مادمنا قد عدنا من فاس إلى الرباط بالحافلة، فلابد أن نستقل القطار في العودة إلى الدار البيضاء من الرباط. وهكذا كان، فلم يقل إعجابنا بنظام محطة القطار في الدار البيضاء عن محطة الحافلات في فاس. كانت مركبة الدرجة الأولى خالية تقريباً من الناس، وقد أتاح لنا ذلك حرية الحركة والاستمتاع بمناظر الطريق - عن يمين وشمال - التي كانت تخترق عدة قرى خضراء، واستغرق الطريق حوالي الساعة.
اخترنا فندقاً هادئاً في أحد الشوارع الفرعية في وسط المدينة بمواصفات لن يختارها إلا من كان مثلنا، أهمها الهدوء والنظافة المادية والمعنوية.
ومن هناك انطلقنا نجوب الشوارع والأسواق المجاورة سيراً وركوباً، فهذه المدينة الكبرى التي أنشأها البرتغاليون سنة 1575م كانت قرية صيد صغيرة، دمرها زلزال عنيف سنة 1755م ثم أعيد بناؤها من جديد، أصبحت الآن أكبر مدن المغرب سكاناً ورابع أكبرمدن أفريقيا من حيث كبر الحجم بعد القاهرة، والإسكندرية، وجوهانسبرج (بجنوب أفريقيا)، فسكانها الآن حوالي الثلاثة ملايين، وكانت من أولى المدن المليونية التي ظهرت في العالم الإسلامي، والعجيب في الدار البيضاء سرعة تضاعف سكانها، فقد تضاعف عشرات المرات خلال 90 عاماً إذ كان سكانها 20 ألفا فقط سنة 1911م. وقد أطلق عليها التجار الإسبان اسم (كازابلانكا) أي المسكن الأبيض باللغة الإسبانية بسبب الطلاء الأبيض الذي ترش به بيوتها.
واتخذها الأمريكان قاعدة بحرية لهم أثناء الحرب العالمية الثانية وفيها التقى روزفلت بتشرشل في يناير سنة 1943م ليقررا مصير الحرب.
هذا بعض ما تختزنه ذاكرة الدار البيضاء التي تتربع الآن على عرش المحيط الأطلسي حرة مستقلة يتقدمها مسجد الحسن الثاني بهامته العالية الذي صلينا فيه وانبهرنا به أول وصولنا. ومضينا نستكمل تجولنا فكان أقرب مكان لنا من الفندق السوق القديم الذي يسمى (باب مراكش) محاط بسور تاريخي وبوابة كبيرة رئيسية ثم زرنا منطقة (الأحباس) الشهيرة وهي أساس المدينة القديمة، ويقال إنها سميت بهذا الاسم لوجود السجون بها في ذلك الوقت.
والأحباس تغص بالسياح الأجانب - غير العرب - لقدم مبانيها وأسواقها التي تبيع المصنوعات التقليدية والملابس المغربية، فالدار البيضاء يوجد بها أكثر من ثلثي صناعات المغرب، ويمر بها أكثر من 70% من تجارته الخارجية. كما تشتهر الأحباس أيضاً بوجود المكتبات فاشترينا من الكتب مما ليس منه بد أو هكذا أقنعنا أنفسنا لنحتمل ثقلها في الوزن إلى جوار الهدايا. وختمنا ليلة اليوم الأول بجولة على الأقدام في أحد الشوارع الرئيسية انتهت بعشاء شهي في مطعم شامي وأحاديث شهية لا تنقطع مع الصديق د. محمد حسن الزير على إبريق الشاي الأخضر بالنعناع المغربي المميز في طريقة صنعه.
وفي اليوم التالي اتصل بنا صديق مغربي من أهل الدار البيضاء وعرض علينا أن يصطحبنا بسيارته في جولة على الشاطئ السياحي الذي يسمى (عين الذئاب)، وانطلقنا نجوب الشاطئ وفنادقه التي تزدحم في الصيف، وتوغلنا في طريق الشاطئ حتى ظهرت المساحات الخضراء عن يسارنا تسر الناظرين وأمواج المحيط عن يميننا ترتمي مستسلمة على أحضان الشاطئ الصخري. وعلى امتداد الشاطئ تنتشر البيوت الفندقية (الفلل) بمختلف المستويات المتوسطة والفاخرة وحولها كافة الخدمات وخاصة مطاعم المشويات الطازجة.
وبمجرد رؤية المطاعم أحسسنا بالجوع وتوقفنا في مكان كان كل شيء فيه يغري بالتوقف عنده، وعلى مائدة شهية مطلة على البحر أكلنا ونحن ننظر إلى الأمواج تتدافع بقوة على الشاطئ وكأنها تريد أن تقفز إلينا!
شعرنا ببرودة الجو بعد الغروب مع شدة الريح رغم أننا كنا في أواخر مارس والدار البيضاء تقع على المحيط في المنطقة المعتدلة الدافئة (30 - 40 م شمالاً) بارتفاع 58م عن سطح البحر. وعلق صديقنا المغربي، وقال ضاحكاً: أنتما تشعران بالبرد لكن الجو ليس بارداً. واعترفنا بيننا وبين أنفسنا بهذه الحقيقة فالدار البيضاء كانت أقل برودةً من الرباط، وضحكنا فلم نعلق (!) وعدنا فأوينا إلى مقهى راق في وسط المدينة يتكلم الناس فيه همساً مكثنا فيه حتى أقبل الليل وبدا سواده لنا جميلاً ودافئاً على أشعة الأضواء الخافتة من حولنا.
كان اليوم التالي يوم سفرنا - يوم جمعة وكنت أعرف أن الشعب المغربي يفضل وجبة (الكسكسي) الشهيرة في مثل هذا اليوم، فرأينا أن ندعو صديقنا المغربي على هذه الوجبة في أحد المطاعم الفاخرة شعوراً منا بالامتنان والتقدير لما قام به معنا، فإذا بنا نفاجأ بأنه قد خطط على أن يصطحبنا عنوة للغداء في منزله ثم إلى المطار بسيارته، وعبثاً حاولنا الاعتذار فلم نستطع.
ورأينا ضيافة البيت المغربي وأريحية الإنسان المغربي وكرمه وأمضينا ساعات مع أناس من أطيب من عرفنا قلوباً وخلقاً وديناً.
وفي المطار حسبت الحسبة فرأيت أنني ما كسبت في سفر من أسفاري ما كسبته في هذا البلد، فمكسبي ليس فيما حملته في حقيبتي من هدايا أو ما اختزنته في ذاكرتي من مناظر، أو ما سمعته من محاضرات في المؤتمر بفاس، بل كان فيمن عرفته من أناس ذلك البلد الذين لا تقدر معرفتهم بمال، وقبل ذلك كله وبعده كسبت صديقاً لو عرفته في الرياض لما توطدت بيني وبينه العلاقة كما هي عليه الآن وتذكرت الأبيات الشهيرة التي تقول:
تغرب عن الأوطان في طلب العلا
وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرج هم واكتساب معيشة
وعلم وآداب وصحبة ماجد
وفكرت فوجدت أن الفوائد الأربع الأولى من السهل الحصول عليها في أسفار هذه الأيام إلا الفائدة الأخيرة (صحبة ماجد) فإنها من أصعب الأمور، يسرها الله لي في شخص الصديق الماجد د. محمد حسن الزير الذي كان أكثر من أخ وأكثر من صديق في بساطته ودماثة خلقه، وصدق أدبه وحسن عشرته فقد حدث بيننا تآلف قلوب وتوافق طباع وكأن الواحد منا قد عرف الآخر لسنوات. وأدركت الحكمة في القول الشائع (الرفيق قبل الطريق) فمعرفة الرجال لا تقدر بمال هذا رأيي في الرجل الذي عرفت، وذلكم رأيي في المغرب العربي الذي رأيت، فما أصدق وأوفى من عرفت، وما أعظم وأجمل ما رأيت.
|