جلس العرب على ضفاف رمال الصحراء لقرون، بعد أن سقطت دولتهم العظمى في الشرق والغرب، وبعد أن غابت شمس الحضارة عن شرق المتوسط وجنوبه، ليعيشوا في ظلام الجهل والعصبية، ويخرجوا من قلب التاريخ النابض إلى صفوف الأمم التي تعيش على الهامش، ثم تختفي بعد اجتياح الثقافات المنتصرة للواقع..
وما أن دبت الحياة من جديد في جسد الأرض العربية أوائل القرن العشرين، حتى أصيبوا بداء 'الهروب'، فشمس الحضارة التي غابت قروناً سطعت على واقعهم بقسوة، فلا يمكن لبدوي لا يملك إلا ناقته وخيمة خفيفة الوزن، أومزارع أهلكت محاصيله شح الموارد المائية وقسوة الطقس، أن يواجه تلك الوسائل المتقدمة تقنياً وفكرياً وإعلامياً وسياسياً التي يمتلك العملاق الغربي حقوق إنتاجها وإدارتها.. فالغرب يملك حصرياً في الوقت الحاضر حقوق الدواء والآلة والمعلومة والديمقراطية والقانون والإنسان..
بعد عودة الروح للجسد، بدأت رحلة التيه العربية في العصر الحديث، فاختار بعضهم طريق الهروب إلى العدو، والتعامل معه أوالانضمام إليه إذا لزم الآمر، فبدأت وقتها رحلة الاستعمار والخضوع لمطالب الحضارة الجديدة .. لكنهم أدركوا لاحقاً أن لهذا النمط من الهروب ثمناً باهظاً، فالغريب أوالغربي يريد السيطرة والتحكم في كل شيء، ولا يقبل بأقل من ذلك الثمن..
ولجأ أوهاجر العرب أفراداً إليهم هروباً من البطالة والبؤس والمشقة والعنف، وبحثاً عن العيش والرخاء والأمن والسلام، واختصاراً لمعاناة انتظار سيطول أمدها، إلى أن يشرق فجر جديد في الشرق.. لكنهم مع مرور الزمن صاروا يفتقدون ذلك الحنين الذي كان يجعلهم في الماضي على صلة بالشرق، الذي يفتقدونه أيضاً لأنهم مهاجرون في شروط المواطنة الجديدة، فخسروا حنين الماضي في الشرق، وغابت للأبد رؤية هلال المستقبل في الوطن البديل.
بينما هرب آخرون إلى الماضي، واستنجدوا بقواه ومبادئه وأفكاره واختلافاته وخلافاته، فرفعوا الحصن، وأسسوا البنيان والمعرفة التي يعتقدون راسخين أنها تقيهم وهج شمس الحضارة الجديدة، فخرجت أجيال جديدة، ولكن بعقول تراثية خالصة.. لا ترى المجد إلا في الماضي، ولا ترى في المستقبل إلا امتداداً لجحيم الحاضر، فالعالم حسب النظرية الماضوية يسير من أسوأ إلى أسوأ وهكذا، وإن ما يحدث فيه من تطور تقني ومعلوماتي حضارة مادية زائفة.. ولا خلاص منها إلا بالعودة إلى الماضي والعيش فيه، والتطبع بطبائعه وأفكاره، فالساعة التي تدور باتجاه الغد لا تحمل حسب تلك الحقيقة في زمنها المقبل إلا البؤس والجحيم والعذاب، ولا سبيل للخروج من ذلك المصير إلا عبر الهروب من الدنيا، وهجرها، والعيش كعابر في انتظار مصيره الرباني..، لكن اختلافاً استجد، وهوكيف يمكن تحقيق ذلك؟ لتبدأ اتجاهات الصراع بين من يؤمن بالحل العاجل من خلال العنف والجهاد، وبين من يؤمن بالحل السياسي الآجل.. بينما هرب بعض آخر إلى المستقبل، ولم يكتفِ بذلك، بل راح يعمل على فرض ذلك الهروب قسراً على الجميع، فاستقدم علمانية مستبدة، ورفع شعارات اشتراكية وديمقراطية مزورة، تحرسها الآلية المدرعة وعقلية الحل الأمني،ولم يكتفِ بذلك الحصار والحماية لمستقبل مهزوز، ولكن وضع اللافتات والخطوط الحمراء التي تمنع الرجوع إلى الماضي، وتحرم على الجميع النقل والحديث برواياته وأخلاقه ومعاملاته..
وهناك من هوانتقائي في خياراته وفلسفته في التغيير، ومشتت في اتجاهات هروبه، فتجده ساعة يهرب إلى المستقبل، ويطالب بانفتاح متحرر من قيود الماضي اجتماعياً، لكنه ينسل بهدوء إلى الماضي عندما يشترط انضباطاً غير مشروط بالقيود الماضوية لاتجاهات التحديث في علوم الإدارة وفنون السياسة، والتزاماً صارماً لإنسان الشارع في الحاضر بموروثات وأبواب الماضي ..
والمجتمعات الواعية والمتطورة لا يجب أن تهرب من الماضي بكل ما حمل، فالحضارة بلا ماضٍ كالإنسان الذي بلا ذاكرة، والتاريخ جامعة تدرس فيها الأمم، وتتعلم منها العبر والدروس،ولكن لا بد من مواجهة حقائق ذلك التاريخ، وفهم ثقافاته المتعددة وأنساقه المتجمدة والمتكررة، وأن تنجح في توظيفها من أجل بناء مستقبلاتها..،وعلينا أن نعترف قبل ذلك بقصورنا الفاضح في الهروب من استكشاف أنفسنا أولاً ، ثم العمل على بناء مستقبل أجيالنا بشفافية ووضوح عبر إخراج الذهنية العربية من عبادة المقولات والرموز، والتغني بالبطولات الماضوية إلي ذهنية النقد الضروري والبناء للأحداث والظواهر، وإلى عقلية الشك المنهجي المبني على الأدلة المعرفية، فثمة حقائق دامغة تواجهنا بمرارة نتائجها كل يوم، وتقف ضد كل حركة مستقبلية، ولا يمكن أن نهرب من تصحيحها إلى الأبد تحت ذرائع ومسوغات وحجج واهية، ذلك لأن أسئلة التاريخ في المستقبل ستفرض أجوبتها، وستقف نتائجها وكوارثها الوخيمة والسلبية عند كل باب، ترصد لحظات هروبنا كلما قررنا أن نتوقف عن المشي في ذلك الطريق الصحيح، الذي يؤدي فقط إلى المستقبل.. الذي لا يحدث القطيعة مع الماضي، لكن يبعث فيه روح التجديد والتطوير لكي يتحول من معول هدم إلى أداة بناء فعالة للأجيال القادمة..
|