حامد.. الابن الأكبر أو هو الأصغر- إن شئت- هو باختصار وحيد والديه، تفتحت عيناه على والد مسن، فلم يرزق أبو حامدٍ بأولادٍ في مقتبل حياته الى أن أكرمه الله بالأبوة في شيخوخته.
وقد نال حامد من التدليل الشيء الكثير!! حتى أن والديه يشفقان عليه من حمل حقيبته المدرسية فتجد والده المسن يحملها الى بوابة المدرسة، ويتمتم بآية الكرسي والمعوذتين كل صباحٍ خشية أن يفقد حامداً في لحظةٍ ما! بل لقد سيطر عليه هاجس الفراق في لحظاتٍ عدة، ولكنه رجل مؤمن يعلم أن الآجال بيد الله، إلا أنه ما انفك يفكر بمستقبل ابنه عندما يكبر فلا يجد والده أمامه، وتارة ينقلب التفكير رأساً على عقب فيوسوس له الشيطان أن يخرج حامد من بوابة المدرسة فتخطفه إحدى المركبات وترديه قتيلا! لدرجة أنه كره كل مركبة تسير على أربع عجلات أو تزيد!!
ولا أخالك إلا متعاطفاً معه وأنت ترى انكساره في تلك اللحظات ومشفقاً عليه وهو يمسح دمعةً حرَّى بطرف ( شماغه) العتيق، فكما أن الله لم يمنحه الذرية إلا في خريف عمره، لم تجد الدنيا عليه بزينتها الأخرى ( المال). بيد أن إيمانه بربه وقناعته أن الله هو أعلم بما يصلح عباده يجعل جسده النحيل كالطود أمام إعصار الحيرة التي تقتلعه عندما يرى بعض زملائه وهم ينعمون بالأموال والاولاد وينقصهم الكثير مما عنده من أمانة وإخلاصٍ في العمل وتعامل رائع مع أفراد مجتمعه!
ولما تراه ساجداً متبتلاً لربه شاكراً لأنعمه تتملكك رهبة الإيمان واستقصاء حكمة الله في خلقه، ولكنك حين تجده هلعاً على ابنه تشعر بالتناقض والضعف الذي يتلبس الإنسان! ويظهر ذلك جليا عندما يكون حامد مريضاً بأحد الأمراض التي يصاب بها عادة الاطفال، فهو لايثق بالأطباء، ويشفق على ابنه من مرارة الدواء! وكم سهر ليالي طوالاً يراقب حرارة ولده، وكثيراً ما وضع يده على جبين ابنه وهو يتمنى أن تنتقل الحرارة من ذلك الجبين الى جسده الهزيل، ولم يتبرم من هذا العمل أو يمل طيلة ثمانية عشر عاماً أو تزيد.
***
حامد- الآن- في الصف الثالث الثانوي تمتد قامته أمام والده الذي يجد فيه التعويض عما فقده أولم يحصل عليه، فتراه تارة يلاعب ابنه كما لو كان طفلاً يناغي! وتارة أخرى يداعبه كما لو كان صبياً يرعى في فضاء الصبا، وثالثة يغضب عليه حين يقصر عن أداء الصلاة في وقتها إلا أنه لايلبث إلا قليلاً فيعود للملاطفة والتسامح.
سلسلة من العطاء الأبوي لا تنتهي حلقة إلا وتبدأ الأخرى أكثر اتساعاً بالعطف، وأقوى إحكاماً بالحنان! وما والدة حامدٍ ببعيدٍ عن هذا، ولكنها تخفي- كعادة كل الأمهات- مشاعرها داخل قلبٍ يجري فيه حب أسرتها كجريان الأنهار نحو البحر! ولا تكاد تطلب من ابنها قضاء أي احتياج لها أو لأبيه كي لا تشغله عن أداء واجباته، فهو في مرحلة دراسية مهمةٍ قد يحقق النجاح، وقد يفشل، وقد ينجح بفشلٍ حين يكون مستواه دون القبول بالجامعة! وهكذا كان حامد! فقد خيب أمل والده الذي كان يأمل أن يصبح ابنه في مركزٍ مرموق يعوض نقص والده المادي والاجتماعي.
لم يحقق حامد المستوى المطلوب في اتمام الشهادة الثانوية، فلم يحظ بالقبول بالجامعة ولقد تدرج في سلم الفشل منذ كان طفلاً، وصبياً ومراهقاً، وتعود الاتكالية على والديه فأوامره مجابة قبل أن يهم بطلبها، حتى جاء وقت التسجيل بالجامعة فأصبح يلح على والديه بالبحث عن وسيط لدخول الجامعة حتى طرق والده جميع الأبواب الموصدة وسكب ماء وجهه على
( أبواب) - أو إن شئت- ( أقدام) أشخاص كان يظن في قرارة نفسه أنه لن يلتقِ بهم لأسباب يعرفها هو ويعرفونها- هم- جيلاً ولقد استجاب له البعض وأشاح الآخرون وجوههم حتى استنفد ماء وجهه ولم يتبق الا دماء قلبه في لحظات استفزازية له، ومطرقة إلحاح ابنه بالدخول لكلية بعينها تهشم سندان قلبه الى ان استجاب له زميل قديم فاقه بالعلم والسفر لطلبه، على الرغم انه لم يكن في بداية حياته شيئاً مذكوراً، ولكنه اعترف أخيراً لزميله بالتميز عليه لتقدمه بالعلم وليس بالضرورة متفوقاً عليه بالأمانة والصدق والأخلاص!
أخيراً دخل حامد الكلية المرغوبة، لكنه أفاق ذات لحظة على والده وهو يهذي مكلوماً:
- لِمَ يا بُني - لِمَ لمْ تستذكر دروسك جيداً وتحرز الدرجات العالية لتتمكن- أنت بنفسك- من الالتحاق بالكلية التي تريد والقسم الذي تهوى؟!
- لِمَ يا بُني تهدر كرامتي، وأنا الذي حفظتها لك وتعاهدت تربيتك، وكرهت المركبات السائرة على الأرض، والمحلقة في السماء، خوفاً من أن تخطفك الأولى أو تتحطم بك الثانية!
- لِمَ يا بُنَيْ؟ لِمَ لمْ تحقق نجاحك بجهدك؟!
حامد.. يا بني.. ليتك ما أتيت!!
|