* رفح النكبة-بلال أبو دقة:
في مشهد دراماتيكي اختلطت فيه مشاعر الحزن والألم بالفرح وعكس عمق المعاناة الفلسطينية خرج آلاف الفلسطينيين في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، لاسيما في مخيمات تل السلطان والبرازيل وحي الجنينة التي تعرضت خلال أربعة أيام خلت لأبشع هجمة بربرية إسرائيلية منذ بداية الانتفاضة الحالية، -خرج آلاف الفلسطينيين- ليطمئنوا على بعضهم البعض، ويلملموا جراحهم..
وفور انتشار نبأ انسحاب القوات الإسرائيلية الجزئي من المدينة المنكوبة، خرج المواطنون يحاول كل واحد منهم الاطمئنان على جاره وزميله وصاحبه ومعرفة ماذا أصاب حيهم ومخيمهم، لاسيما وأنهم كانوا لا يستطيعون خلال أربعة أيام مضت النظر حتى عبر نوافذهم بسبب الاستهداف المباشر لهم ولمنازلهم، من قبل قناصة الاحتلال الهمجي.
وبدت مدينة رفح ومخيماتها وأحياؤها كمدينة أشباح، ركام منازل وخراب في البنى التحتية، لا ماء ولا كهرباء، ولا شبكات صرف صحي، البنية التحتية مدمرة، أعمدة الكهرباء والهاتف ملقاة على الأرض، والمنازل والمحال التجارية خربتها آلات الحقد الصهيونية.. وجثث بعض الشهداء، الذين زاد عددهم عن (58 شهيدا) ما زالت في ثلاجات حفظ الخضراوات بمستشفى الشهيد أبو يوسف النجار، وفي محلات أخرى، والمصابون الذين تجاوز عددهم الـ(160)مصابا يرقدون على أسرة مستشفى المدينة وفي العيادات الخاصة، وفي مستشفيات مدينة خان يونس المجاورة..
وأفادت معلومات أولية من مدينة رفح المنكوبة، وصلت الجزيرة أن أكثر من مائة عائلة فلسطينية هجرت منازلها، خلال الأيام الأربعة الماضية، بعد أن قامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بهدم تلك المنازل في مناطق مختلفة من مدينة رفح، ليتشرد أكثر من (1000 شخص) وفقاً لإحصائية نشرتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الانوروا)..
هذا وأظهر تحقيق ميداني أجراه باحث يعمل في مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم): أن الاحتلال هدم 62 منزلا فلسطينيا في اليومين الماضيين فقط، في حيي البرازيل والسلام في مدينة رفح، وتتوزع هذه المنازل على النحو التالي: (44 منزلا) في حي البرازيل، و(18منزلا) في حي السلام، وقد تسبب هذا الهدم الهمجي لمنازل الفلسطينيين في هذين الحيين فقط، في تشريد أصحابها البالغ عددهم 741 شخصا..
الجزيرة تعرض شهادات حية.. ووصفاً لمشاهد مؤثرة من مدينة رفح المنكوبة..
وتعرض هنا الجزيرة شهادات حية ووصفاً لمشاهد مؤثرة من مدينة رفح المنكوبة، فهذا المواطن الفلسطيني، اسعد أبو جزر من حي تل السلطان المنكوب يتذكر أربعة أيام خلت وصفها بأنها الابشع التي مرت عليه في حياته، قائلا: منذ فجر يوم الثلاثاء الموافق 18-5-2004 ونحن نعيش حالة يرثى لها وكأننا وسط حرب شوارع يستهدف فيها كل شيء، كانت النيران تطلق علينا من كل جانب، وأشار بيده إلى منزله الذي امتلأت جدرانه بآثار الطلقات النارية من كل الجوانب، مستذكرا بمرارة انه ومع اشتداد العملية العسكرية وإطلاق النار العشوائي اضطرت عائلته إلى المكوث في غرفة واحدة مع بعضها البعض خوفا من قيام جندي حاقد بإطلاق قذيفة دبابة أو صاروخ على المنزل، موضحا: أن أربعة أيام سوداء عاشها مع أطفاله العشرة في غرفة واحدة مع النذر اليسير من الطعام والشراب..
أما حال المواطنة الفلسطينية، سرية المغير (42 عاما) والدة الشهيدين الطفلين احمد وأسماء، اللذين قضيا في أول يوم من أيام الاجتياح في منطقة تل السلطان، فقد خرجت هائمة على وجهها فور سماعها خبر الانسحاب، توجهت مسرعة إلى مستشفى أبو يوسف النجار لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على طفليها الذين قضيا في لحظة غدر، ألقت نظرة الوداع على جثمانيهما المحفوظين في ثلاجة لحفظ الخضار في المستشفى، بسبب تكدس الجثث هناك..
وتجلى موقف ومشهد آخر مؤثر في قصة مواطنة فلسطينية، تدعى سميرة أبو عنزة، والتي وضعت مولودا ذكرا، خلال فترة الحصار قالت للجزيرة: إن المخاض جاءها في فترة كان القصف على أشده ولم تعرف لا هي أو زوجها كيف يتصرفان، موضحة أن زوجها قام بإرسال مناشدة عبر إحدى الإذاعات المحلية وتم تحديد مكانها، وجاءت سيارة الإسعاف بعد فترة لنقلها إلى المستشفى وهناك وضعت مولودا ذكرا، وقالت انها اضطرت للذهاب للمستشفى وحدها وتركت زوجها في المنزل مع الأطفال، كون الوضع كان صعبا للغاية، إذ ليس من المعقول ترك الأطفال لوحدهم في بيت مهدد بالهدم أو القصف..
وفي معادلة ربانية، أوضح الدكتور على موسى مدير مستشفى أبو يوسف النجار للجزيرة: أن مستشفى رفح شهد ولادة 39 طفلا من الذكور، في وقت قتلت فيه قوات الاحتلال خلال أربعة أيام خلت (21 طفلا) من أطفال المدينة..
أما المواطن الفلسطيني عاطف الشاعر من تل السلطان في المدينة، قال، لمراسل الجزيرة: إن ما شاهده من ممارسات احتلالية أفقدته أعصابه، وقال إن عائلته تضم 35 شخصا بينهم عدد من الأطفال كانوا يصرخون ويركضون من زاوية إلى أخرى بعد أن امتنعوا عن تناول الطعام، مضيفا: أن من أشد المشاهد مأساوية جثث الشهداء الملقاة في الشوارع والتي سارع العديد من المواطنين لسحبها رغم تعرض كل من يحاول الاقتراب منها للخطر، إن بعض الجيران تمكنوا من سحب جثة شهيد عن طريق الأسلاك الحديدية من مسافة 15 مترا بعد أن تعذر الوصول إليها من خلال سيارات الإسعاف، حيث تم وضعها في ثلاجة أحد الجزارين.
وتقول المواطنة أم آلاء عدوان للجزيرة: إن أطفال عائلتها توقفوا عن دخول الحمام إلا بصحبة أمهاتهم حتى أثناء التحرك داخل الغرف فإنهم يمسكون بثياب أمهاتهم وآبائهم، مؤكدة أن أهالي رفح توقعوا أن تشمل عملية الاجتياح شرقي رفح وليس الناحية الغربية وحي تل السلطان، وتؤكد أنهم فوجئوا في ساعات الفجر بدخول الآليات الاحتلالية دون سابق إنذار.. وقالت المواطنة الفلسطينية: إن جميع جدران المنزل أصيبت بالثقوب والاهتزاز جراء عمليات القصف والتدمير للمنازل المجاورة..
وعاد المواطنون الفلسطينيون في مدينة رفح، الذين هدمت منازلهم وتم ترحيلهم إلى مراكز إيواء ومدارس والملعب البلدي، عادوا بعد انسحاب القوات الإسرائيلية إلى منازلهم ليروا ما حل بها، وليحاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقفت أم فلسطينية من عائلة قشطة، على أنقاض منزلها وهي تحاول إخراج بعض متعلقات أطفالها من تحت الركام، رافعة أكف الضراعة إلى الله بأن ينتقم من المعتدين، وقالت باكية: كل شيء تحت الركام، ملابس وكتب المدرسة لأطفالنا، ماذا سيفعل أطفالنا والامتحانات على الأبواب، متعلقاتنا الشخصية بقيت تحت الركام، ذكرياتنا طمرت تحت....!!!
|