متى بلغ الطفل سن السابعة أصبح يتشوق إلى الخروج من بيئته العائلية الضيقة، ابتغاء توسيع معارفه وانفتاحه على الحياة. ويبلغ هذا الميل أوجه في سن الثانية عشرة.
لذلك لا يسع الأهل إلا أن يطاوعوا هذا الميل الغريزي لدى أولادهم، وأنهم يخطئون إذا حاولوا أن يحصروا أولادهم في بيئة ضيقة بحجة الحفاظ على أخلاقهم.. فإن ميول الطفل أشبه بالسيل يستحيل صده وارجاعه الى الوراء.. وإنما المهارة كلها في توجيه هذا السيل أي مجموعة هذه الميول وهذا النشاط المتدفق في نفس الأولاد.
ومن القضايا الواجب على الأهل أن يفسروها للأولاد في هذه السن، قضية المال وجهات استخدامه.
قالوا إن المال خير خادم وشر سيد، وليس أصح من هذا القول.. غير أن المال شر لابد منه ولا ينفعك شيء أن تتغاضى عن هذه الحقيقة.
وبما أن الولد متشوق الى معرفة كل الأمور فأية فائدة ترجى من الكتمان والتستير؟.
المال وسيلة العيش لا غايته ينبغي النزول الى مستوى عقل الطفل وتفسير منافع الدرهم بحيث يجتنب مساوئه ولا يعقد عليه إلا الشأن الذي يستحقه.. فيستحسن أن يفهم الطفل سريعا أنه لا خبز ولا ملابس ولا كتب ولا أقلام آلخ بلا مال.
ثم ينبغي أن يفهم الطفل الصلة الوثيقة بين المال والعمل فلا درهم بلا مشقة وعمل وجد، وينصح علماء التربية الآباء والأمهات باجتناب كل حديث يتعلق باستجلاب المال من المصادر السهلة التي لا جهد فيها ولا عناء، كالميراث مثلاً.
أما المصادر غير المشروعة كالسرقة فبحجة أولى ينبغي اما تحاشي ذكرها واما استنكارها والطعن اللاذع في كل من يعول عليها لاستجلاب المال.. وليس المقصود من هذه التربية تخويف الطفل من (الذنب) الأخلاقي فقط، بل إنما المقصود أيضا هو تبيين بطلان كل مشروع غير قائم على التعب وعرق الجبين.. فلن يتعلم الولد قيمة الدرهم ما لم يقتنع بوجوب المشقة والعمل لكسبه.
ومن المستحسن جداً في نظر الخبراء أن يصطحب الوالد والوالدة خاصة، أولادهما الى السوق وقت المشتريات المنزلية لكي يفهم الولد بطريقة اختبارية النظام الاقتصادي العام المركب على المبادلة الدائمة بين مقدار من المال ومقدار من البضائع والأصناف المعروضة في السوق.. فإن هذه (المقايضة) بين الدرهم وما يقابله من مواد ضرورية للحياة، تجعل الطفل يفهم مع التكرار، ان كل درهم إنما هو قطعة عمل وجزء من تعب أهله وليست له فائدة سوى شراء الحاجات اللازمة للمعيشة.
ويستحسن أيضا أن تكلف الأم ابنها أو ابنتها بالذهاب الى السوق أحيانا وشراء بعض لوازم البيت، لكي يزداد الأولاد خبرة بفوائد المال وجهات استخدامه كوسيلة لا كغاية.
قال اقتصادي من المشاهير، انه فهم نظام المبادلات وأركان الاقتصاد عندما كان يرافق أمه الى السوق ويراقب الناس ويتأمل، وهو صبي في سن الثانية عشرة، في شتى وجود هذا التبادل الدائم بين قطعة النقود وصنف البضاعة التي تحملها أمه في سلتها وتعود بها الى البيت.. وفي ذات يوم طلب من أمه أن تشتري له دراجة فحسبت أمه ما بقي لديها من النقود وقالت له إنها لا تكفي! فتعجب وظل مدة أيام يتساءل عن معنى هذه العبارة:
(النقود الباقية معي لا تكفي لشراء دراجة) وأخذ يمطر والده وابلا من الأسئلة ابتغاء الفهم.. ولما قال له والده: إني لا أكسب في الشهر سوى كذا مبلغ ولابد لي من توزيعه بكذا طريقة لشراء اللحم والحليب والخبز والكتب المدرسية والملابس اللازمة لك ولاخوتك الخ.. فكأنما أضاء نور فجائي في عقل ذلك الولد، وظلت تلك الأفكار تخامر ذهنه حتى وضع نظرية اقتصادية فيما بعد، أوضح فيها الرباط بين الدرهم الذي ليس سوى قطعة عمل من تعب والده، والمواد اللازمة لمعيشة الانسان.. وهكذا يتعود الأولاد منذ حداثتهم على ربط المال بالعمل، ويفهمون أنه رمز وصورة، وليست له فائدة إلا بقدر ما هو وسيلة لشراء أسباب المعيشة.
وفضلا عن هذه المنافع الذهنية المرجوة من تكليف الأولاد بالذهاب الى السوق لبعض المشتريات، هناك منفعة تربوية أخرى، وهي أنهم يشعرون بسرور نفسي إذ يلاحظون أن أهلهم يثقون بهم ويعتمدون عليهم ويعتبرونهم كما يعتبرون (الكبار) ومعروف أن الطفل يحب أن يتمثل بالكبار وان يتشبه بهم.
|