هيبة الموت لا حدود لها، فهو حق، ونحن نعرف ونؤمن بذلك لكن رغم هذه الهيبة وهذا الإيمان وهذه المعرفة، نتوه ونحزن ونتألم، رغم أننا نعرف أن من مات اختار احسن الجوار، جوار ربه وما أحسنه من جوار.. وهذا هو حبيبنا وصديقنا ووالدنا فهد العلي العريفي، رجل حسن السيرة طيب القلب، مهيب وشامخ وقوي وعطوف لا حد لعطفه، لمن يقترب منه ، ويفضفض له عن همومه وآلامه مع الحياة وأهلها وما يجري فيها له وعليه وبسببه ها هو يودعنا تاركاً عطره وسيرته ونبله وعطفه وقربه من الكبير والصغير.
تعرفت على أبي عبدالعزيز في وقت مبكر، في بداية التسعينيات الهجرية، كنت للتو قادماً من هناك، من جوار المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام ومن جوار غابات النخيل والجبال وحرارتها.. ولا أعرف منذ عرفته انه غضب إلا للحق، حتى عندما غضب مني- وكنت أستحق ذلك الغضب - استقبلني وكأن شيئا لم يحصل، بل انه أبدى استعداده للوقوف بجانبي، وكثيراً ما فعل ذلك! وكنت اعتقد ان هذا الرجل كان يقف بجانبي فقط، ربما لينسيني بعدي عن الأهل، لكنني عرفت ولمست بعد ذلك، ان لديه شركة قابضة للخدمات الإنسانية يديرها ويحركها بمفرده وبصمت تام، لم يرد أحد، يكتب الخطابات ويستخدم الهاتف ويكتب في الصحف ويذهب بنفسه، لخدمة كل محتاج لوظيفة أو مريض أو محتاج أو طالب يريد الاستزادة من العلم والمعرفة!
لقد كنت أزوره على الدوام، وحين أجد بابه مفتوحاً اطرقه وادخل - في الشميسي والعليا - وإذا كان الباب مغلقاً ارجع فقد كنت استحي ان اطرق بابه وأقول دائما قد يكون في حائل أو القاهرة أو سوريا أو غيرها من المدن، لكن إغلاق الباب هذا كان سببا في تخلفي عن زيارته عندما يتعرض لعارض صحي، وكان يجب أن أكون بجانبه على الدوام، فقد حسبت نفسي منذ البداية واحداً من ابنائه الذين ساعدهم ووجههم واستمع إليهم واستمعوا إليه.
ولي مع ابي عبدالعزيز مواقف تدل على معدنه ونبله وتدل ايضا على بعد هذا الرجل عن كل موقف قد يضفي بظلال من الشك حول ادائه الوظيفي:
1- عندما كان مديرا عاما لمؤسسة اليمامة الصحفية دخلت عليه طالبا ان تكفلني المؤسسة في دين لاحدى شركات السيارات فقال لي دون ان يرف له جفن: اسمع يا حسين! المؤسسة لا تكفل أحداً.. لكنني سوف أكفلك وشرع فوراً في توقيع الكفالة..وكان هذا هو الدين الأول والاخير في حياتي، كان بإمكانه اكراما لصديقه ان يقدم له تلك الخدمة خاصة وان هذا الصديق موظف في المؤسسة التي كان يديرها، بل ربما كان هو الذي وضع بند الكفالات.
2 - في أيامه الأخيرة لم يتوقف عن كتابة الوصايا للمرضى والمحتاجين وهذه خصلة تدل على شديد إيمان هذا الرجل بأن الوقوف مع الناس ومساعدتهم أمر لا ينبغي التوقف عنه، مثله مثل السعي في الدنيا لطلب العلم والرزق حتى آخر لحظة!
3 - كلما زاد كربي من تصاريف الحياة وما أكثرها كنت أغشى مجلسه ولا أخرج من عنده إلا وقت تكون الهموم قد انزاحت عنه ، فقد علمني هذا الرجل الإقدام والمباشرة، فهما الوسيلة الناجحة ليمضي الإنسان في دروب الحياة متغلباً على مشاكلها وهمومها التي تعتري الناس كافة، وان كان هناك من
لا يأبه بها وهناك من تعوقه عن حياته المعتادة البسيطة.
4 - كان فهد العريفي مثقفا مؤمناً بوحدة هذا الكيان الكبير، ولم يكن يسمح لأحد بأن ينال من شخص أو يقلل منه لمجرد انه من منطقة معينة أو مذهب معين، فقد كان الوطن بالنسبة له خيمة ينطوي تحت لوائها كل مخلص لترابه.
لذلك لم يكن غريباً ان ترى مجلسه مكتظا بكافة الشرائح الاجتماعية وان يقدم العزاء عند رحيله أناس من كافة أنحاء البلاد.
5- كان لفهد العريفي جاه عند العديد من رجال الدولة ورجال المال والاقتصاد الذين يعرفون فضله ويقرأون حرفه، لكنه لم يستغل ذلك أبدا لمنفعة له أو لعياله الذين رباهم على سجاياه الكريمة.
لقد كان فهد العريفي محبا لتراث الجزيرة العربية، فكتب في ذلك العديد من المقالات، وكان محباً للوطن والمواطن فوقف جل مقالاته من اجل ذلك، ولم يكتف بهذا لكنه كان يسعى بكافة الوسائل لإزالة كربة المكروبين.. وكان أنيس المجلس، محباً للزوار من الاصدقاء والمعارف، يستقبلهم ويتفقد أحوالهم مثلما يفعل الوالد والصديق المخلص، كان يفعل ذلك حتى آخر ايامه فيتحامل على نفسه مستقبلاً الجميع بنفس راضية بقضاء الله وقدره.. رحمه الله رحمة واسعة، بقدر ما أعطى واجزل العطاء لأهله ولهذا الوطن الكبير.. دون أن ينتظر المقابل، فقد كان يراه مباشرة في وجوه الناس الطيبين الذين يلقاهم أو يلقونه في كل حين.
فاكس4533173 |