Monday 24th May,200411561العددالأثنين 5 ,ربيع الثاني 1425

     أول صحيفة سعودية تصدرعلى شبكة الانترنت

انت في "مقـالات"

فتِّش عن القمع! فتِّش عن القمع!
د.عبد الرحمن الحبيب

بينما كنت أمارس رياضة المشي اليومية، عبرت في إحدى الحارات بساحة مواقف سيارات خالية، غالباً ما يتواجد بها الأطفال والمراهقون يلعبون ويلهون، وأحيانا يخرج آباؤهم في دردشات بينهم.. ومررت بثلاثة أطفال يلاحقون قطة صغيرة ويرمونها بحصيات صغيرة ويعبثون بها، توجهتُ نحو أكبرهم ويظهر أنه في التاسعة من عمره وسألته مبتسماً: لماذا تؤذون هذه القطة المسكينة؟ قال: (حنا قاعدين نلعب)، فقلتُ: ألم تتعلم في المدرسة أو المنزل أن إيذاء الحيوان عمل سيئ؟ رد ضاحكاً: (أصلاً كل يوم أبوي يطقني!) اقتربت من أحد الآباء الذي كان لاهياً في حوار مع آخر، وقلت له ضاحكاً: الظاهر أن هؤلاء الأطفال لم يجدوا غير تلك القطة المسكينة كي يلعبوا بها.. ألا تنصحونهم؟ فرد بضجر أعباء تبدو في قسمات وجهه: (يا شيخ خلهم يتلهون عنا ويفكونا!)
وبعد ساعة، في طريق عودتي من المشي، رأيت مراهقاً يضرب بعنف ذاك الولد الذي حادثته، فقلت له: (يابو الشباب ترفق على هالطفل!) فرد عليَّ: (هو الجاني، لقد أنكر أنه لمس الكرة بيده كي يتهرب من الفاول، هذا قانون الكرة)... وكشخص سلبي أكملت طريقي إلى منزلي دون تعليق، وتخيلتُ أن هذا المراهق الصنديد، سيواجه ضرباً مبرحاً في المنزل جراء تمزق ثيابه، أو شيئاً من هذا القبيل.. ولم يكد الخيال يجنح بي حتى رأيت أحد الآباء يجري نحو ذاك المراهق، يمسك طوق ثوبه من الرقبة ويدير جسم المراهق ثم يهوي عليه بصفعة مدوية أسقطته أرضاً.. أكملت موقفي السلبي ومضيتُ!!.
عنفٌ للتسلية، وعنفٌ لإحقاق القانون، وعنف للتربية.. دوامة من التعسف في استخدام القوة وسلسلة قمع مترابطة لا تنتهي.. والغالبية مقرّة هذا النمط باعتباره أمراً مألوفاً لا غبار عليه.
رجل عامل يتعرض للاستغلال من رب العمل يمارس قمعه على زوجته وأبنائه، وزوجته بدورها تمارس القمع على بناتها وربما أبنائها.. وفتاة تجبر على الزواج بعلمها أو دون علمها وتصادر كل حقوقها، وفتى يجبر على دخول كلية معينة برضاه أو بعدمه.. الذي بدوره يمارس الفوقيه الذكورية على أخواته الإناث اللواتي يضطهدن الخادمة التي تتسلط على صغار الأطفال إن تمكنت.. والصغار يمارسونه على الأصغر والأصغر يمارسه على الطيور والحيوانات الصغيرة.. الخ.
هنا تشكل العائلة الأبوية القمعية صورة مصغرة للمجتمع ككل.. وقد وجدت الباحثة دعاء ممدوح (أن التسلط هو أبرز سمات التربية في مجتمعاتنا العربية). من أبرز سمات هذه التربية وتلك الموروثات التسلط والسيطرة، وأحيانا الاستبداد.
وهو ما يبرز بوضوح من خلال متابعة الاستشارات الواردة.. فقد عكست صورة واضحة من هذا النوع من التربية الذي يتسلل إلى تصرفات الآباء مع أبنائهم عمداً أو سهواً أو خطأً، بل قد يغلب هذا الأسلوب على تصرفات الآباء والأمهات مع أبنائهم الرضع!!. وقد تأتي التربية المسيطرة بدافع الحب والحماية المبالغ فيها.. إنه حب مريض، لأنه امتلاك لشخصية الابن أو البنت، واستحواذ على حقوقها وسلبها إرادتها وتربيتها على الطاعة العمياء والخضوع، ومن ثم تشويه هذه الشخصية؛ على نقيض الحب الإيجابي الذي يمنح الحنان ويعطي الحرية ويغرس الاستقلالية ويربي على الثقة ويحفز على الإبداع.
فالتربية والتنشئة الاجتماعية (قبل المدرسة والإعلام) تعد أهم عنصر مؤثر في بناء الشخصية لأنها تؤسس لأنماط من السلوك والعاطفة والاتجاهات الأخلاقية والعقلية والمهارات.. والمثال الذي سقته في بداية المقالة هو، في تقديري، جزء من الوضع العام في المجتمعات العربية الذي تتأسس إحدى لبناته على القمع (سيطرة القوي على الضعيف) عبر علاقات عديدة من اضطهاد الكبار للصغار، الذكورة للأنوثة، الغني للفقير، المعلم للطلاب، الشيخ للمريدين، الرئيس للمرؤوسين، العسكري للمدني.. وهلم جرا، رغم وجود تشريعات وأنظمة (نظرية في الغالب) تحاول الحد من هذا التسلط أو التعسف في استغلال التفوق الاجتماعي.
وليست هذه العلاقات حلقات منعزلة، بل إنها سلسلة متداخلة تدعم بعضها البعض وتتفكك بتفككها، وتشكل منظومة سلوكية وفكرية تنمي في المجتمع روح الخوف من العقوبة المتعسفة العشوائية مما يدفع إلى اللجوء إلى الكذب والخداع واستمرائه لدرجة الإدمان، مفضياً بذلك إلى عدم الشعور بالمسؤولية واللامبالاة والتبلد والأنانية من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أن تغذي هذه الحالة القمعية والافتقار للحوار والتناقد روح التعصب والتطرف والعنف..
من الضروري البحث في جميع حلقات القمع المترابطة في مجتمعنا، فالاستغلال والتعسف والاضطهاد ليست منوطة بجهة دون أخرى، بل هي منتشرة حتى في الجهات المفترض فيها أن تكون أكثر الجهات انفتاحاً على النقاش والمعرفة المتنوعة والتسامح والتحاور بين المختلفين كعملية التعليم، التي نراها في أغلب مجتمعاتنا العربية مركزاً للتشدد والطاعة العمياء.. وفي ذلك يعلق حليم بركات: (إن عملية التعليم التي لا تحصل إلا بالاقناع والنقاش الحر تتم في أجواء تسلطية، ولذلك أليس من الطريف أن تشير الخادمة إلى سيدتها بمعلمتي، والمتدرب إلى صاحب الحرفة بمعلمي، لذلك نجد مؤسسات التربية، مؤسسات تدريب في خدمة النظام، لا مؤسسات تعليم في سبيل معرفة الحقيقة والنمو بها).
الرهان الحقيقي هو في بناء الإنسان من الداخل، وهذه لن تتم إلا بتربيته وتنمية ذاته عبر تنشئته على الإقناع العقلاني والتفكير العلمي والنقد الذاتي والنقاش المفتوح والإبداع المتجدد لينشأ إنساناً حرَّاً يقظاً يصون كرامته وحقوقه، ومن ثم يساهم في بناء مجتمعه ووطنه، فإنسان مشوه الشخصية (خائف، خاضع، مقيد، متبلد) لن يستطيع مساعدة وطنه على التنمية والبناء ناهيك عن مواجهة التحديات والصعوبات الضخمة.


[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][الأرشيف][الجزيرة]
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الىchief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الىadmin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright, 1997 - 2002 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved