بعد غدٍ يا نوَّارة، سأرتدي صبراً جديداً إلى صبري...
لن أخلع عني أردية الصَّبر التي تراكمت تسع سنوات، منذ أن غادرْتِ مدينة نبضي الذي كان يرتهج في صدركِ...
أتذكَّر وأنا أغسلكِ وأنتِ ذاهبةً إلى بيتكِ البلَّوري، كأنَّكِ كنتِ تحدِّثينني، أتوقَّف قليلاً، أنيخ أنفي بجوار أنفكِ، أتلمَّس زفيراً هادئاً يوقفني عن إراقة الماء عليكِ...، لكننَّي كنتُ أعود بشيء من رضاكِ فقد كنتِ بهيَّةً حتى في وداعكِ، رضيَّة حتى في غُسلَكِ، قويَّة حتى في رَقْدَتكِ...
يا أنتِ، كيفَ استطعتِ أن تتجاوزي حدَّ الدَّم، والجلد، والعظام؟
كيف قدرتِ أن تستوطني شغاف النَّبض، والروح، ولا تتخلِّي عن ذرَّات الساعة، ودقائقها، ولحظاتها، ولمحات الزمن؟ في ظلام الَّليل، وإشراقة النَّهار، وترابيَّة الظُّهر، وافترار العصْر؟...
لكلِّ وقتٍ لونُه الذي هو لون مواقفكِ الرَّاسخة حدَّ الحفْر في كلِّ طيفٍ ذكرى يا نوَّارة، وأنتِ هنا...، أنتِ هنا بشموخ الصّدق الذي كنتِ تمثِّلينه سلوكاً في قولكِ وفعلكِ...
بعد غدٍ يا نوَّارة، أثق بأنَّ صدري ستعاوده تلك النَّبضة الفارَّة بعنْوة الاختراق، كي أدري أنَّكِ في الوقت ذلك تلفظين آخر أنفاسَكِ، ولكنْ كيف آخرها...، ولازلتُ يا حبيبتي أستمدُّ إكسيرَ الحياة من أنفاسكِ؟...
أنتِ، كونٌ عظيمٌ لقدرة الله تعالى في كونه...
لا أدري لو أنَّكِ لاتزالين تمشين على الأرض ما الذي كنتِ ستفعلين فيما يحدث في الحياة؟
أثق بأنَّ لكِ من الحكمة ما إنَّ بها صوَّبتِ مسار خطوتي، وأقمتِ أود جوْعتي، وقوَّمتِ انكسار مشاعري, وبلسمتِ جروح إحساسي بكلِّ ما هو على الأرض التي تمشين فوقها ويحترق...، لكنَّ رحمه الله تعالى بكِ كنفَتْكِ... فلا تدرين عمَّا آلت إليه الأرض التي عمَّرها الإنسان فدمَّرها الآخر, والتأريخ الذي صنعه النُّبلاء فلوَّثه البغضاء، والحضارة التي شيَّدتها البشرية فقوَّضتْها الهمجية...
نوَّارة: أتذكَّركِ بهامتكِ الفارهة صولجاناً للحق, وصوتاً للتَّنوْير، وعطاءً للصدق، ووفاءً لمواقف الشَّرف، وقوَّة بالإيمان في غير انكسار...
ورقَّةً في المنح في غير ابتذال...
لله درُّكِ وقت كنتِ في زمن البناء...
لله درُّكِ وأنتِ في زمن الاقتداء...
لله درُّكِ في الخاطر سراجاً أحتمي به من ظلمة الوعْثاء...
بعد غدٍ يا نوَّارة...
|