لقد أعلن آرائيل شارون أنه يمتلك مبادرة للسلام في مؤتمر هرتسيليا للأعمال يوم 18-12-2003م وأنها تقوم على أساس فك الارتباط مع الفلسطينيين من جانب واحد، ضمن سلسلة من الإجراءات سوف يقوم باتخاذها بدون إجراء مفاوضات بشأنها مع الطرف الفلسطيني، وذلك بسبب إنكاره لوجود الطرف الفلسطيني المؤهل لإجراء مثل هذه المفاوضات معه، والاتفاق بشأنها حسب ادعائه، ولم تمض سوى خمسة اشهر تقريباً على إعلانه لنواياه هذه وأفكاره الغامضة والطوطمية عن السلام، ومفاهيمه المنافية لأبسط قواعد وأسس السلام العادل والدائم المنشود بين الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني حتى أصبحت هذه النوايا والأفكار محل الاهتمام الإقليمي والدولي، بل أصبح يعتقد البعض أنها المشروع الوحيد للسلام المطروح للنقاش الآن والقابل للتنفيذ وبسبب جملة من المتغيرات والعوامل الإقليمية والدولية، تمكن آرائيل شارون من توظيفها واستغلالها أبشع استغلال فجمدت من خلالها جميع الجهود الدولية المبذولة، من أجل تنفيذ خريطة الطريق، ووجهت كافة الجهود نحو أفكاره الغامضة والهدامة لأسس السلام المنشود، غير عابئ بما يتمخض عن هذه الأفكار من إدامة للعنف، وجعل السلام حلماً بعيد المنال عند الإسرائيليين والفلسطينيين معاً.
فقد باتت أفكاره محل اهتمام الولايات المتحدة، وغيرها من القوى الراعية لعملية السلام، وحتى الدول العربية والسلطة الوطنية، والفصائل السياسية الفلسطينية المختلفة، واصبح الجميع يتطلع إلى أن يعلن شارون التزامه بأن أفكاره هذه وما سيتمخض عنها من إجراءات، ليست بديلاً لخارطة الطريق، وأنها تطبيق، أو تنفيذ عملي لجزء من مشروع خطة خارطة الطريق!!!
لقد تمكن شارون خلال هذه المدة الوجيزة أن يجعل جميع المتابعين، والمهتمين، بإطلاق ورعاية عملية السلام يجرون ويلهثون خلف أفكاره الغامضة، في محاولة منهم التنبؤ بما يمكن أن تسفر عنه، أو ينجم عنها من خطوات أحادية الجانب، بناء على فهم شارون للسلام، والقائم على قاعدة تحقيق الأمن والسلام للإسرائيليين دون سواهم، والذي لا يتحقق في نظره، إلا على قاعدة قهر ودحر الإرادة الوطنية للشعب الفلسطيني، والحؤول دون تحقيق مطالبه في الحرية والعودة والاستقلال. وهذا ما يرسم له شارون من أهداف مستقبلية يسعى للحصول على ضمانات أمنية وسياسية واقتصادية لتحقيقها، بناء على تنفيذه لخطته للسلام المزعوم والموهوم.
ويأمل شارون في ظل الظروف الإقليمية والدولية التي لا تخفى على أحد أن ينتزع مثل هذه الضمانات من الولايات المتحدة، والتي من شأنها أن تقوض ليس حلم الفلسطينيين بالعودة والحرية والاستقلال فقط، بل أن يتم التسليم من قبل القوى الدولية الفاعلة في عملية السلام بمفهومه الخاص للسلام مع الفلسطينيين. وتتجلى أهم هذه الضمانات في عدم التعرض للاستيطان الإسرائيلي والتوسع الإسرائيلي الجغرافي في الضفة الغربية وعدم التدخل في مسار جدار الفصل العنصري الذي يقيمه على أراضي الضفة الغربية، مع ما يترتب عليه من نتائج وخيمة على مستقبل الشعب الفلسطيني، إضافة إلى التعهد بإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وعدم فرض الانسحاب عليه إلى حدود الرابع من حزيران -1967م في أية مفاوضات أو تسوية قد تحصل لاحقاً مع الفلسطينيين، وكذلك الحال بالنسبة لمصير القدس الموحدة كعاصمة لدولة إسرائيل وكذلك طمع شارون في الحصول على ثمن نقدي مجز لسلامه الجائر من الحليف الأمريكي، كل ذلك في مقابل الإجراءات الأحادية الجانب التي ينوي الإقدام على تنفيذها، بدون أن يجري مفاوضات مباشرة مع الطرف المعني، وهو الفلسطينيين أو من يمثلهم، سواء السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، وتلك الإجراءات المتمثلة في الانسحاب من قطاع غزة، وإخلائه سبعة آلاف مستوطن إسرائيلي من قطاع غزة أيضاً، مع إبقاء تحكمه في المعابر الجوية والبرية والبحرية للقطاع بل يعلن أكثر من ذلك أنه لن يسمح بإعادة بناء أو ترميم وتشغيل مطار غزة، كما لن يسمح ببناء ميناء غزة الذي شرعت السلطة الفلسطينية في إنشائه!!! أي أنه يريد أن يحول قطاع غزة إلى سجن كبير للفلسطينيين بدون أن يتحمل شارون ما يمثله ومثله القطاع من عبء أمني واقتصادي وديمغرافي ثقيل على الاحتلال، وخصوصاً بعد أن فشل في اجتثاث شأفة المقاومة المتصاعدة والمتجددة للشعب الفلسطيني في قطاع غزة رغم كل وسائل القتل والدمار التي استخدمها شارون في سبيل تحقيق غرضه.
لقد تمكن شارون من خلال أفكاره الأحادية الجانب، وقبل أن يخطو أولى خطواته نحو تنفيذ هبته للسلام بالانسحاب من قطاع غزة، وإخلاء مستوطناته أن يجعل من مشكلة الأمن في القطاع ما بعد انسحابه منه، مشكلة المشاكل، وأن يدفع بكل القوى الفاعلة، عربية كانت أو دولية، للخوض في غمار هذه الإشكالية المفترضة، وكأن المشكلة تتحول من مشكلة إنهاء الاحتلال والاستيطان إلى مشكلة ضبط الأمن في قطاع غزة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي، مشككا في قدرة السلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية، في تحقيق الأمن للفلسطينيين وبالتالي ضمان أمن إسرائيل !! وقد عرض بعض المهام الأمنية على مصر في هذا الشأن، والتي رفضت تحمل أية مسؤولية تتعدى تقديم الدعم والمساعدة للسلطة الفلسطينية وقد أخذت هذه الإشكالية المفترضة بعداً إقليميا ودولياً ومحلياً يسعى آرائيل شارون من خلال إثارتها الوصول إلى ضمان تحويل أجهزة الأمن الفلسطينية بل والفصائل الفلسطينية نفسها إن أمكن إلى حامية، وضامنة لأمن إسرائيل، أولاً وأخيراً, في نفس الوقت الذي يشترط فيه آرائيل شارون عدم وضع أي قيد على حركة الجيش الإسرائيلي إذا اقتضت الضرورات الأمنية من العودة إلى أي نقطة في قطاع غزة لتأمين أمن إسرائيل.
إن انسحاب إسرائيل من أي شبر من الأرض الفلسطينية المحتلة، سواء كان بمفاوضات أو غيرها لابد أن يكون محل ترحيب الطرف الفلسطيني على اختلاف ألوان الطيف الفلسطيني لأن هدف الفلسطينيين بلا أدنى شك يتجسد في تحرير الأرض الفلسطينية، وإنهاء احتلالها وبغض النظر عما يمثله قطاع غزة، من عبء أمني وعسكري وسياسي واقتصادي وديمغرافي ثقيل على دولة الاحتلال الإسرائيلي، وقد ضاقت به ذرعاً منذ زمن طويل، فإن اخلاءه من الاستيطان الإسرائيلي وانسحاب جيش الاحتلال إلى غير رجعة، بكل تأكيد هو مطلب ومحل ترحيب من كل الفلسطينيين، ويتوافق وقرارات المجلس الوطني الفلسطيني الصادرة عن دورته العاشرة لسنة 1974م والتي نصت على (أن أي شبر يتم دحر الاحتلال عنه الأرض الفلسطينية تقام عليه السلطة الوطنية الفلسطينية), ولكن مثل هذا الأمر دون أن يكون مرتبطاً بأية صفقة سياسية أو غيرها محلية أو دولية من شأنها أن تعرقل، أو تجحف، أو تسقط اية حقوق مشروعة، من حقوق الشعب الفلسطيني، والتي أصبحت تعرف بعد اتفاق أوسلو بقضايا الوضع النهائي (القدس، الاستيطان، حق العودة، الحدود، السيادة.. الخ).
ولذا فإن التخوفات الفلسطينية التي رددتها مختلف الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية وكذلك قيادات السلطة الفلسطينية في هذا الشأن تأتي في محلها، وهي محل إجماع فلسطيني، وتأتي تأكيداً على ثوابت الموقف والرؤية الفلسطينية للسلام، والذي يؤدي إلى إنجاز الحقوق الفلسطينية المشروعة.
إن أية صفقة سياسية سواء كانت عناصرها محلية، أو إقليمية، أو دولية أو أي تعهد من أية جهة كانت، تمس أو تجحف أو تسقط أي حق من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني تمنح لآرائيل شارون لقاء خطواته التي ينوي القيام بها في إطار أفكاره الطوطمية، مرفوضة، رفضاً باتاً، من الجانب الفلسطيني، الذي يتشبث بثوابت موقفه، ورؤيته نحو السلام المنشود، والمقره، والمعتمدة، من قبل المجلس الوطني الفلسطيني والتي تحظى بالمساندة العربية والدولية، وتكفلها المواثيق والقرارات الدولية المتوالية والتي لابد أن يأتي وقت تنفيذها مهما تأخر في إطار اتفاق سلام نهائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين وبالتأكيد لن يكون هذا في عهد آرائيل شارون وعصابته ولا في عهد جورج بوش وعصابته أيضا.
إن آرائيل شارون لم يتقدم بأفكاره هذه نحو السلام خطوة واحدة، بل يقود عملية تراجع سياسة تاريخية من خلالها عن جوهر عملية السلام برمتها، فهو لا يتراجع فقط عن قواعد علمية السلام التي انطلقت من مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991م، بل يهدم عملية السلام من أساسها سواء في اشتراطاته التي أطلقها لينفذ خطواته الأحادية أو في استمرار إنكاره لوجود الطرف الفلسطيني المؤهل للتفاوض معه، وهو بذلك يقود عملية تراجع تؤدي في نهاية المطاف إلى نسف الاعتراف المتبادل الذي جرى بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر 1993م، وقبل التوقيع على اتفاق أوسلو العتيد، في الرسائل المتبادلة في هذا الشأن بين رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ورئيس وزراء إسرائيل آنذاك إسحاق رابين.
إن تغاضي القوى الدولية عن هذا التراجع وخصوصاً الولايات المتحدة يمثل تشجيعاً كبيراً لآرائيل شارون لخطف عملية السلام بمجملها ووضعها في أدراج مكتبه وقلب قواعدها رأساً على عقب، والعودة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي إلى نقطة البدء وفتح الباب أمام دوامة من العنف الدائم لا السلام الدائم، ويتوهم شارون المهووس بقوة الجيش الإسرائيلي، أنه قادر على فرض السلام، وصنع السلام من جانب واحد، وعلى طريقته، وما على الآخرين سوى الالتزام بما يحدده ويمليه عليهم من واجبات كي يستمر في رسم أفكاره وهلوساته على الأرض.
لقد تناسى آرائيل شارون (المحارب الدائم) أن الحرب تقع بين طرفين أو أكثر وبالتالي فإن صناعة السلام تحتاج إلى طرفين أو أكثر، ولا يمكن أن يبنى السلام من جانب طرف واحد أو فرضه على الطرف الآخر بالقوة المجردة.
لقد تجاهل شارون من خلال أفكاره الغامضة عن السلام أن استراتيجية دولة إسرائيل في إدارة ديبلوماسية صراعها مع العرب أنها قد اعتمدت ومنذ بداية الصراع عام 1948م على اعتماد مبدأ (المفاوضات المباشرة) وكان الجانب العربي يصر فيما مضى على رفض هذا المبدأ ورفض إجراء أي محادثات أو مفاوضات مباشرة مع الجانب الإسرائيلي وكان يؤكد على تمسكه بمبدأ (المفاوضات غير المباشرة) أي أن تكون بواسطة طرف ثالث، ولم يذعن الجانب العربي للرغبة الإسرائيلية في التخلي عن مبدأ المفاوضات غير المباشرة لصالح القبول بمبدأ المفاوضات المباشرة إلا بعد حرب أكتوبر 1973م وتداعي جملة من المتغيرات الإقليمية والدولية تبلورت بعد زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل سنة 1977م وما تمخض عنها من مفاوضات مصرية إسرائيلية مباشرة برعاية أمريكية أثمرت عن اتفاقيات كامب ديفيد المصرية الإسرائيلية في مارس 1979م والتي جوبهت بردة فعل عربية معارضة لم تنته آثارها إلا بعد انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991م ويأتي اليوم آرائيل شارون ليتخلى عن مبدأ المفاوضات المباشرة من خلال خطته للسلام إلى صالح المفاوضات غير المباشرة فيتفاوض مع الأردن أو مع مصر أو مع الولايات المتحدة أو مع أي جهة أخرى بالشأن الفلسطيني، بديلاً عن التفاوض المباشر مع الطرف المعني بإقامة السلام معه ووضع حد لاستمرار دائرة العنف ألا وهو الشعب الفلسطيني، وممثله الشرعي والوحيد منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها الشرعية والمنتخبة.
ومن المؤسف أن يجد سنداً لتوجهه هذا من الإدارة الأمريكية ورئيسها جورج بوش، وشارون يسعى من خلال ذلك إلى ترتيب جملة من الالتزامات على الجانب الفلسطيني من خلال تفاوضه مع الآخرين نيابة عنه ودون التفاوض المباشر والاعتراف المباشر بالطرف الفلسطيني، مناقضاً بذلك أبسط شروط التفاوض أو التعاقد الدولي، وغيره من التعاقدات أي أنه يرى السلام مجرد جملة من الاشتراطات والالتزامات يميلها ويرتبها بنفسه على الطرف الآخر دون مفاوضات معه، وبذلك ينسف شارون أبسط شروط التعاقد الدولي لعملية السلام، ويجعل عملية السلام تفتقد لأية مرجعية سياسية أو قانونية أو تفاوضية بل يجعل من نفسه وأفكاره العنصرية المرجعية الوحيدة للسلام هذا هو السلام على طريقة شارون، فهل يمكن أن يتسنى له تحقيق ذلك؟!!
إن شارون وأفكاره خطر على السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين بل وخطر على السلام الإقليمي والدولي، ولا يجوز مجاملته في مثل هذه الأمور الجوهرية لما لها من انعكاس خطير، على مستقبل الجميع في المنطقة، ولابد من مواجهته فلسطينيا بالثبات والتوحد حول الرؤية الفلسطينية للسلام، وعربياً بإعادة بناء الموقف العربي المنسجم مع الشرعية الدولية ومع مبادرة السلام العربية التي اعتمدتها القمة العربية في بيروت في مارس - 2002م ومواجهته دولياً بالشرعية الدولية، ومبادىء أسس عملية السلام القائمة على مبدأ الأرض مقابل السلام وتنفيذ القرار 242، والتوجه المباشر لتنفيذ خارطة الطريق بشكل شامل، وطبقاً لجدول زمني محدد، والا يترك له استغلال بعض الظروف المؤقتة سواء منها الإقليمية أو الدولية، للنفاذ من خلالها لتوجيه سهامه القاتلة لقلب عملية السلام قبل أن تنطلق وتحقق نتائجها المرجوة.
|