*مضواح بن محمد آل مضواح:
حدث رائع جدا أن تُنظّم ندوة كبرى عن القضاء والأنظمة العدلية في عاصمتنا الحبيبة، وربما هي الأولى من نوعها في بلد ظل منارا للعدل والهدى.. بلد انبثق صبحه الوضاء عن أعظم رسالة، وتفتق جبينه الأغر عن حكم أعلن أن غايته هي تحقيق العدل والأمن والسلام بتطبيق شريعة الله.. وعلى ذلك قامت البيعة وستظل.. ولله در حاكم كانت له اشرف غاية!.
إن من المهم جدا أن تظل ثقتنا في أجهزتنا القضائية، وفي مقدمتها المحاكم، راسخة لا تنال منها سلبيات فردية هنا أوهناك، فنحن لسنا مجتمعا من الملائكة، وفضلا عن هذا فإن مجتمعنا يعيش حراكا اجتماعيا شديدا وتغيرا سريعا وهائلا.. حراك وتغير لو أنه يحدث في مجتمع آخر بالدرجة نفسها لحلت به الكوارث وتفككت روابطه الدينية والأخلاقية والقيمية، لكن أجهزتنا القضائية ساهمت بنصيب كبير في درء هذه الأخطار عن مجتمعنا والمحافظة على توازنه في مسيرته التطورية. وعندما أقول أجهزتنا القضائية فإنني أريد أن أنقل إلى الواجهة خطأًً شائعا إذ يعتقد البعض أن مسمى (الأجهزة القضائية) خاص بالمحاكم، وهذا غير صحيح، إذ يشترك عدد من الأجهزة في هذا المسمى، ويطلق عليها أحيانا أجهزة الضبط القضائي، وهي الأجهزة التي تنفذ سلسلة من الإجراءات وفق النظام أو التشريع تبدأ من أول لحظة تقع فيها الجريمة أو الاشتباه بوقوعها، ومن أول لحظة يطلب من هذه الأجهزة أن تتدخل لفض أي نزاع.
****
ومن هنا فإن جميع الأجهزة الأمنية التي تتعقب المتهمين وتقبض عليهم وتقدمهم للعدالة، بالإضافة إلى المحاكم على مختلف أنواعها تعد أجهزة قضائية.
وعندما ألج في صلب الموضوع فسأنطلق من قناعتي بأن الأسلوب الأفضل عند دراسة ظاهرة أو مشكلة أو تنظيم ما لا يزال يكتنفه شيء من المجهولية أو الغموض هو أن تنطلق الدراسة منذ ما قبل نشأته ووصوله إلى الهيئة التي هو عليها، حتى تكتمل الصورة، لذلك سأنتهج هذا الأسلوب لتكوين صورة واضحة بقدر
المستطاع عن هذا الجانب المهم من حياة البشرية، مركزا بصورة أكبر على المحاكم، ومحاولا المزج بين الجانب الاجتماعي والجانب التنظيمي أو القانوني.
فمن الناحية الاجتماعية وجدت أن دراسة المحاكم على وجه الخصوص كتنظيمات قضائية جاءت نتيجة لاهتمام علماء الاجتماع بسوسيولوجيا المهن القانونية، وبخاصة بعد أن تنوعت المجالات والقضايا المتعلقة بأصحاب هذه المهن والمؤسسات التي يعملون بها.
أما من الناحية القانونية فقد وجدت أن الاهتمام بدراسة المحاكم جاء لتوضيح الدور الوظيفي للمحاكم والمؤسسات القانونية الأخرى.
وبعد أن تعرض النظام القانوني والقضائي في المجتمع الحديث لانتقادات كثيرة اتهمتهما بالفشل في التصدي للظواهر المرضية الانحرافية مما أدى إلى ارتفاع معدلات الجريمة، واتهمتهما كذلك بعدم التخطيط والتنبؤ باتجاهات الجريمة وأثرها على المستوى المحلي والدولي.
ومما يشجع على تعميم كثير من الدراسات في هذا الجانب أن معظم دول العالم تتماثل تقريبا في كيفية تكوين الأجهزة القضائية وبخاصة تكوين المحاكم، كما تتماثل في الطريقة التي تؤدي بها السلطة القضائية وظيفتها من خلال نوعين من التنظيم: النوع الأول- نظام القضاء الموحد: وفيه تنتظم جميع المحاكم في جهاز قضائي واحد مع اختلاف هذه المحاكم في نوعية التخصص أو نوعية القضايا التي تختص كل محكمة بالنظر فيها كالمحكمة المدنية والمحكمة الجنائية والمحكمة التجارية.
النوع الثاني : نظام القضاء المختلط:
وفيه توجد أكثر من جهة قضائية في الدولة الواحدة بحيث تختص كل هيئة قضائية بنوع معين من القضايا كما أن الهيئات المشرفة على هذه الجهات القضائية مختلفة، وإلى جانب هذا فإن المحاكم تختلف من حيث الدرجة في كل نظام من هذه الأنظمة، وأيا كان التنظيم القضائي فإن جميع الدراسات الاجتماعية والقانونية تسعى إلى معرفة الدور الذي تؤديه المحاكم وغيرها من الأجهزة القضائية في المحافظة على النظام والاستقرار والعمل على استمرار الحياة الاجتماعية السليمة.
فالفلسفة التي تقف خلف فكرة القضاء ومن ثم نشوء السلطة القضائية هي فلسفة العدل وتحقيق العدالة، أما الهدف الرئيسي للقضاء فهو المحافظة على الحقوق، وتحقيق الأمن وصيانته، وجعل المجتمع يعيش في توازن وعدل وسلام ومساواة.
لقد كانت هناك إرهاصات كبيرة على الإنسان من نفسه سبقت نشوء فكرة التحكيم ومن ثم التقاضي والقضاء، فمن المعتقد أن العشيرة كانت أول خلية اجتماعية وجدت في الجنس البشري، اجتمع أفرادها بالصدفة أو المشاركة في دفع خطر ما، ومع مرور الزمن ظهرت القبيلة وظهر معها زعيم القبيلة حيث كانت كلمته هي القانون الداخلي وكانت القوة هي القانون الخارجي أو الأسلوب الوحيد للتفاهم مع الغير، إذ كانت القوة تنشئ الحق وتحميه وتستعيده.
وبسبب الاحتكام إلى منطق القوة فقد كان الانتقام والثأر يسود جميع ردود أفعالهم، ومن هنا كانت بعض القبائل تسلم المعتدي إلى قبيلة المجني عليه إذا فشلت محاولات الصلح والتعويض، وربما أن تذوق أو تفهم معنى العدالة والحق نشأ من هذه النقطة، وألفت القبائل الاحتكام إلى طرف ثالث لفض النزاعات، وفي الغالب فإن الحكم كان من شيوخ القبائل والعشائر، وقد كانت الدعوى أو المرافعة أمام الحكم (القاضي) تتم من خلال المبارزة ومن يحكم له بالنصر يعد صاحب الحق، ثم تطور الأمر فأصبحت هذه المرافعة تتم من خلال قيام الخصم بإشهار سلاحه ومواجهة الخصم الآخر بحركات وعبارات وإشارات فإذا لم يؤدها الخصم الآخر أمام الحكم بشكل صحيح خسر الدعوى، ويمكن النظر إلى طبيعة المحاكمات خلال العصور القديمة كلها على أنها لم تكن تبتعد كثيرا عن فلسفة التقاضي هذه في أحسن الأحوال، وإن كانت تجنح إلى طرائق أسوأ من كل هذا.
وعندما انتقل الإنسان إلى العصور الوسطى كان ينبغي عليه أن يترك وراءه كثيرا من هذه الممارسات السيئة وغيرها، غير أن ما حدث هو العكس وربما الأسوأ في كثير من مراحل هذه العصور، فقد كان الجاني يحاكم أمام محكمة القيصر الذي كان يتولى القضاء بنفسه ثم ظهرت محاكم تابعة للنبلاء وشيئا فشيئا حتى أوكل القيصر بعض شؤون القضاء إلى من ينوب عنه مع احتفاظه برئاسة الهيئة القضائية، وقد كانت الأحكام في الغالب تتضمن الجلد وبتر الأطراف والقتل، وكانت تصدر بقصد التنكيل بالجاني والانتقام منه، ولم يكن هناك تفريق بين القضاء المدني والقضاء الجنائي، وتتحدث الدراسات عن أنه كان يوجد خلال الفترة من 449-1106م نوعان من المحاكم هما: المحاكم الخاصة: وهي خاصة بالفصل في المنازعات بين رجال بلاط القيصر، وكذلك محاكمة من يرتكب أعمالا مخلة بأمن القيصر، ويندرج ضمن هذا النوع محاكم النبلاء للفصل في المنازعات بين تابعيهم.
المحاكم العامة أو الشعبية:
وفي الغالب لم يكن لها مكان محدد تنعقد فيه بل كانت جلساتها تعقد حتى في الطرقات وفوق التلال، والقضاة فيها أفراد من الشعب وتنعقد برئاسة زعيم المقاطعة، وتصدر هذه المحكمة أحكامها بالاقتراع، ولم تكن هذه الأحكام ملزمة للخصوم لكن الممتنع عن التنفيذ يفقد الحماية ويصبح معرضا للقتل من قبل الخصم الآخر.
وينقسم هذا النوع من المحاكم إلى ثلاثة أنواع هي محكمة المقاطعة وتنعقد مرتين في العام، ومحكمة العائلة وتنعقد مرة كل شهر، ومحكمة القرية وتنعقد حسب مقتضيات الحوادث.
أما إجراءات الإثبات فلم يكن هناك قاعدة لتعيين المكلف بالإثبات، وقد كان الإثبات على نوعين: القسامة- حيث يحضر الخصم مجموعة من أسرته أو عشيرته، وأغلب الدراسات تحددهم بأحد عشر رجلا، يقسمون معه على صحة دعواه أو دفاعه.
التجربة- ويتم الاعتماد فيها على القوة الإلهية لتحديد الجاني أو الظالم في دعواه وفيها يتم حرق المتهم بالنار أو الماء المغلي فإذا شفي خلال ثلاثة أيام مثلا فهو بريء.
لقد سادت مثل هذه الأساليب لفترة طويلة في بقاع شتى من المعمورة، وحين ظهر النظام الإقطاعي في أوروبا سنة 1100م تقريبا ترتب عليه بعض التعديلات فقد ألغيت المحاكم الشعبية لتحل محلها المحاكم الإقطاعية التابعة لقياصرة ومن هنا اتسع اختصاص محكمة القيصر وأعطى لنفسه حق النظر في المنازعات، والأخطر من هذا أن هذه المحكمة تضطلع أيضا بمهام الاستئناف وكان هذا مبررا وعاملا قويا للطغيان والتعسف.
كان من نتائج نظام الإقطاع أيضا تمييز الاختصاص الديني عن الاختصاص المدني في القضاء، فتشكلت محاكم كنسية يرأسها رجال الدين لتطبيق القانون الكنسي المستمد من أوامر البابا، وقد شاع الاعتماد على المبارزة بين الخصمين لإثبات الدعوى وكانت العقوبات بدنية وتنفذ بقسوة ووحشية امتدادا لما كان سائدا في العصور السابقة.
من الواضح أن دخول الكنيسة إلى مجال القضاء كان منعطفا خطيرا، فقد ازدادت الأحكام القضائية قسوة وطغى عليها مبدأ التكفير على أساس أنه كلما كان العقاب شديدا كان التكفير عن الذنب أقوى وأعمق، وأخذت سيطرة الكنيسة على مجريات الحياة تزداد قوة إلى حد يمكن القول معه إنها أصبحت تسيطر على السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وعانت المجتمعات التي ساد فيها الفكر الكنسي من عقوبات قاسية وحاطة من كرامة الإنسان فقد كان القاضي يشرع ويحكم وينفذ، وفوق هذا لم يكن الناس سواسية أما القانون وأمام المحاكم، بل كان الضعفاء هم المجال الحيوي لإعمال مواد القانون والأحكام القضائية، ولم يكن هناك أي اعتبار لعوامل الإجرام سوى أن المتهم مصاب بلعنة توجب استئصاله، واستمر هذا الحال حتى ألغيت المحاكم الكنسية سنة 1857م.
ومن الأمثلة على قسوة الفكر الكنسي هذا أن أحد القضاة الأوروبيين حكم بالإعدام على عشرين ألف متهم خلا أربعين سنة من ممارسته للقضاء، وقد وصل عدد الأفعال التي يحكم على من اقترفها بالإعدام في إنجلترا لوحدها إلى أكثر من مائتي فعل.
يضاف إلى ذلك أن العقوبات كلها كانت تقصد الانتقام من الجاني والتنكيل والتشهير به، وهذا وحده كان كافيا للحكم عليها بأنها عقوبات وحشية وخالية من أي هدف إصلاحي على الإطلاق، ومجرد إلقاء نظرة على نماذج من تلك العقوبات يقدم جانبا كبيرا من التفسير للأسباب التي جعلت المجتمعات الغربية تمعن هي الأخرى في الانتقام من أرباب النظام الكنسي والنظام الإقطاعي كثنائي قذر قام التحالف الضمني بينهما على أساس انتهاك إنسانية الإنسان، وتمعن أيضا في حرية الفرد إلى درجة أنها شرعت وحمت التحلل والتفسخ الأخلاقي.
والصور المنشورة توضح بعض العقوبات التي سادت خلال تلك الفترة في أوروبا.
وهذه الصور ليست من نسج الخيال بل إنها تنطلق مع الواقع وتجسده..
صور رسمها رسامون غربيون عما كان يحدث في مجتمعاتهم.
......يتبع
|