من أعنيها: الشاعرة العراقية الراحلة باكزة أمين خاكي.. التي ربما قضت نحبها - رحمها الله - هماً وكمداً.. وأما آخر هديل نزفته الحمامة الراحلة، فهو هذا النبع الدافق بالحزن الدفين لما جرى لعاصمة الرشيد، وأمل متجدد في صوت الشهيد الذي لا يزال يهتف عنوان رائعتها (سلمت يا عراق). هل تقولون: إن الشعر ولى زمانه؟! إذن فأنصتوا معي لهذا اللحن الشجي الحزين:
في ليلة ظلماء غاب البدر فيها واستتر
وانسابت الآهات والعبرات وانفض السمر
فسألت عن نجم الثريا قيل لي: ولى ولم يبق أثروبحثت في أعلى السماء عن النجوم اللامعات.. عن الدرر
أين الثريا.. أين نجم الليل.. بل أين القمر؟
في ذاك الظلام الدامس، وسط حطام الآهات والعبرات المهراقة..
هل رأيت كيف انفض السمر، فما من مات، وقهر من قهر؟
هل يقشعر البدن لهذا الوصف الذي عن عمق الجزع يشف؟
هيا فاستمع معي إلى الحمامة تواصل - في آخر هديل - معاتبة الربيع القاحل الذابل في نوارة القداح، فصلاً آخر من الحزن الشفيف والعتاب والرثاء:
يا موسم القداح.. ما بالي أرى نوارة القداح لونا مكفهر
أمررت يا فصل الربيع على العراق بلا زهر
ورضيت أن تبكي الحمامة في الحقول وتندحر؟
(وليتها قالت: وتنتحر)
وطيورك الورقاء عفت أيكها
وعيون هاتيك (المها تبكي الرصافة والجسر)
وما بين الأمس واليوم.. بين ماضي العز والخير والشموخ.. وحاضر اليوم من ركام الندى المسكوب دمعاً.. وقفت الشاعرة تناجي:
يا موطن الفيروز والياقوت يا بغداد ياتاجا على هام الدهر
قد كنت بالأمس القريب أرى الندى ماسا ودر
واليوم ما بال الندى (حياته) دمعاً ووقر؟
وسنابل القمح المذهب (قد بدت حياتها) فحماً وجمر
(وليتها حذفت ما بين القوسين)
ونخيل دجلة والفرات تواكل تبكي الثمر
قد جاءها أيلول من غير ثمر
وها هي الحمامة: وسط هذا السعير تحن إلى عشها القديم.. إلى ملاعب الصبا.. ومناهل العلم الأولى، وتخونها رباطة جأشها فتبكي على ماض ما عاد حاضراً:
ومررت قرب المكتبات أزورها.. لأشم ذياك العطر
وذكرت جميع الدارسين بسوحها.. لله ما أحلى الذكر
وذكرت لقيا الصخب في جنباتها.. فإذا بدمعي ينهمر
ويا ويل الشاعرة من ذاك الحاضر.. ويا ليت الأيام قصرت بها عن جزع رؤية بلادها نهباً بين الرعاع:
نهب الرعاع كنوزها فأحالها بورا وقفر
أجحافل الأقزام داست في حقولك يا عراق.. بلا حذر
وتوغلت تهدي إلى أطفالنا خوفاً وذعر
وتوسدت عذراء بغداد الحطام - أنينها هز الحجر
وصراخ أطفال الرياض تحرقت أجسادهم.. تحت اللهيب المستعر
ونظرت في كل الوجوه لعلني......
وصرخت من أعماق قلب يعتصر....
الله أكبر.. بالعروبة تحتضر..
لكن الشاعرة تثب من قلب الجب ناصبة شراعات الأمل.. مخاطبة القمر فلم يعد لها من أمل إلا في ذاك القريب البعيد.
يا قمرا اسطع على بغداد يا أبهى قمر
امسح جراح البائسين.. أنر دروب العز.. والمجد الأغر
يا موطني لملم جراحك يا ابي ولا تفر
كم للفوارس كبوة - رغم البسالة - وقعها لا يغتفر
إني عهدت السيف - سيفك يا فرات - ماضيا لا ينكسر
وها هي تنادي بأعلى صوتها - قبل الرحيل - تستودع أمتها أمانة التحرير مهما كان الثمن:
يا موطني.. أوقد رمالك يا عراق فملؤها زيت
وصبه فوق العدا.. ناراً وشر
من قال عاصمة الرشيد استسلمت للغالبين.. فقد كفر
وهي لا تحلم بالمستحيل.. لكنها ترى بشائر تحقيق الحلم في صوت الشهيد:وبرغم كل النائبات سمعت صوتا عطر الآفاق
فإذا به صوت الشهيد مرتلا..
سلمت يا عراق.. سلمت يا عراق.
|