المقدمة
إفراد وزارة مستقلة خاصة بالعمل خطوة ممتازة تدل على وعي وجدية القيادة الرشيدة في معالجة قضية البطالة ودفع فكرة (السعودة) إلى الأمام ، فقد أثلج هذا القرار صدور المواطنين والمهتمين لما لهذا الموضوع من أهمية كبرى لدينا جميعاً.. وتعيين الدكتور غازي القصيبي أعتبره الجميع مؤشراً إيجابياً على مدى حرص الحكومة على هيكلة وتنظيم القوى الوطنية العاملة وسرعة القضاء على البطالة وإفرازاتها السلبية.
واستبشاراً بذلك ولاهتمامي المتخصص واهتمام الكثيرين غيري بقضية السعودة كفكرة نبيلة المقصد أعاقها عدم الوضوح في المنهج ، رأيت أن أشارك بهذه المقالات لعلها تكون دعماً أو سنداً لأطراف القضية.. وعلى رأسها الحكومة ممثلة بوزارة العمل ووزيرها الشهير.
بداية دعونا نتفق على أن لكل قضية كبرت أم صغرت.. مجتمعية كانت أم فئوية.. دليلين: الأول وصْفي والثاني كمّي.. وبغياب أي من الدليلين تكون القضية ضبابية مجهولة المعالم ولا يمكن رؤيتها بوضوح.. بشكل يجعل السائر فيها معرضاً لصدمات وحوادث قد تكون خطيرة أو مروعة... وقضية السعودة لايمكن رؤيتها إلا من خلال هذين الدليلين اللذين على أساسهما نحلل المشكلة ونشخصها التشخيص السليم.. ومن ثم نضع الأفكار المناسبة والحلول موضع التنفيذ.. ونتابع نتائجها وصفاً وكماً.. من خلال جدول زمني يتناسب وسرعة نمو وتفاقم المشكلة.
ما أريد أن أقوله إن مشكلة بهذا الحجم وهذه الخطورة، وتمثل تحدياً خطيراً كما صرح بذلك الدكتور القصيبي نفسه.. لا يمكن أن تحل حلاً سريعاً وحاسماً بالطريقة القائمة حالياً.. فمشكلة البطالة وما يترتب عليها من إفرازات خطيرة تصنف ضمن المشاكل المجتمعية التي يجب أن يتعاون الجميع في حلها.. وبالتالي يجب أن يعرف الجميع هذه المشكلة (وصفاً وكماً) بكل وضوح وشفافية.. ويجب أن يعرف كل طرف ماهية الدور المطلوب منه.. وماذا يترتب على تعاونه من إيجابيات وعلى تهاونه من سلبيات.
إذن على كل طرف من أطراف إستراتيجية السعودة.. كحل لمشكلة البطالة.. أن يعرف:
1- من هو العاطل ؟.. ماذا يقصد بالسعودة ؟.
2- ما هي مشكلة البطالة و ما تعريفها ؟ وأسبابها ؟.. وما هو حجمها كمياً ؟.
3- من هم أطراف قضية توطين الوظائف ؟ وما هي رؤية ومتطلبات كل طرف ؟ وما هو الدور المنطقي الواقعي القابل للتطبيق من كل طرف ؟ وماذا يترتب على تعاونهم أو تهاونهم ؟.
4- ما الحلول المطبقة حالياً وما نتائجها وإفرازاتها ؟.. وهل هناك حلول مقترحة ومفضّلة ، ولماذا لم تطبق ؟ وهل مشكلة البطالة متناقصة أم متفاقمة ؟ وما هي مسارات الحلول ؟ ومن هي الجهات المتعاونة في حلها ؟.
5- هل مسارات الحل والجهات القائمة عليها متكاملة أم متنافسة أم متضاربة.. أم أخرى ؟.
6- ما تأثير السعودة على علاقات المملكة ومكانتها الدولية ؟.
ولتحقيق تلك المعرفة.. ولتشكيل مواقف إيجابية من جميع أطراف القضية.. فإني سأعمل جاهداً على الإجابة على هذه الأسئلة.. لأضعها أمام المواطن والمسؤول لعلها تسهم في حل هذه المشكلة.. مستعيناً بكل الدراسات المتوافرة والآراء والأفكار والمبادرات الفردية والمؤسساتية التي طرحت في وسائل الإعلام المختلفة لحلها.. فالوطن للجميع وأرجو أن يتسع صدر الجميع للنقاش والحوار والرأي.. وذلك ما أنا واثق منه.
بداية لنأخذ الجانب الوصفي للسعودة كاستراتيجية للقضاء على مشكلة البطالة وجعلها في النسب المقبولة عالمياً.. حيث إن (صفر% ) بطالة، نسبة لا يمكن تحقيقها بحال من الأحوال.. البطالة هي وجود نسبة غير طبيعية حسب مؤشر البطالة الكمي المتعارف عليه عالمياً.. وهو حاصل قسمة العاطلين عن العمل على قوة العمل المتاحة مضروب بمئة.
من هو العاطل؟
العاطل حسب تعريف منظمة العمل الدولية: (كل من هو قادر على العمل وراغب فيه ، ويقبله عند مستوى الأجر السائد ، ولكنه لا يجده).
أشكال البطالة
1- البطالة الصريحة : هي حالة التعطل الواضحة التي يعاني منها جزء من قوة العمل المتاحة.
2- البطالة المقنعة: هي الحالة التي يتكدس فيها عدد كبير من العمال في موقع إنتاج أو خدمة بشكل يفوق الحاجة الفعلية للعمل.
3- البطالة الهيكلية: هي حالة تعطل تصيب جانباً من قوة العمل بسبب تغيرات هيكلية تحدث في الاقتصاد القومي.. وتؤدي إلى إيجاد حالة من عدم التوافق بين فرص التوظيف المتاحة ومؤهلات وخبرات العمال المتعطلين الراغبين في العمل.
أسباب البطالة
1- تراجع معدلات نمو الاقتصاد إلى مستويات دون معدلات نمو السكان.. وبالتالي تراجع في قدرة الاقتصاد على خلق فرص عمل جديدة كافية لاستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل.
2- معدلات النمو العالية للسكان ( 3.6% في المملكة ).
3- ضعف مواءمة مخرجات التعليم مع احتياجات سوق العمل.
4- التراجع في قدرة القطاع العام الحكومي على التوظيف.
5- الإقبال المتزايد من الإناث على المشاركة في سوق العمل.
6- اتباع سياسة الباب المفتوح أمام العمال الوافدين.
7- النظرة الدونية لبعض المهن.
8- دخول التكنولوجيا الحديثة.
9- ضعف البيانات المتوافرة عن سوق العمل.. وهذا يجعل السياسات والخطط المطروحة لمعالجة البطالة قاصرة وبطيئة كما هو حاصل لدينا الآن.
السعودة
السعودة فهي توطين الوظائف في القطاعين العام والخاص إحلالاً ونمواً:
1- إحلالاً: أي استبدال العمالة الوافدة بأخرى وطنية وفق مراحل تدريجية ذات جوانب كمية من حيث العدد.. ونوعية من حيث المهن والقطاعات.
2- ونمواً: أي تعيين العمالة الوطنية في ما هو متاح من فرص وظيفية جديدة ناتجة عن النمو الاقتصادي.
كل ذلك مع المحافظة على العمالة الوافدة الماهرة في الوظائف التي لا تلبيها العمالة الوطنية.. وهنا يجب أن ننوه بقضية هامة وهي أن السعودة لا تهدف فقط لإحلال مواطن محل وافد فقط.. بل تهدف لإحلال مواطن ذي كفاءة محل وافد بنفس الكفاءة.. فلكل مواطن الحق في أن توفر له الدولة العمل المناسب إذا كان راغباً وكفؤاً لذلك.
عوائق السعودة
1- التخطيط القاصر.. الناتج عن عدم توافر قاعدة بيانات متكاملة ودقيقة وحديثة حول القوى العاملة.. وفرص العمل المتاحة.. والراغبين في العمل ومؤهلاتهم وخبراتهم.
2- أما العائق الثاني فهو البطء الشديد في معالجة القضية، الناتج عن البيروقراطية.. حيث يحتاج توليد وانتقال الفكرة أو الاقتراح لزمن طويل.. يمر خلاله بقنوات كثيرة ومعقدة لتناقش.. كما تحتاج إلى مثل ذلك الوقت أو أكثر ليتخذ قرار بشأنها.. وأضعاف ذلك الوقت لتطبق الحل بشكل صحيح.
ولتأكيد ذلك الادعاء الآنف الذكر.. من منا لا يعلم ومنذ أكثر من عشرين عاماً بأن مخرجات التعليم لا تلائم متطلبات العمل الحالية والمستقبلية في القطاع الخاص ؟.. ثم ماهي سرعة التفاعل مع هذه الحقيقة ؟.. لا تعليق فالحكم لكم.
حتى نستكمل معاً جميع محاور القضية.. يجب أن نتعرض لأطراف القضية.. ورغبة ومتطلبات كل طرف.. ومعرفة القواسم المشتركة بين هذه الأطراف.. وتحديد الطرف المحوري الذي إذا حركناه بسرعة تحركت عملية السعودة بالسرعة المطلوبة.
أطراف القضية
أولاً: الحكومة، وهي التي تقود إستراتيجية السعودة تخطيطاً وتنظيماً ومتابعة وتعمل على حماية الجميع.. وتهدف للتشغيل الأمثل للقوى العاملة الوطنية الحالية.. وتوفير الفرص الوظيفية للمرتقبة.. ضمن منظومة اقتصادية واجتماعية وثقافية متكاملة.
ثانياً: أصحاب العمل وهم من نريد لهم الاستمرارية والتوسع لتوفير فرص العمل حالياً ومستقبلياً وهم يهدفون إلى الربح.. الذي يهدف له كل صاحب عمل.. والذي على أساسه يتم تقييم نجاحهم وقيمة شركاتهم وإمكانية تمويل مشاريعهم.. ولتحقيق ذلك فهم يعملون على استقطاب العمالة ذات الكفاءة والإنتاجية العالية.
ثالثاً: طالبو العمل وهم المورد الرئيسي لدى أصحاب العمل.. وهم المنتج الذي نريد أن تكون سمته الجدارة والثقة والجودة.. ويهدفون للعمل بما يناسب مؤهلاتهم ومهاراتهم ليتوفر لهم العيش الكريم الآمن.
رابعاً: المجتمع وهو من يشكل الدعم أو الرفض الاجتماعي للعاطلين.. ويهدف أفراده إلى أن يعيشوا برفاهية.. وأن يرتقي شأن بلادهم بين الأمم دون عوائق.
إن التوفيق بين هذه الأطراف غاية في السهولة إذا اتجهنا للواقعية والحوار والنقاش الموضوعي.. واعتمدنا مبدأ قوى السوق.. وابتعدنا عن المنهج السلطوي المتبع حالياً رغم أثاره المؤذية على الإنتاجية.. وإفرازاته السلبية على الاقتصاد والأمن والمجتمع.
إن قوى السوق تعتمد بشكل أساسي على الإنتاجية في توظيفها لجميع الموارد الاقتصادية ومنها وأهمها الموارد البشرية.. والتكلفة هي معيار الاختيار لدى أصحاب الأعمال للموارد البشرية.. وإذا عرفنا أن التكلفة هي الأجر منسوباً إلى الإنتاجية.. إذن العبرة بالإنتاجية، والإنتاجية مرتبطة بشكل أساسي بالتأهيل العلمي والمهني للعامل.
من هنا فإن طالب العمل هو الطرف المحوري في تسريع إستراتيجية السعودة.. أي أنه كلما كان لدينا موارد بشرية وطنية مؤهلة ومنتجة وبأعداد تناسب الوظائف المتاحة حالياً ومستقبلياً كلّما قلّت نسبة البطالة بين المواطنين والعكس صحيح.. وعليه فإن الحل الناجع الذي يحقق رضى جميع الأطراف هو أن تقوم الدولة بمسؤولية تأهيل المواطن السعودي تأهيلاً علمياً ومهنياً عالياً يتناسب مع احتياجات الاقتصاد الوطني الحالية والمستقبلية.. ويقوم القطاع الخاص بواجب الدعم والمشاركة المادية والمعنوية لخطة الدولة.. ويتم توعية أفراد المجتمع بقضايا القوى العاملة ومتطلبات العمل والفرص التدريبية المتوفرة وأهمية احترام العمل بكافة أشكاله ومستوياته.
ولكي تقوم الدولة بهذه المهمة وتستقطب المساندة من القطاع الخاص والمجتمع عليها أن تتحرك لمعالجة المشكلة من خلال عدة مسارات علاجية متكاملة.
مسارات علاج قضية البطالة
أولاً: المسار التخطيطي ويعمل على وضع وإقرار إستراتيجية القوى البشرية وخطط وبرامج العمل التنفيذية.
ثانياً: المسار التشريعي ويعمل على إصدار التشريعات المنظمة لسوق العمل من قوانين وأنظمة ولوائح، ومتابعة تنفيذها.
ثالثاً: المسار التأهيلي ويعمل على تأهيل المواطنين لمتطلبات سوق العمل وتحديد اتجاهاته.
رابعاً: المسار التوظيفي ويعمل على تقديم خدمات التوجيه والتوظيف للعمالة الوطنية.
خامساً: مسار توسعة الفرص الوظيفية ويعمل على دعم توجه المواطنين نحو التشغيل الذاتي.. وتعزيز الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة لزيادة فرص العمل في القطاع الخاص.
سادساً: المسار التوعوي ويعمل على معالجة الاتجاهات الفكرية والثقافية لدى أصحاب وطالبي العمل وأفراد المجتمع بما يدعم تفاعلهم مع الخطط والبرامج التأهيلية والفرص الوظيفية.
الحكومة في تعاملها مع قضية السعودة حمت المحور الرئيسي للقضية وهو طالب العمل.. وجعلت أصحاب العمل في المواجهة.
والصحيح أن على الحكومة أن تقف صفاً واحداً مع رجال الأعمال وأفراد المجتمع والقوى المؤثرة في المجتمع.. للتعاون في إنتاج موارد بشرية وطنية مؤهلة ماهرة تحترم العمل وتلتزم بمبادئه وسلوكياته.
أي أن المطلوب إيجاد عمالة سمتها الجدارة والإنتاجية لا التمني والأحلام وعدم الإلتزام.. وعلى الحكومة ممثلة بوزارة العمل أن تبتعد عن المنهج السلطوي الذي أساء لأصحاب العمل..كما أساء لطالبي العمل حيث زرع فيهم اتجاهات ومفاهيم خاطئة.
إن احترام قوى السوق ، والعمل من خلالها لا التصادم معها بقرارات سلطوية.. والتعاون المثمر البناء مع أطراف القضية من خلال قنوات فاعلة وسريعة لإيجاد الحلول التي تلبي رغبات الجميع دون استثناء.. هي الحل الأمثل.. وإلا فإن المشكلة تتفاقم يوماً بعد آخر.. حتى تصبح وبالاً على المجتمع..لا يمكن السيطرة على إفرازاته الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والثقافية.
أن تبدأ متأخراً خيراً من ألا تبدأ..خاصة ونحن في عالم متسارع..والسريع فيه يلتهم البطيء..وما الانضمام لمنظمة التجارة العالمية عنا ببعيد.
وعند تحقق التعاون بين أطراف القضية لحل هذه المشكلة سريعاً..هناك مبادئ وحقائق يجب احترامها والوقوف عندها.. وأهمهما مكانة المملكة العربية السعودية المشرقة وقوتها بين الأمم.. ولا يخفى على أحد منكم ما للاقتصاد وتواجد القوى العاملة من زيادة وقوة في التأثير السياسي للبلد الحاضن لهذه العمالة.. إذن يجب الانتباه إلى أن القضية معقدة ومتشابكة ولها زوايا عدة تتطلب العلاج الحاسم الصحيح.
أما الجانب الكمي للمشكلة فإن الافتقار إلى المعلومات والبيانات الموثوق بها هو أساس المشكلة.. حيث لا تخطيط سليم دون معلومات كاملة.. وإلا تعددت الآراء والأفكار والحلول دون سند علمي.. وعند التنفيذ لا يوجد مؤشرات كمية على مدى التقدم أو التأخر في العلاج.. وهنا تظهر الآراء والتقديرات الشخصية التي غالباً ما يُحركها الهوى أو المصالح أو الظرف أو القناعات.. ولا أدل على قصور البيانات من الاختلاف على نسبة البطالة في المملكة فتارة تكون (27%) وأخرى (30%) وتارة أنها لا تتجاوز (10%)..
والافتقار للمعلومات والبيانات الدقيقة لا يعني غياب كامل للمعلومات والبيانات..
وما هو متوافر نستطيع أن نحدد منه الخطوط العريضة للمشكلة والاتجاهات العامة لحلها.. وهذا ما سوف يأتي في المقالات القادمة حيث سأطرح كل مسار علاجي على حدة.
والله الموفق.
|