلا من الوافد من خلال:
1- الإسراع بتطوير المناهج التعليمية والتدريبية لتتلاءم مع متطلبات السوق.
2- التعليم والتدريب المجاني والتعاوني.. أو التوسع بتوفير فرص التدريب التعاوني.
3- الدعم المالي للتدريب أثناء العمل (صندوق الموارد البشرية ).
4- وضع حد أدنى للأجور يجعل المنافسة عادلة مع الوافد.
5- تخفيض تكلفة المواطن على القطاع الخاص من خلال تحمل الدولة لحصة التأمينات الاجتماعية أو جزء منها.
6- تقديم خدمات التوظيف.
7- تقديم الدعم المالي والفني لإقامة المشاريع الصغيرة لزيادة معدلات التشغيل الذاتي.
8- تسهيل إجراءات إصدار التراخيص التجارية.
9- توعية المواطن والمجتمع بأهمية اغتنام الفرص التدريبية المناسبة لمتطلبات السوق.
10- تشجيع وتحفيز المنشآت التي تحقق نسباً عالية من السعودة من خلال الامتيازات والدعم المالي وتحسين صورتها في المجتمع.
11- مكافحة التستر، وهذا ما يفعله المشرع في الدول المتقدمة.. إذ لا يضعون التشريعات التي تمنع الوافدين من القدوم والمشاركة في التنمية.. بل يتعدى ذلك بتشجيع الكفاءات للقدوم والعمل في البلاد.. إنما يعملون دائما على دعم المواطن طالب العمل ليكون كفاءة وبديلا أمثل لدى أصحاب العمل، كما يعملون من جهة أخرى على مساندة منشآت القطاع الخاص بكل الوسائل والطرق التي تصل أحيانا لدعمها ماليا لكيلا تقفل أبوابها، وإن المطلع على العقود بين الحكومة والقطاع الخاص في الدول الغربية يجد أساليب رائعة لهذه العلاقة تكاد تصل لحد الشراكة.. حيث يحرص القطاع الحكومي على ضرورة تحقيق القطاع الخاص أرباحا من هذه العقود.. ويضع له المحفزات لا العقوبات.. بحيث تزيد أرباحه بزيادة كفاءة الإنجاز، وأخيرا أقول: إن المسار التشريعي هو من المسارات المهمة التي تضعها المؤسسات الربحية ضمن الفرص أو التهديدات المحتملة عند إعداد خططها في دراسة مكتب الأستاذ عبدالعزيز القاسم الآنفة الذكر ورد أن (81%) من متعددي الأنشطة يتجاوزون النظام عبر وسائل متعددة أهمها الواسطة مروراً بالتحايل.. و(5%) بالرشوة.. أما (89%) من المستثمرين، فيتخوفون من تغير التشريعات وتقلباتها، هذه الدراسة مؤشر ضمن مؤشرات عديدة.. ولا عيب في الخطأ، ولكن العيب التمادي فيه والإصرار عليه.. وبطبيعة الحال كل قرار صائب اليوم قد يكون الاستمرار في تطبيقه غدا خطأ لتغير الظروف والمعطيات.. وحيث إن الحياة ديناميكية والظروف كذلك فيجب أن نكون ديناميكيين وبنفس السرعة، بلادنا كبيرة جغرافياً وسكانياً.. وما صلح لنا حينما كانت بلادنا على كبرها صحراء قاحلة بتعداد سكان قليل.. لا يصلح الآن.. فالمجتمع لم يعد صغيراً.. وما يناسب المجتمعات الصغيرة.. لا يناسب مجتمعا صار بحجم مجتمعنا.. مما يستدعي مناقشة التشريعات وتحديثها باستمرار بما يتناسب والمتغيرات الضرورية. وبهذا نكون أنهينا تغطية مسار التخطيط والمسار التشريعي والمقالة القادمة سوف تكون عن المسار التأهيلي.. فإلى اللقاء.
|