في عددها الصادر بتاريخ 16-7-1424هـ نشرت جريدة (الحياة الجديدة)؛ وهي منبرٌ إعلامي متألق في فلسطين الحبيبة، ترجمة لمقال الكاتب اليهودي ب.ميخائيل، المنشور في جريدة يدعوت الإسرائيلية، تحت عنوان: (سئمنا تحكّم الجنرالات في حياتنا).
والواقع أن قارئ المقال (للوهلة الأولى) يرى كاتبه كما لو كان حمامة سلام، أما إذا تأمل عدداً من عباراته فقد يُطلق صافرة الخطر، ويرفع حالة التأهب إلى اللون البرتقالي وربما الأحمر حسب المواصفات الأمريكية، إذ يجد نفسه أمام مخلوق عجيب؛ ظاهره حمامة بيضاء، وباطنه ثعلب أسود ذو مهارة فائقة في تغليف مكره وحقده بورق سيلوفان ناعم لامع يشع وئاماً وبراءة.
توّجَ الكاتب مقاله بذلك العنوان ليبتعد بالقارئ عن كونه امتداداً للعصابات الصهيونية الغاصبة للأرض والهاتكة للعرض والقاتلة للإنسان الفلسطيني والسارقة لثرواته وخيراته، ويذهب إلى أبعد من ذلك فيوهم القارئ بأن المسألة تنحصر فقط في تلك العصبة العسكرية التي تتولى السلطة وتتحكم في الشعب اليهودي؛ المسالم! المسكين! الآمن في أرضه! والمغلوب على أمره! وتفقده الأمن والسلام! يقول: (لقد ضاقت النفس ذرعاً من تكرارية الدماء التي لا معنى لها.. ضاقت النفس ذرعاً من الضياع العاجز بين الشرور الأصولية والنزعات العسكرتارية.. ضاقت النفس ذرعاً من تلك الثلة من الجنرالات العنيدين الذين عقدوا العزم على عدم السماح لإسرائيل بالخلاص من دوامة الدماء في أي وقت من الأوقات).
ثم يُطلق عبارات تجيش تعاطفاً واستنكاراً لما أصاب الشعبين اللبناني والفلسطيني في لبنان، فيقول: (هناك أيضاً افترسنا، وضربنا، وحطّمنا، وعلمناهم درساً، ودمّرنا البنى التحتية، وسحقنا القادة)، وفي عبارة أخرى يتقمّص الكاتب دور ملاك الرحمة فيبوح بألمه وحزنه للمجازر الصهيونية الحاقدة التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني في صبرا وشاتيلا، ولكن دون أن يُفصح، يقول: (وهاجمنا بالوحدات الخاصة المطورة والمحسنة التي نفّذت عمليات رهيبة)، وبالطبع قال رهيبة ولم يقل إرهابية.
ثم تضيق نفس الكاتب من جديد ويعاود شفقته على الفلسطينيين فينتقد وبقوة مواقف جنرالاته قائلاً: (كفى، لقد سئمنا هذه الدراية العسكرية الدموية.. عندما يطلقون النار على طفل فلسطيني فهو يموت بالضبط مثل الطفل اليهودي.. وإذا ألقوا قنبلة على بيت فلسطيني فأعضاؤه تتناثر مثلما تتناثر أعضاء اليهودي، وعالم الأم الفلسطينية يسقط فوق رأسها تماماً مثل الأم اليهودية الثكلى فليرحمها الله ويحيطها برأفته).
ولعل المتأمل في العبارة القادمة يرى بوضوح كيف يستخدم الكاتب مخالبه فيمزق قليلاً من ورق التغليف السيلوفاني ويعلن بثبات أن القضية ليست سوى الأراضي المحتلة في حزيران 1967م، أما الأراضي الأخرى فهي أراضيهم وقُضيَ الأمر؛ يقول: (إسرائيل المستعدة للدفع بكل ثمن بما فيه الدماء الزكية فقط حتى تبقى محتفظة بما احتلته في حرب حزيران).
ويُلاحَظ هنا أنه (عن قصد) يفصح أكثر عن مكره وحقده، فيقول: (أصبح من الأجدر القول بصوت مسموع: لا، ليس عرفات هو المشكلة وإنما شارون. ليست السلطة الفلسطينية هي الرافضة للسلام وإنما إسرائيل التي ترفض إعطاء الغير ما تريده لنفسها)، وهو بذلك يُشعر القارئ أنه ينطلق بهذا القول من خندق العدالة والنزاهة، بينما هو في واقع الأمر يود (خائباً) إشعال نار الفتنة في الشارع الفلسطيني، فالأخ الرئيس ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية لم يوافقا على منطق السلام الذي أشار إليه في ختام مقاله، وإلا لانتهى الأمر في القاهرة مع (باراك)؛ رفيق درب الكاتب.
ثم تتأجج مشاعر الغضب لدى الكاتب تجاه الحكومة الحالية، ويشن عليها حرباً لا هوادة فيها، كما لو كان مُقْدِماً على ترشيح نفسه للانتخابات، ومن يدري فقد يكون ذاك مراده، يقول: (أيضاً ملت النفس هذه الحكومة الفوضوية الفاسدة المكونة من مجموعة من المشبوهين.. هذه الثلة التي حوّلت إسرائيل خلال ثلاث سنوات إلى النظام الاحتلالي الأكثر قسوة على وجه الأرض، وحولوني أنا إلى شريك (في الفشل والتمويل) في تنفيذ قائمة طويلة من جرائم الحرب، وقد ضاقت النفس ذرعاً في انتظار الشعب المعمي الأبصار الذي يتوانى عن إدراك الأمر أخيراً ويتحرك لإزالة هذه الثلة الفاشلة.. ويضع على رأسه قائداً ذا عيون في رأسه وقوة في عضديه وليس العكس)، وهكذا يُفهِم القارئ أن النظام الاحتلالي لم يكن قاسياً إلا خلال تلك السنوات الثلاث فقط!
ثم يتنصّل (ميخائيل) (مؤقتاً) من صهيونيته وصهاينته، ويلبس جبة اليهودي وقبعته ليستعرض تاريخ اليهود وأمجادهم على مرّ السنين؛ ويقول: (مؤرخو المستقبل سيجدون صعوبة في تصديق أن هذا الشعب نفسه الذي ركع له الأعداء والأصدقاء على حد سواء بسبب حكمته وذكائه قد أخرج من صفوفه أشخاصاً مثل وولتر رتناو، وشارون، وموفاز، ويزراعيلي، ويشعياهو ليفوفيتش، وعاموس جلعاد)، ولست أدري لِمَ خلت لائحته من (باراك)، وبيريز، ورابين، ونتنياهو، وشامير، ودايان، وجولدا مائير، إلى آخر القائمة؛ صاحبة الإنجازات الهائلة في الإجرام والإرهاب!
ثم يختم الكاتب بما أشرت إليه أعلاه؛ إذ يطرح مرئياته لحل القضية، فيقول: (يجب المساعدة في إقامة دولة فلسطينية في حدود حزيران، وتكون القدس عاصمة لها ولإسرائيل، ومساعدة سكان المستوطنات للانتقال إلى إسرائيل)!!
هكذا جاء حل القضية عبر قلم الكاتب اليهودي؛ الذي يَستشهد البعض بما يُظهر من الحق في كتاباته، ويَنظر إليه (أحياناً) بعين الرضا!! وأنا أقول نعم هناك بعض الحق فيما يكتب، ولكنه الحق الذي يُراد به باطل، إلا إذا قبلناها دولة على أرض حزيران 1967م منزوعة السلاح، والمياه، والسماء، والحدود، تلتف إسرائيل حولها في كل اتجاه؛ الخروج منها بتصريح والدخول إليها بتصريح،؟! ثم إذا قبلنا التنازل عن القدس أو عن أربعة أخماسها؟! والأهم من ذلك كله إذا قبلنا بالذي لم يتطرق إليه الكاتب مطلقاً؛ وهو التنازل عن حق العودة لحوالي أربعة ملايين فلسطيني مبعثرين في شتى بقاع العالم؟! ويبدو أن الكاتب لم يأت على ذكر هذا الأمر إدراكاً منه بأن (حق العودة) هو الحق الذي لا يملك أحد (مهما كان) حق التنازل عنه، وأنه الحق الذي بإذن الله سيعيد كل الحقوق.
|