لم أكن أتصور أن (الزمن) سيغدر به وبي على هذا النحو العاجل والسريع..؟! فقبيل شهور قليلة.. هاتفني الأديب الودود والجسور الأستاذ محمد القشعمي من (المجلة الثقافية) - التي تصدر صباح كلّ اثنين في معية جريدة الجزيرة - والذي يجعلك تشعر معه بأن (الكتابة) ليست (نَفْسَاً واحدة.. تجزأت في أبدان متفرقة) كما قال (الحسن بن وهب).. بل إن هؤلاء الذين يكتبون أنما هم من عائلة واحدة أو أسرة واحدة كبيرة وإن اختلفت أسماؤهم وألقابهم.. وأنهم لا يسكنون في بلد واحد فقط.. بل وفي حي واحد.. وفي دور متلاصقة بلا أبواب ولا حراس، إنه يمكنه (هو.. على وجه الخصوص) أن ينتقل بين تلك الدور وقتما يشاء.. وكيفما يشاء. يناقش هذا الأديب.. ويمازح ذلك الكاتب.. ويلاعب صغار ذلك الشاعر.. ويتراشف فنجاناً من الشاي مع ذلك المفكر في شرفة منزله ثم يدخل من فوره إلى طلبه أو طلباته التي لا تخرج في العادة عن دعوة إلى (ندوة) أو إلى (لقاء) لحوار، أو إلى (جلسة) لاسترجاع حقبة من حقب تاريخنا الأدبي أو الفكري أو الصحفي.. كما حدث معي عندما فاجأني - قبل عدة أعوام - بزيارتي في (دار البلاد) لتسجيل تاريخ شفوي عن الحركة الصحفية الثقافية في المملكة وإعلامها ورموزها، وكما اقتحمني قبيل شهور قليلة عبر الهاتف.. ليطلب مني المساهمة كتابياً في عدد خاص من أعداد (المجلة الثقافية) الذي سيتم تكريسه للحديث عن الصديق العزيز الأستاذ والشيخ فهد العريفي وتجربته الأدبية وتاريخه الصحفي.
ورغم تشاؤمي من أمثال هذه الأعداد الخاصة.. التي تبدو لي كما لو أنها حفل تأبين مبكر لحياة أديب أو كاتب أوشكت على الغروب، فقد غالبت تشاؤمي مرحباً بهذه المساهمة.. بعد أن بررت لنفسي بأن صدور هذا العدد الخاص من المجلة الثقافية عن (العريفي) وحياته إنما يشكل سرادقاً أدبياً وصحفياً يلتقي فيه الأدباء والصحفيون بأفكارهم وأقلامهم ل(الترحيب) به والاحتفاء بسلامته بعد جراحة القلب المفتوح التي أجراها بالمستشفى العسكري بالرياض.. وكان سعيداً بنجاحها وأكثر سعادة بإجرائها على يد واحد من أبناء وطنه هو جراح القلب المعروف الدكتور محمد الفقيه.. وليس (المستر) أو (الميسو) فلان.. فقد كان (العريفي) عربياً خالصاً حتى في هذه..!!.
***
رحبت بدعوة الأستاذ القشعمي لألف سبب وسبب.. بل وأظنني هاتفت (أبا عبدالعزيز) لا لأزف إليه خبر صدور عدد خاص من المجلة الثقافية عنه.. فذلك شأن المشرفين عليها، ولكن لأسوّغ له مبرر صدور عدد خاص عنه يخرجه من دائرة الالتباس بين (التأبين) و(الاحتفاء) التي سيقع فيها حتماً، كما وقعت وأقع فيها دائماً.. ولست أدري إن كنت قد نجحت في خلخلة سواتر سخرياته من فكرتي:(التأبين) و(الاحتفاء) معاً.. أم لم أنجح، ولكن الذي أذكره.. إنني عدت من تلك المهاتفة بحشد جديد من بسماته وقفشاته البريئة والماكرة طمأنتني عليه وعلى صحته، وجعلتني أجلس سعيداً إلى أوراقي وقلمي.. لا لأكتب عنه مقالاً مختصراً من (سطرين) أو صفحتين.. ولكن لأكتب بتوسع عنه وعن حياته الشخصية ومصاعبه و(ليسانس) الآداب الذي حرم منه رغماً عنه.. وعن تجربته الصحفية التي بدأت برئاسته لتحرير مجلة (حماة الأمن).. فعضويته ل(مؤسسة اليمامة الصحفية).. فتوليه مسؤولية إدارتها ليشكل مع رئيس تحرير جريدتها (الرياض) الصديق العزيز الأستاذ تركي السديري (ثنائية) نجاح لم يكن ليقابلها غير ثنائية: الصديق العزيز الأستاذ (اياد مدني) - مدير عام مؤسسة عكاظ الصحفية.. آنذاك - والدكتور هاشم عبده هاشم رئيس تحرير جريدتها.. بعد أن طوت ظروف المرحلة ثنائية الأستاذين (صالح العجروش) و(خالد المالك) التي كانت توازي (الثنائيتين) السابقتين نجاحاً أو تزيد، ثم عن (قلمه) الحر الذي كان مغموساً على الدوام في مداد الوطن بهمومه وأحلامه حتى وإن اختار لمقالاته الأسبوعية في (مجلة اليمامة) عنواناً هادئاً يتقي به خفافيش الظلام.. هو: (في حدود المحبة)، ثم لأكتب أخيراً عن مدينته.. ومعشوقته (حائل) التي كانت في قلبه وعقله وعلى لسانه في غدوه ورواحه: شيوخها.. آباؤه، وأطفالها أبناؤه، ورجالها.. إخوانه، وجبلاها الأشمان (اجا وسلمى) وما عاشاه عبر الدهور والأزمان.. هما ذاكرته، و(حاتمها) ب(خلقه) وأساطير كرمه وقوله الرائع والجميل في تلك الأزمان السحيقة والضامرة:
(إذ صنعت الزاد فالتمس له
أكيلاً، فاني لست آكله وحدي
أخاً طارقاً، أو جار بيت فانني
أخاف مذمات الأحادث من بعدي) |
.. يمثل مسعاه وطريقه إن قل أو كثر ما في يديه.
قبل أن انتهي من كتابة المقال فوجئت بصدور العدد الخاص من (المجلة الثقافية) عنه.. وقد ازدحم بكوكبة من ألمع الأسماء الأدبية والصحفية من مختلف مناطق المملكة وهي تتناول العديد من جوانب حياته الأدبية والصحفية والشخصية حتى بدا لي وكأنه لم يبق موضع لكلام آخر يقال.. أو يضاف، فشعرت بشيء من الضجر و(الخيبة).. لتخلفي عن المشاركة في (العدد) انصافاً وايفاءً ل(حقه)، وتأكيداً لمكانته في نفسي ومحبته في قلبي.. أمام الآخرين، أما (هو).. فلم يكن بحاجة إلى معرفة المعروف من محبتي له.. وتأكيد المؤكد من تقديري لمكانته، ومع تلاومي لنفسي لإبطائها، ولومي للأستاذ القشعمي لعدم استعجالي وإخباري ب(ساعة الصفر) لتسليم المقال.. كان شيئاً من الحزن العميق يجثم فوق صدري، وقد تخيلت أبا عبدالعزيز وهو يقلب صفحات (المجلة) فلا يجد اسمي من بين أسماء أولئك الأوفياء الذين كتبوا عنه، لقد خفت من دمعة أسى.. قد تنحدر على خده وهو يتفقدني فلا يجدني من بين من كتبوا عنه، فتحاشيت الاتصال به.. بل ونحيت ما كتبته جانباً اعتقاداً مني بفوات فرصته وانقضاء وقته.. مستسلماً لمثلنا العامي المعروف:(بعد العيد.. لا يفتل الكعك)، إذ لاح لي لو أنني أكملت المقال وبعثت به إلى المجلة لبدوت عند (أسرة تحريرها).. كذلك الذي ذهب إلى (عرفات) بعد أن نفر الناس منها، لأفاجأ في العدد التالي من المجلة الثقافية ب(مقالين) جميلين عن (العريفي) للأستاذين الأديبين: عبدالله جفري، وعبدالرحمن بن معمر.. ليتضاعف شعوري بالخيبة، ويزداد إحساسي بسوء تقديري فيما فعلت، إلا أنني أخذت أهدئ من خواطري القلقة بعد ذلك.. وأطامن نفسي بأن الأيام ستمتد به أعواماً عديدة بإذن الله.. كما امتدت من قبل بأستاذنا الأستاذ عزيز ضياء ولعشر سنوات تقريباً بعد جراحة قلب مفتوح ناجحة كتلك التي أجراها الأستاذ الشيخ فهد العريفي، وإن الفرص ستواتيني للكتابة عنه بدل المرة مرات.. كتابة تشبعني.. ويقرؤها.. كتابة تثلج صدره وصدري.. فتمحو عني إثم تباطؤي.. وتبدد عني هموم تخلفي غير المقصود، وحتى أجعل من (تصوراتي).. وكأنها حقائق أعايشها وتعايشني لا ظنوناً قد تتبدد أو سراباً قد يتبخر.. هاتفته في منزله ل(أدردش) معه عن أحواله، وعن مدينته الأثيرة (حائل) وأخبارها.. وعن بعض تواريخها المعاصرة فلم أفز بسماع صوته.. مرة بسبب ذهابه للمستشفى في زيارة دورية.. وأخرى بسبب ذهابه إلى (حائل).. فتركت سلامي له وقد أشعرتني تلك الأخبار.. بأن أحواله بخير.. وأن أيامه تمضي رخاءً.. وإن مطامنتي لنفسي هي في (محلها)، ومضت أيام.. وربما أسابيع قليلة.. ليصعقني ضحى الأربعاء الماضي (الثالث والعشرون من ربيع الأول 1425ه - الثاني عشر من مايو 2004) خبر وفاته على لسان الزميل محمد باوزير المحرر بمكتب جريدة الرياض في جدة.
فلم أدرِ ما أفعل.. ولا ماذا أقول؟..
ولكن الزميل تفضل مشكوراً بدعوتي للكتابة عنه.. بل وترك رقم الفاكس لدى سكرتيري لأرسل بمقالي عليه إلى (الرياض) ولكنني.. وبعد أن أفقت من صدمة الخبر وزلزاله تذكرت أن من الحق أن يكون (مكان) المقال هو في (الجزيرة) أو في مجلتها الثقافية.. عوضاً عن مقالٍ لم يكتب، ولم يقرأ من قبل من وجّه إليه.
***
بهذه الفجائية غير المتوقعة وغير المرتقبة.. مات (الشيخ) و(الأستاذ) فهد العريفي.. الذي لم أتصوره منذ أن عرفته قبل عقدين ونيف من الزمان إلا على هذه (الصورة) فهو (شيخ) ب(أبوته) و(حنوه) وعاطفته التي لو وزعت علينا لكفتنا جميعاً، وهو (أستاذ) بأدبه وخلقه و(ظرفه): صحافته.. رساله، وأدبه.. كلمة حق يقولها، وقلمه.. كان على الدوام يحلق بهموم الوطن وشؤونه وشجونه.. خارج السرب، فقد كان من أولئك الذين يكتبون ب(دم القلب): الذين فرق بينهم وبين سواهم الأديب والشاعر والفيلسوف جبران خليل جبران.. عندما قال: (شتَّان بين من يكتب بالحبر.. ومن يكتب بدم القلب)، وهو من قبل ومن بعد.. (عربي) حتى العظم.. (حائلي).. حتى النخاع..!!.
إنني ما زلت أذكر (دعوته) التي وجهها قبل عشر سنوات أو يزيد لمجموعة من الكتَّاب والأدباء والمفكرين وأساتذة الجامعات.. لزيارة (حائل) والتعرف على أرضها وإنسانها وواقعها وأحلامها، فقد كان هو وأهلها.. يشعرون كما لو أنهم منسيون.. وأن نصيبهم من رخاء الوطن حتى في زمن الوفرة والطفرة لم يكن على قدر حاجتهم.. فضلاً عن أن يكون على قدر أحلامهم وتطلعاتهم، وما أكثرها.. وأكبرها.. وأجدرها بالتحقيق، وأحسب أن كثيراً من تلك الأحلام والتطلعات قد تحقق خلال السنوات الأخيرة، ومع أميرها الجديد: الأمير سعود بن عبدالمحسن.
لقد أشرف (العريفي) بجهوده الذاتية على كل صغيرة وكبيرة من تفاصيل تلك الزيارة.. وظل واقفاً على قدميه طيلة ساعاتها حتى يرضى أولئك الذين لا يعجبهم العجب عادة.. لقد كانت تلك الزيارة كما لو أنها نداء الحب في قلبه نحو مدينته، ونداء الواجب في ضميره نحو أهلها.. الذي استمع إليه وانفذه على أحسن ما يكون النفاذ.. بتلك الزيارة وما قبلها وما بعدها بامتداد حياته.
مات الأستاذ والشيخ العريفي.. عن حياة ثقافية وصحفية حافلة عريضة، وعن حشد ضخم من مقالاته الإصلاحية التي نشرتها معظم الصحف والمجلات، وعن كتابين.. كان أولهما (من وراء الحدود) الذي لم يقدر لي الاطلاع عليه، وكان ثانيهما.. هو ذلك الذي عدت به من مشاركتي في تلك الزيارة.. وكان عنها: عن حائل.. مدينته وعشقه وحبه الأبدي.. لقد كان الكتاب بحق قبلة حب طويلة ل(حائل) وتاريخها وإنسانها وأرضها وجبليها.
وإذا كان الواجب يقتضينا أن نتقدم بالعزاء لزوجه وأبنائه وبناته أولاً، ولأنفسنا ثانياً.. فإن الواجب يقتضينا وبذات القدر أن نتقدم بالعزاء ل(حائل)، فقد فقدته بمثلما فقدناه.. وربَّما أكبر، وستبكيه بمثلما بكيناه.. وربَّما أكثر.
* جدة: 26-3-1425هـ
15-5-2004م |