اقتحام المجهول........3-4
من مظاهر ارتباط حركة الدفاع الاجتماعي بالأفكار القديمة من الناحية الفلسفية والأخلاقية، ولاسيما تحليلات أرسطو وأفلاطون وبروتاجوراس، ما ذكره أستاذ الفكر اليوناني الحديث كارانيكس Karanikas أن الفلسفات القديمة تعتبر أن الإنسان الفاضل هو الذي يتحلى بالعلم والتربية السليمة ويقابل هذا في الفكر المنبثق عن حركة الدفاع الاجتماعي تكوين ما يعرف بالإنسان العادل المنصف المحب لغيره، وكذلك الأفكار التي ترتبط بالإنسانية مثل: الحب، والتضحية، والعدل، والأفكار التي تهتم بالإنسان لمجرد إنسانيته وتعمل على تحقيق سعادته، وتوجه له العون لكي يتغلب على الأزمات الناتجة عن عمليات التقدم التكنولوجي وتعقيداته. ومن هنا ركزت حركة الدفاع الاجتماعي على حماية الصفات الإنسانية في المتهم، ومن مظاهر هذه الحماية: أن تهدف النظم التشريعية والقضائية إلى استعادة الجاني إلى وسطه الاجتماعي عضوا نافعا، وهي بهذا تدافع عن المجتمع ضد جرائم العود بخاصة. وقد أوضح مارك آنسل وهو أحد رواد هذه الحركة في النصف الأخير من القرن العشرين أنه من المهم فهم التطور التاريخي لمفاهيم حركة الدفاع الاجتماعي، ومنها أن هذه الحركة جاءت كرد فعل للمذاهب والأفكار الكلاسيكية القانونية والقضائية المتخلفة التي سادت المجتمعات خلال العصور الوسطى بخاصة.
****
وقد كان من نتائج حركة الدفاع الاجتماعي ؛ ظهور تشريعات قضائية كبرى في أوروبا وأمريكا، وبعض الدول مثل بلجيكا أطلقت على هذه التشريعات مسمى قوانين الدفاع الاجتماعي، ومن العلماء الذين كان لهم جهد بارز ، العالم الإيطالي جراماتيكا الذي رأس الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي، وكذلك مارك أنسل نفسه الذي خلف جراماتيكا في رئاسة هذه الجمعية إلى أن توفي سنة 1990م والذي استطاع أن يحدث نقلة هائلة في النظم العقابية والسياسات الجنائية في كثير من دول العالم إلى درجة أصبحت معها أفكار حركة الدفاع الاجتماعي نوعا من الإلزام القضائي عند الدول التي أخذت بها. ويندرج ضمن مبادئ الإصلاح القضائي والتشريعي في العصر الحديث وبعد ظهور حركة الدفع الاجتماعي أن يتم إعمال مبادئ العقد الاجتماعي بصورة عادلة، انطلاقا من حاجة أي مجتمع من المجتمعات إلى تنظيم العلاقات بين أفراده وجماعاته بواسطة سلطات مؤهلة للقيام بهذا الدور، فالأفراد في أي مجتمع بحاجة إلى توفير الأمن والطمأنينة وسبل العيش بهدوء وراحة، وهذه الحاجة هي التي أدت بأفراد المجتمع إلى الدخول في حالة العقد الاجتماعي الذي يتمثل بقيام كل منهم بالتنازل عن جزء من حقوقه وصلاحياته لصالح هذه السلطات لتتولى تنظيم العلاقات بين مختلف الأفراد والجماعات، وهذه السلطات تضم عددا من الأجهزة، والتي لابد أن تكون لها صلاحيات واسعة ومتنوعة، بقدر تنوع وسعة أمور المجتمع في كافة مجالات الحياة، وهي تشمل إدارة أمور الدولة داخليا وخارجيا، وسن الأنظمة، وتفسير وتطبيق هذه الأنظمة، والحكم في النزاعات بين مختلف الأفراد والجماعات.
والوضع الطبيعي أن تكون السلطات بيد أبناء المجتمع، وهم أصحاب الحق في اتخاذ القرارات المهمة المتعلقة بمصير مجتمعهم، ولهم الحق في أن يفوضوا من يرونه مناسبا لممارسة هذه السلطات نيابة عنهم، وفق أسس وقواعد محددة متفق عليها، ودور السلطات هنا يكمن في ممارسة الصلاحيات التي منحها أفراد المجتمع لها في إدارة شؤونهم وتنظيم حياتهم، ومن هذا المنطلق فإن المهام التي تضطلع بها السلطات في الدولة تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
أولا: مهام تشريعية
وتتمثل في سن الأنظمة والتشريعات لتحقيق مصالح مختلف الأفراد وصون حرياتهم، والمحافظة على كيان المجتمع ومنع انهياره، بل والعمل على تقدمه وازدهاره، وتضطلع بهذه المهام السلطة التشريعية، وقد تكون هذه السلطة في بعض البلدان منتخبة من الشعب وتعبر عن إرادته، وللسلطة التشريعية مسميات تختلف من بلد إلى آخر، مثل: البرلمان، مجلس النواب، مجلس الشورى، مجلس الشيوخ، ومن مهام هذه السلطة أيضا إيجاد ظروف اجتماعية واقتصادية وحضارية تضمن كرامة الإنسان، وتصون حقوقه من خلال الأنظمة التي تسنها، وعادة ما يتمتع أعضاء هذه السلطة بالحصانة التي توفر لهم الحماية من إرهاصات السلطة التنفيذية.
ثانيا: مهام قضائية
وتتمثل في تفسير الأنظمة والقوانين، والحكم في المنازعات وفق هذا التفسير، وتضطلع بهذه المهام السلطة القضائية فتقوم بالحكم في المنازعات بين الأفراد والجماعات، وتراقب تنفيذ أحكامها من قبل مختلف الجهات داخل المجتمع، كما تعمل على منع انتهاك حقوق الأفراد، وهذه السلطة تمارس مهامها من خلال المحاكم التي تتوزع على أنواع ومسميات مختلفة من بلد إلى آخر، مثل المحاكم المركزية، محاكم الاستئناف، المحكمة الدستورية العليا، المحكمة المستعجلة، المحكمة الابتدائية، المحكمة العامة، محكمة التمييز، المجلس الأعلى للقضاء، ويتمتع أعضاء هذه السلطة بحماية وحصانة مكفولة في مواد التشريع لحمايتهم من ضغوط ونفوذ جميع السلطات عدى سلطة النظام أو التشريع نفسه.
ثالثا: مهام تنفيذية
وتتمثل في تنفيذ الأنظمة التي تم تشريعها و تلك التي نشأت عن حكم قضائي، وتضطلع بهذه المهام السلطة التنفيذية المتمثلة بجميع الأجهزة والمؤسسات الحكومية، وغايتها تفعيل النظام وتوفير الأمن للمواطنين والمقيمين، وتخضع هذه السلطة في المجتمعات المتقدمة لرقابة السلطة التشريعية وتكون مسؤولة أمامها عن وضع الخطط والإجراءات الكفيلة بتطبيق الأنظمة بما يضمن مصلحة الدولة والمواطنين، وهناك عدة أشكال من هذه السلطة التنفيذية تبعا لاختلاف الطرق التي تتم بها عملية وصول رئيس السلطة التنفيذية إلى منصبه.
إن مكانة السلطة التشريعية (التنظيمية) في غاية الأهمية إلى درجة أنه يمكن أن تعد مسؤولة عن تفكك المجتمع وانهياره بسبب عدم عقلانية التشريعات التي تسنها، كأن تستند في سن التشريعات كليا أو جزئيا على الخرافة والوقائع التي عفا عليها الزمن ولم يعد القياس عليها ممكنا في العصر الذي يعيشه المجتمع الموجد لهذه السلطة، ولا غرابة في أن تكون للسلطة التشريعية هذه الأهمية فالتنظيم الصادر عن السلطة التشريعية هو مجموعة القواعد والإجراءات والأنظمة التي تنظم علاقات الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقاتهم بالدولة ومؤسساتها، بل وحتى العلاقة بين الأفراد والمكونات البيئية والطبيعية من حولهم. ومما لا شك فيه أن الأنظمة (القوانين) تعبير عن الظروف الخاصة التي يمر بها كل مجتمع، وصدا لمجمل التغيرات التي يمر بها المجتمع الإنساني بعامة، لذلك فإن من مصادرها: الدين، والقيم، والعرف، وثوابت، القانون الطبيعي، وقواعد العدالة المرعية في المجتمع، وشروط التعاون والتفاهم والتعايش بين المجتمعات بما يحقق الأمن والسلام للجميع، وبالتالي فإن هذه الأنظمة تختلف من مجتمع إلى آخر، ولا تتفق بشكل كلي سوى من حيث تقسيمها إلى قسمين هما:
القسم الأول: النظام (القانون) العام
وهو مجموعة القواعد التي تبين نظام الدولة الأساسي، وتنظم العلاقة بين السلطات المختلفة في الدولة، وبينها وبين المواطنين، وكذلك تنظم العلاقة بين الدولة وغيرها من الدول.
القسم الثاني: النظام (القانون) الخاص
وهو مجموعة القواعد التي تنظم علاقات الأفراد فيما بينهم.
وللنظام (القانون) سيادة مفروضة على الناس المقيمين في نطاقه الحيوي حكاما ومحكومين، وأولئك الذين صدرت عنهم أفعال عندما كانوا يقيمون في هذا النطاق ثم غادروه، وللتنظيم سيادة تجعله فوق الأهواء والرغبات الشخصية، وهذه السيادة تتحقق من خلال الضمانات التي فرضها التنظيم نفسه، ويقوم المجتمع برمته على حمايتها ومراقبة سلامتها، كما أن هذه الضمانات تعمل على استمرار النظام ودوام حيويته، ومنها:
1- وجود نظام أساسي يحدد القواعد المنظمة لممارسة السلطات العامة لوظائفها، ويحدد لها الصلاحيات والضوابط.
2- أن تكون السلطة التشريعية في حالة انعقاد شبه دائم لتعديل التشريعات وصياغة الإضافات، وحذف المواد التي لم تعد منها فائدة، وتوحيد الأنظمة الفرعية بضمها إلى التشريع أو التنظيم الأساسي، كل ذلك لمواكبة كل جديد والحيلولة دون حدوث التخمة التشريعية ومن ثم الاختناق التشريعي.
3- اعتراف جميع السلطات بحقوق الأفراد وحرياتهم، والعمل على منع انتهاكها من قبل السلطات نفسها، أو من قبل الأفراد والجماعات والمؤسسات.
4- تدرج التشريعات، فيكون النظام أو التشريع الأساسي فوق كل الأنظمة، ثم تأتي التنظيمات الأخرى بالتدرج بحيث تتفق معه ولا تخالفه، وهو بدوره لا يلغيها أو يقلل من قيمتها.
5- وجود آلية قضائية تعمل في ظل استقلالية السلطة القضائية لحماية حقوق المواطنين والمقيمين من أي تعد أو تعسف من قبل سلطات الدولة، ومن الأمثلة على هذه الآلية، عند تفعيلها بشكل ينطبق على وظيفتها لفظ ومعنى، ديوان المظالم في المملكة العربية السعودية.
6- وجود أجهزة متخصصة تمارس رقابة صارمة ونزيهة تضمن عدم استغلال الوظيفة لتحقيق المصالح الشخصية، ولا يستثنى من أنشطتها أي فرد من أفراد المجتمع، ومن هذه الأجهزة في المملكة العربية السعودية المباحث الإدارية، وديوان المراقبة العامة، وهيئة التحقيق والتأديب، ومكاتب اتصال وزارة الداخلية المنتشرة في مناطق المملكة.
7- وجود سلطات ثلاث تعمل وفق مبدأ فصل السلطات، لأن الفصل هو أحد أهم الشروط من أجل بناء مجتمع آمن ومتطور ومن المهم أن يدرك المجتمع بأفراده وجماعاته ومؤسساته الرسمية والأهلية أن فصل السلطات عملية لا يتحقق العدل في المجتمع بدونها، ذلك لأن هذا الفصل يحول دون تجميع وتركز السلطات في يد فئة أو مجموعة من الأفراد، كما أنه يؤدي إلى توزيع الصلاحيات وتحديد الأدوار والمسؤوليات بين هذه السلطات، مما يسهل عملية إدارة أمور المجتمع والدولة في مختلف جوانب الحياة.
ويضمن لجميع أفراد المجتمع ومؤسساته حق المشاركة والمساهمة في عملية اتخاذ القرار في كل المجالات، وفي ظل سيادة النظام الذي يخضع له الكل، وهم جميعا متساوون أمامه ، ويمكن الخروج، بالإضافة إلى كل هذا، بعدد من الفوائد التي تتحقق بفصل السلطات الثلاث، ومنها:
1- التخصص في العمل، حيث تعمل كل سلطة في مجال اختصاصها بما يفتح المجال واسعا لإتقان الدور والعمل الذي تقوم به على أحسن وجه.
2- صيانة حقوق المواطنين وحرياتهم العامة ومنع التعدي عليها وكذلك منع التفرد والاستبداد.
3- احترام النظام والحفاظ على سيادته، وتطبيقه بشكل متوازن بحيث يكون الجميع متساوون أمامه.
4- خلق حالة من التوازن بين مختلف الفئات في المجتمع.
5- إيجاد حالة من التكامل في ظل تقسيم العمل والتخصص فيه.
6- إيجاد حالة من الرقابة الاجتماعية على عمل السلطات والأجهزة المختلفة في الدولة، وهذا يؤدي إلى تطوير وتحسين أداء هذه السلطات لخدمة المجتمع.
وفصل السلطات لا يعني أن تكون بينها حالة من القطيعة والتضارب والاختلاف والتناقض، بل يعني التخصص والفصل في إطار التكامل، فلا يمكن لأية سلطة من السلطات الثلاث العمل بمعزل عن السلطتين الأخريين، وهذه العلاقة قائمة بالأساس بهدف خدمة النظام في المجتمع وبما يعزز مبدأ سيادة هذا النظام، لخدمة المواطنين وتنظيم أمور حياتهم وتحقيق مصالحهم على أحسن صورة ممكنة.
ويتم تنظيم الإجراءات الضرورية لإقامة التعاون بين السلطات من خلال النظام (القانون) نفسه، وذلك عن طريق منح كل سلطة وسائل تمنع تنفيذ القرارات الخاطئة الصادرة من السلطة الأخرى بهدف تحقيق التوازن بينها.
إن تحقيق مبدأ الفصل بين السلطات مع المحافظة على وجود التعاون والتكامل بينها أمر في غاية الحساسية والأهمية، وقد نص النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية الصادر عام 1412هـ في المادة الرابعة والأربعين على أن السلطات في الدولة تتكون من : السلطة القضائية، السلطة التنفيذية، السلطة التنظيمية، وأنها تتعاون في أداء وظائفها وفقا لهذا النظام وغيره من الأنظمة، وأن الملك هو مرجع هذه السلطات، ومن المؤكد أن هذا الترتيب للسلطات له مغزاه. كما نصت المادة السادسة والأربعون منه على أن القضاء سلطة مستقلة ولا سلطان على القضاة في قضائهم لغير سلطان الشريعة الإسلامية. وللوقوف على معنى أدق للفصل بين السلطات مع المحافظة على قنوات للتعاون بينها، يمكن على سبيل المثال، تحديد عدد من المواضع التي تلتقي فيها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية لبيان التكامل والتعاون بينهما كمثال على وجود التكامل والتعاون بين السلطات الثلاث جميعها، على أن ما يهمني هنا ليس الخوض في الصلاحيات المتقابلة أو المتعادلة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، بل توضيح مفهوم استقلال السلطات في ضوء المفهوم السابق طرحه لمبدأ الفصل بينها، وبالتالي تحقيق فهم أعمق لمعنى استقلال القضاء، والتطبيق العملي الأمثل لهذا الاستقلال وفق نصوص النظام وصولاً إلى تصور تنظيمي قضائيي كلي يعكس فهماً واضحاً ومحدداً لمعنى هذا الفصل ويكفل الأرضية المناسبة لبناء سلطة قضائية تتوافر لها في ذاتها ومن حولها وفي مجتمعها مقومات تحقيق الاستقلال والقابلية للتطور والنمو المتوازي مع تطور ونمو المجتمع الذي يحتضنها، وتطور ونمو المجتمع الإنساني بعامة، ليس هذا فحسب، بل إن سلطة قضائية من هذا النوع تستطيع تغذية السلطة التشريعية باقتراح مشاريع أنظمة نابعة من الخبرة والتجربة والممارسة القضائية الكفؤة. وأجد أن ضرب المثال بالسلطتين التشريعية والتنظيمية يساعد على فهم أدق وأوضح لمعنى الفصل في إطار التعاون والتكامل بين السلطات الثلاث، ويمكن سوق هذا المثال في النقاط الآتية:
1- جميع موظفي السلطة التنفيذية وكافة الأجهزة والمؤسسات التابعة لها مسؤولون أمام السلطة التشريعية، ولذلك فمن حق السلطة التشريعية تقديم الأسئلة والاستفسارات عن عمل السلطة التنفيذية التي من واجبها الرد على ذلك، وقد شاهدنا مؤخرا حضور عدد من الوزراء والمسؤولين للإجابة عن أسئلة مجلس الشورى في المملكة العربية السعودية.
2- لا تستطيع السلطة التنفيذية ممارسة عملها كما ينبغي دون الحصول على الثقة من السلطة التشريعية، وما يمنع السلطة التنفيذية في بعض البلدان من طلب هذه الثقة هو الخوف من أن تقوم السلطة التشريعية بسحب الثقة إذا وجد مبرر لذلك طالما أنها هي التي منحتها أصلا.
3- يحق للسلطة التنفيذية أن تدافع عن نفسها أمام السلطة التشريعية، وأن تقدم الإيضاحات والتفسيرات للبرامج والخطط التي تعمل عليها، والخطوات التي اتخذتها.
4- يحق، بل يجب على السلطة التنفيذية اقتراح مشروعات أنظمة على السلطة التشريعية التي ينبغي عليها أن تدرس هذه المقترحات بسرعة وجدية.
5- يحق للسلطة التنفيذية الاعتراض على الأنظمة التي تصدرها السلطة التشريعية.
6- يجب على السلطة التنفيذية أن تعمل على تنفيذ الأنظمة التي تسنها السلطة التشريعية، وأن تتخذ القرارات واللوائح التي تحقق هذا التنفيذ على أكمل وجه.
يتبين من كل ما سبق أن الفصل بين السلطات الثلاث لا يمكن أن يكون مطلقا، كما أن العلاقة بينها ليست جامدة أو أحادية الاتجاه، بل تتسم بالمرونة والتداخل، ويمكن الحكم على إيجابية هذه الفصل في ظل التكامل وعلى هذه العلاقة من خلال مدى قدرتها على ممارسة التأثير الإيجابي في حياة المجتمع، وضبط هذه الحياة بما يخدم مصلحة المجتمع، وفي ظل تشريع عادل ينظم ويحدد هذه العلاقة على أسس واضحة وسليمة.. تشريع يحترمه ويخضع له المجتمع بأسره.
ثانيا: الإصلاح القضائي في الشريعة الإسلامية
كانت للعرب تقاليد وقواعد عرفية يحتكمون إليها في حياتهم ومعاملاتهم، وقد استفادوا من الأمم التي اتصلوا بها، وكانت عقوبة القتل العمد هي القصاص، أما القتل الخطأ فكان فيه الدية، وعرفوا أيضا نظام القسامة الذي سبقت الإشارة إليه في معرض الحديث عن وسائل إثبات الدعوى خلال العصور الوسطى في أوروبا، وكذلك تحميل أهل القرية أو المدينة دية من يقتل في حدودها ولم يعرف قاتله.
وكان العرب يلجأون إلى شيوخ القبائل وأهل الحكمة لفض نزاعاتهم، وعندما جاء الإسلام كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أول القضاة في الإسلام، وقد نزلت آيات قرآنية تبين وتوضح أحكام القضاء، وقد فوض الرسول قضاء اليمن إلى علي بن أبي طالب وكان التكليف بالقضاء في أمور معينة أو بين أشخاص محددين أمر معهود، وقد سار الخلفاء الراشدون على هذا المنوال غير أن معاوية كان أول خليفة تخلى عن القضاء وعين قضاة في البلدان الخاضعة لسلطته، كما كان حكام الولايات يختارون قضاتهم في ولاياتهم، وقد كان تعيين القاضي يستند على حسن أخلاقه فالقضاء يعد في نظر الخليفة من أعمال الخلافة، وكان الأمير في ناحيته يتولى القضاء إذا لم يول غيره هذه المهمة.
من الواضح أن كل الولايات في الإسلام معقودة لولي الأمر، ومنها ولاية القضاء وولاية الحسبة وولاية المظالم وولاية التنفيذ، وهي فرض عين عليه له أن يقوم بها أو يفوض فيها.
فقد كانت ولاية القضاء معقودة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال تعالى في سورة النساء آية 105: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} وقال تعالى في سورة المائدة الآية 42 والآية48: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} {فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} وقال الرسول عليه الصلاة والسلام في معنى حديث شريف: (إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون لدي وقد يكون بعضكم ألحن بحجته من البعض الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار).
وكان الرسول مشرعا وما كان ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، وقد انتقلت هذه الولايات دون تشريع الحدود لأنها من المقدرات بمعرفة الشارع الأعلى جنسا وقدرا وارتفع سنها منذ وفاة رسول الله، انتقلت إلى الخلفاء من بعده فكان الخلفاء يتولون القضاء وقضاء المظالم والإفتاء والتنفيذ وولاية الحسبة، ثم فوضوا في ذلك عمالهم أو من فوضوهم في القضاء بعد أن اتسعت الفتوحات الإسلامية.
ومن أهم ما كتب من ضوابط القضاء في عهد الخلفاء رسالة عمر إلى أبي موسى الأشعري أثناء توليه قضاء البصرة في عهده.
واستبقى الخلفاء لأنفسهم ولاية المظالم لأنها تنطوي على حماية الأفراد من الظلم وجور الولاة والحكام، وقد فصل عمر - رضي الله عنه - بين القضاء والولاية العامة، ومنها الحسبة والإفتاء، وإنه وإن كان والي الحسبة لا يحكم والمفتي لا يلزم بفتواه مستفتيه إلا أن كلا من قضاء المظالم والقضاء العادي ملزم في قراراته وأحكامه للمتنازعين، كما أن القضاء يلتزم بما يسنه ولي الأمر وعليه تطبيقه، وعلى السلطة التنفيذية تنفيذ ما يسند إليها تنفيذه بناء على تشريع أو كحم قضائي.
ويعد الحكم القضائي كاشفا للحكم الشرعي الفاصل في النزاع بناء على الطرق الشرعية المطروحة والتي اقتنع عن طريقها القاضي بأن هذا هو حكم الله طبقا لشريعته كما ورد في الآية (48) من سورة المائدة، وطبقا لما سنته السلطة التنظيمية (التشريعية).
ويلاحظ أن قضاء المظالم يحكم بما أنزل الله طبقا للأنظمة التي وضعها ولي الأمر وتتضمن الجرائم ذات العقوبة التعزيرية سواء كانت تلك الجرائم أفعالا حرمها الله تعالى في الكتاب والسنة كما هي الحال في الرشوة لقوله تعالى في سورة البقرة الآية 188: {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ولم يضع لها الشارع الأعلى عقوبة مقدرة وبالتالي فوض الإمام في وضع عقوبات تعزيرية لها، أو كانت من قبيل تقييد الإباحة استنادا إلى المصالح المرسلة وسد الذرائع وهي من الأصول التي تستمد منها الأحكام الشرعية فيما لم يرد فيه نص.
وبوحي من هذا التشديد على ضرورة إشاعة العدل بين الناس فقد حدد علماء الإسلام شروطا لابد من توافرها فيمن يتولى القضاء، ومنها:
1- أن يكون مسلما، صالحا، على علم بالقرآن والسنة وفهم ألفاظهما ومدلولاتهما والمبادئ الشرعية العامة ومقاصد الشارع، عالما بالأحكام الشرعية.
2- أن يكون نزيها عادلا أهلا للشهادة تحملا وأداء، فلا يكون من ذوي الغفلة أو السهو، سليم الحواس من سمع وبصر وكلام.
3- يشترط مالك والشافعي وأحمد أن يكون رجلا، لأن القضاء مرده إلى الإمام لكونه من الولايات العامة، والمرأة لا تولي الإمامة.
بينما يجيز الأحناف وابن حزم الظاهري تولي المرأة القضاء فيما عدا الحدود والجنايات لكونها أهل للشهادة.
ومن هنا فإن كل ما يجوز لها الشهادة فيه يجوز لها القضاء فيه، ومن المعلوم أن الحدود والجنايات لا يقضى فيها بشهادة المرأة لدى الجمهور(مالك والشافعي وأحمد) إذ يشترطون أن يكون الشهود من الرجال العدول.
4- أن يكون مجتهدا وهو شرط قال به كثير من الفقهاء، والاجتهاد بالضرورة يقتضي أن يكون عالما بمصادر الأحكام أهلا لاستنباطها ويخالفهم أبو جنيفة إذ يرى أنه لا يشترط في القاضي أن يكون مجتهدا، ويستدل من يشترط أن يكون القاضي مجتهدا بحديث معاذ بن جبل حين ولاه الرسول قضاء اليمن فقال له: بم تقض؟
قال: اقضي بكتاب الله.
قال له فان لم تجد؟ قال فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فإن لم تجد ؟ قال أجتهد رأيي ولا آلو.
قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله إلى ما يرضي الله ورسوله.
ويظهر هنا أن الرسول قد فوض معاذ تفويضا صريحا بالاجتهاد، وقال أحمد : يولى الأصلح من الموجودين في زمان معين، ويشترط البعض الاجتهاد في قاضي المظالم دون غيره، ولكون مهمة قضاء المظالم هي إنصاف الأفراد من جور أصحاب السطوة والسلطان فإنه يجب أن يكون قضاء ذا قوة ونفاذ أمر حتى يستطيع القضاء في ذلك وتنفيذ الأحكام ورد الحقوق إلى أصحابها.
ولما كانت ولاية القضاء عموما مصدرها ولي الأمر، وكان عهد الاجتهاد المطلق قد أوقف منذ منتصف القرن الرابع الهجري بعد عصر الأئمة المجتهدين، فقد اقتصر الاجتهاد بعد ذلك على الاجتهاد في إطار المذاهب، والتخريج على الأصول التي يعتنقها صاحب المذهب فيما يستجد من أقضية، وترجيح أقوال فقهاء المذهب بعضها على البعض الآخر للإفتاء في مسألة معينة، وحتى هذه الاجتهادات قد انغلق بابها هي الأخرى وظهر عصر التقليد المحض.
وعلى الرغم من العوائق التي أدت إلى غلق باب الاجتهاد المطلق وباب الاجتهاد في إطار المذاهب ومن ثم شيوع التقليد المحض فقد ظهرت محاولات تشبه الصحوة تنادي بعدم التقيد أو الاعتماد على مذهب واحد من المذاهب الإسلامية بصفة أصلية للقضاء بمقتضى أحكامه، بل يجب استقاء الأحكام من المذاهب مجتمعة فإذا لم يوجد في أحد المذاهب حكم للقضية المعروضة عند إذ يتم اللجوء إلى المذهب الآخر ... وهكذا.
كما هو معمول به في المملكة العربية السعودية إذ يحكم القضاء في الجرائم بصفة عامة طبقا لمذهب الإمام أحمد بن حنبل مع إمكان الرجوع إلى المذاهب الأخرى إذا رأت المحكمة أن تطبيق المفتى به من مذهب الإمام أحمد يجلب المشقة أو كان فيه مخالفة واضحة للصالح العام، وقد اتخذت هيئة المراقبة القضائية قرارا بذلك صادق عليه جلالة الملك عبدالعزيز آل سعود سنة 1347هـ (1928م) وكذلك كانت تفعل الدولة العثمانية عندما قننت الأحكام وفق المذهب الحنفي والراجح من المذاهب الأخرى.
والإسلام يعطي للإمام حق تقييد القضاء من ناحية النصوص التي يطبقها ومن ناحية نوع القضية التي يحكم فيها، سواء كان ذلك التقييد مؤقتا أو دائما، وكذلك من حيث المكان والشخص والسلطة في العقاب وهذا ما يطلق عليه مبدأ تخصيص القضاء، وبناء على ذلك يمكن أن تكون هناك محاكم جنائية ومحاكم مدنية ومحاكم للفصل في منازعات العمل والمنازعات التجارية، ومحاكم للأحداث، ومحاكم للشؤون العسكرية.
وإذا قيد الإمام القاضي بنصوص خرجها على أساس المصلحة المرسلة أو سد الذرائع لتطبيقها في أنواع معينة من القضايا، فليس للقاضي أن يحيد عن هذا إلى اجتهاد شخص آخر أو الحكم بأقوال أخرى من أقوال المجتهدين، لأن سن التشريع للمصلحة العامة من الأمور المسندة إلى الإمام وليس للقاضي المفوض بالقضاء، وبالتالي ليس له أن يقيس في التعازير ولكن للإمام أن يقيس ويضع الحكم في نصوص يطبقها القاضي بأثر مباشر.
كثير من الباحثين يرون أن القضاء الإسلامي قد اشتمل على معظم ضمانات النزاهة وتحقيق العدل منذ العصور الإسلامية الأولى، إلى درجة تضاهي بل تفوق ما هو موجود في أفضل النظم القضائية الحديثة إذا ما طبقت تلك الضمانات بأمانة ونزاهة وحياد، وقد أفصح مارك أنسل عن وجود علاقة تاريخية بين الشريعة الإسلامية وظهور حركة الدفاع الاجتماعي، وقد اهتمت كثير من الدراسات بعقد مثل هذه المقارنات بين الشريعة الإسلامية وحركة الدفاع الاجتماعي من حيث مراعاة الحقوق الإنسانية للفرد وتحقيق التكامل والعدالة، فقد عمد ماكس فيبر إلى دراسة نظم التكافل الاجتماعي والنظام القضائي في الشريعة الإسلامية كعاملي وقاية من الجريمة.
ثالثا: شغل منصب القضاء وحماية استقلاله تحرص التشريعات النزيهة على أن يشغل منصب القضاء أكفأ العناصر وأكثرها حيدة ونزاهة، ولما كانت التشريعات تختلف من مجتمع إلى آخر فإن الاعتبارات التي تملي اختيار القضاة تختلف اختلافا بينا من مجتمع إلى آخر لأسباب سياسية ودينية وصراعية تنافسية، وتتفاعل هذه الاعتبارات والأسباب في إطارين اثنين يتم من خلالهما شغل منصب القضاء هما:
...يتبع
|