(1)
** باشر (أبو تمام) أسباب الغِنى بمدائح.. !
**وتحايل عليها المتنبي (بالسواقي) في طريقه إلى البحر..
ومارس من أجل ذلك التزلف..
وإن لم يُجْد فالتهديد..
مدحتُ قوماً وإن عشْنا نظمتُ لهم قصائد من إناث الخيلِ والحصنِ..
** وأثرى كثيرون من تجارة (الحبّ)..
وغيرُهم من تجارة (الحرب)..
وقفزت (ثللٌ) إلى الواجهة بدعاوى (التطّهر) ، وأخرى بمسلك (التستر)..!
** حتى قضايا الأمة المصيرية تاجر بها مَنْ لم تكن فرسهُ الحقيقة أو سلاحهُ الحق..
ولا بدْعَ فهذه معضلة كُلّ الأمم وكل الأزمنة..
فلا نطالب بأكثر مما طالب به (أمل دنقل)
* ولا أطلب المستحيلْ..
ولكنه العدلُ..
هل يرث الأرضَ إلا بنوها..
وهل تتناسى البساتينُ من سكنوها..
وهل تتنكرُ أغصانُها للجذور..
هل تترنم قيثارة الصمت..
إلا إذا مست القوس أوتارها العصبية..
(2)
** كما أغنياء الحرب الذين يثرون من دموع الأيامى..
ودماء الضحايا في عمليةِ ابتزاز رخيصة سجلها التاريخ على المدى فإن مماثليهم في الساحة الثقافية يتمددون بحرارة الجراح..
ويتواصلون بأصداء الهزيمة وأصواتِ النواح..!
**وحين تحل الأزمات يتسلقُ كثيرون الواجهة فتختلط الرؤى..
ويزيد الأدعياء..
ويتوهمُ البطولة مَنْ سيفُه خشب..!
**هكذا تصنعُ الهزيمةُ منتصريها..
والسقطات مقيليها..
وأدوار التبرير والانتهاز ممثليها..!
(3)
** أشار (نعوم تشومسكي) في كتابه (الدول المارقة: حكم القوة في الشؤون الدولية - مترجم ط1 2003م ص120) إلى تقرير المؤرخ الأمريكي (أرثر شيلنجر) -حين عينه (جون كندي) رئيساً لبعثة مراجعة قضايا القارة الأمريكية وخصوصاً وضع (كوبا) الملتهب عام 1960م- فقد خلص التقرير المعد من البعثة إلى أن التهديد القادم إلى أمريكا هو انتشار فكرة كاسترو المؤكدة على أن يتولى كل شعب أموره بنفسه..
حيث يطالب الأغلبية في دول أميركا اللاتينية بفرص العيش الكريم انطلاقاً من العدالة في توزيع الثروة..!
** أخافهم (الفيروس) -كما أطلقوا على كوبا-..
وبطّأت سَيْرهم معادلاتُ الحرب الباردة ، ثم سقط الاتحاد السوفيتي وهدم جدار برلين ، وأصبح للشرطي الأميركي اليدُ الطولى من بنما حتى بغداد وكابل وجاكرتا..!
(4)
في النموذج الأمريكي -الذي يمثل رمزُ السيادة المقلوبة- إشارةٌ إلى تجارة المبادئ التي راجتْ على مستوى الدول..
ثم لم تنجُ منها المنظمات، ولم يسلمْ من ترسمها الأفراد، وبها انتقل كثيرون من الظل إلى الشمس، وافترش الورد طريق القبح، وبدا الخصبُ حيث الجدب وليس في الأفق مطر..!
** ولعمومية هذه التجربة ارتاب الناس في الواجهات..
وربما صحفوا الحقائق..
وتآمروا في دواخلهم على كل إنجاز فغلّبوا الظن السيئ.
وفاحت رائحة المؤامرة حتى زكمت كل الأنوف..
وعاد منطقُ (أبي الطيب) مرة أخرى:
وصرت أشك فيمن أصطفيه لعلمي أنه بعضُ الأنامِ
** لم يعد أحدٌ يثقُ بأحد..
وبدا الأصلُ الرداءة..
والطهارة هي الاستثناء..!
(5)
** يقفُ الناسُ مترددين أمام الصِّيغ الرسمية لقراءة حدث أو إحداث قراءة..
فقد اعتادوا على التفافها على الحقائق..
دون أن يختلف في ذلك أهلُ بلد عن بلد آخر..
وإذا قُّبل ذلك في دول العالم الثَّالث فإن العالم الأول والثاني لا يختلفان كثيراً إلا في وجود وسيلة النقض إلى جانب وسيلةِ الإثبات فتجاورتا..
وتحاورتا..
واختار المتابعون منهما وبينهما دون أن يحتاجوا إلى البحث عن وسائط خارجية..!
** لم يعتد الإنسان العربي هذا السلوك الذهنيّ (المتذاكي) إلا حين أفاق من غيبوبة التصديق الأعمى، فقد عُزفتْ له أنغام الانتصار وهو مهزوم، وتهيأت له ألوان الفرح وهو كئيب، وظنّ إثماً أنه يعيش ضمن أمة واحدة ذات رسالة خالدة فتشظت الأمة إلى دويلات..
والدويلات إلى أقاليم..
والأقاليم إلى فرق، ولم يستطع قراءة الرسالة لأنه لم يرها بياناً أو عياناً..!
** ضاعتْ قضاياه بين صخب القول واختفاء الفعل..
ولم يعد يعنيه خطابٌ يرسم أفقاً، فبحث عن آفاقٍ تغيب عنها الخطب..!
(6)
** كنا جيلاً وُلد في الهزائمِ وعاش في الأوهام..
ونام على أحلام المجد المؤثّل..
ولم يُفق بعد..!
** لم نستوعبْ (أحمد سعيد)..
ولم ندركْ (يونس بحري)..
ورغم اختلافِ دوافعهما بين مَنْ يحارب المستعمر بذاتِه، ومن يستعدي عليه بمثله..
فإنهما يرسمان -اليوم- الطريق التي افترقتْ فيها المِلَل والنِّحل..
فبدوْنا -بمجملنا- أصداءَ صوتٍ شاحب..
أو شحوبَ صوتٍ صادٍ فلا أولاءِ عبروا..
ولا أولئك اعتبروا..!
** غادرنا وجه الأمس..
واستقبلنا دجى الرمس..
وبتنا حيث لا مأوى..
وأوينا فإذا بنا لا نستطيع حتى النجوى..!
(7)
** في القرن السادس الهجري بعث (القاضي الفاضل) إلى (صلاح الدين) برسالة يصفُ فيها أوضاع الناس: (..ليس لك من المسلمين كافة مساعد إلا بدعوة، ولا مجاهد إلا بلسانه، ولا خارج معك إلا بهم، ولا خارج بين يديك إلا بأجرة، ولا قانع منك إلا بزيارة، تشتري منهم الخطوات شبراً بذراع، وذراعاً بباع، تدعوهم إلى الله وكأنما تدعوهم لنفسك، وتسألهم الفريضة وكأنما تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنةَ، وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم..!)
** وإذْ يبدو السياقُ التاريخي ذا دلالةٍ فإن هواجسَ (الثروةِ) قد ظلت العامل الأكثر تأثيراً في توجيه الحِراك المجتمعيَ..
فلم نعدم على المدى نماذجَ تمارس قضاياها بأساليب المرابحة غير الشرعية لتربو أموالُها وأحوالُها بمقدار ما يبيعون من كرامةِ الأمة وكرامةِ الذات..!
** وفي أيامنا مشاهدُ صاخبة من الحركة التجارية الضخمة التي أحالت السيوف والكفوف..
والأقلام والأفهام..
والأَعلام والإِعلام إلى مواطئ للأقدامِ..
يتهافتُ على (سومِها) الباحثون عن الشهرة والوجاهةِ والغِنى..!
** التجارة الخاسرة تقودُ إلى إفلاس..
وإثراء المفكِّر غير المشروع فقرٌ للفكر المشروع، والأمةُ تهوي إلى القاع كلما ارتقى المزايدون القمة..!
*القيم بلا ثمن..!
|