ومهما حاول العالم التنصل من ظاهرة الإرهاب، واجتهد في تحميلها جهة دون أخرى، فإن التاريخ السياسي الحديث يضع أصبعه على مفاصل المشكلة، وذلك بتتبعه لبؤر التوتر في العالم،المشكلة، ولو حاولت جهة ما تضييق الخناق عليه وتجفيف منابعه، لندت جراحات مفتوحة، تفور دماً، ولن يتمكن العالم من محاصرة الظاهرة مع وجود تلك البؤر، وإذا نسل منها العنف والتوتر، فقد لا تحتمل إثمه، ولا تقبل انتماءه إليها. فأين العالم من (قضية فلسطين)؟ وأين هو من ذيول حروب مجانية، حركتها المصالح الغربية: ك(أيلول الأسود)، (حرب لبنان) و(العراق) و(إيران) و(أفغانستان) و(الكويت) ودول الاتحاد المنهار؟، وأين الإعلام الإسقاطي من مشكلة (الصحراء الغربية)، و(الجنوب السوداني) و(إريتريا) و(الصومال) و(تشاد)، وحركات التحرر في (أمريكا اللاتينية)، والحروب الطاحنة في (جنوب شرق آسيا)؟. وأين المغالطون من الحروب الأهلية التي تذكيها الأقليات: العرقية والطائفية ويستثمرها عبدة الدرهم والدينار والخميصة كمشكلة (الأكراد) و(السيخ) و(التاميل)؟ وستظل تلك الحركات والتنظيمات المشروعة وغير المشروعة لعبة في يد الكبار، يحركونا كما (مسرح العرائس)، ولا يبالون في أي وادٍ هلك أصحابها. كل تلك المشاكل العالمية والإقليمية التي تتحرك ذاتياً تارة وبتدخلات خارجية تارة أخرى تعد بؤر توتر ومستنقعات تفرخ الإرهاب، وتسقط مقولة: إن الإرهاب بدأ من الإسلام وإليه يعود، وقد تتكون جينات الإرهاب من الشيء ونقيضه، فالتماس بين عقيدة وأخرى على أرض مشتركة محفز طبعي له، وبخاصة حين لا يحصل التوازن، ولا يتحقق تكافؤ الفرص بين الطرفين المشتركين في اللغة والأرض. ودعك من (الحركات الإصلاحية) سواء كانت منطلقاتها: دينية أو تربوية أو إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فإنها تتعمد الإصلاح لما هو غير صالح، فيما يكون وراء الأوضاع الفاسدة مصالح غير مشروعة، يحافظ عليها المستفيد، وقد يدخل في مواجهة مع المصلحين، ولكل من الأنصار والخصوم خطاباتهم المتواجهة. ومهما حاولنا عزل أي حركة عن تأثرها بكافة الأنساق والسياقات الماثلة للعيان أو الكامنة في اللاوعي الجمعي فإننا لا نستطيع ذلك. فالاستجابة العفوية أو الثقافية أو العرفية تعيش حالة من الكمون. ولو نظرنا إلى بداية (الحركات الإصلاحية) الدينية، لوجدنا الدعوة الإصلاحية التي قام بها المصلح المجدد (محمد بن عبدالوهاب) وإلى جانبها الحركات: السنوسية والمهدية والباديسية، ومن بعد ذلك (الإخوان المسلمون) في مصر وتحولاتهم على يد الحركيين المتسيسين، ووجود حركات في الوطن العربي، تستمد من حركة الإخوان طرائقها وأهدافها. كل هذه الدعوات تمر بتحولات لا يراها المعتدلون، ومع ذلك تنسب إلى الأصل. إن هناك انشقاقاً وإغراقاً في التطرف، وظهور فرق التكفير والهجرة لاشك أنه مؤشر خروج على مبادىء الدعوات الإصلاحية المعتدلة. وإلى جانب هذه الحركات - وبعد أن شرعت الشعوب العربية بمقاومة الاستعمار التقليدي - نشأت حركات: قومية وحزبية و(ثيوقراطية) وتجديدية وحداثية ومحافظة، واستعيدت مصطلحات قديمة على غير مراد ذويها ك(دار الحرب) و(دار الإسلام) و(الجهاد) و(الولاء) و(البراء) والاختلاف حول مفهوم (الذمي) و(المواطن) والدخول في صراع مستميت مميت، تغذيه أيد خفية، لا تريد لهذه الأمة الاستقرار. ولاشك أن لكل حركة أسسها ومرجعياتها: النصية والقواعدية والمذهبية. وكلما أخذت الحركات سبيلها إلى الشيوع والسيطرة، نهضت بإزائها حركات مضادة، تحركها أزمات كامنة كأزمة الهوية والشرعية، أو تحركها قوى معادية أو خائفة، وقد تطفو على السطح محرضات ذاتية، لا يلقي لها المتابعون بالاً، ولكنها وقود خفي، كاستشراء (الفساد) بكل صوره و(الظلم) بكل أشكاله (والطبقية) بكل صراعاتها: الخفية والجلية، والشعور بالضعف الحسي والمعنوي بإزاء الدول الكبرى المتسلطة، وافتقار التحديث إلى أرضية علمية وثقافية و(تكنولوجية)، وهذه التحديات تخلق حالات نفسية غير سوية، تتمثل بالتعصب للرأي، والاستعلاء والعدوانية والتشدد والشك وممارسة التخلي والإسقاط وادعاء العصمة، وتضخيم عقد الغزو والتآمر، وكل هذه المحرضات لا تخول أحداً بربط الإرهاب ربطاً عضوياً بالإسلام بوصفه المرجعية لهذه الملل والنحل.
والإرهاب قد تمارسه مؤسسات وأحزاب وطوائف وعرقيات وحكومات وأفراد، بوصفه الخيار الوحيد لمواجهة التحديات، وقد يكون منعطفاً خطيراً لاجتياز مرحلة عصيبة، من قَصره على ديانة خاصة أو طائفة أو حكومة أو عرق، فَقد المصداقية. ومقاصد الإرهاب متعددة، والمتعقبون لتاريخه يقفون على مقاصد عدة فمن مقاصده: فرض نمط سياسي معين، فقد تستخدم الإرهاب حكومات مستبدة لإخضاع الشعب المضطهد على التسليم والخنوع. ولقد أشار بعض المؤرخين إلى (الثورة الفرنسية) في آخر القرن الثامن عشر الميلادي، وتاريخ الثورة الفرنسية المتداول لا يشير إلى الإرهاب، ولكن الأحداث والوقوعات واستشراء القتل والاغتيالات تعد ممارسات إرهابية. وقد تستخدمه حكومات تفرض سيادتها على شعب من الشعوب، لإشاعة الروح الانهزامية، والرضوخ للمطالب التعسفية. ولقد مر الاستعمار التقليدي ومقاومته في الوطن العربي بأوضاع دفعت إلى المواجهات الدموية. وكل دولة قوية تفرض سلطتها بالقوة على أي شعب لا يبادرها بالمواجهة العسكرية تعد دولة تمارس الإرهاب الدولي، وإن لم تكن بمجمل سياستها إرهابية. وقد تستخدمه أقليات عرقية أو دينية، لتحقيق وجودها، والحصول على حقوقها إلى جانب الأكثرية، وهذا اللون يختلف قراء الأحداث في تصنيفه: فمنهم من يراه دفاعاً عن الحقوق ومقاومة ضد الظلم والاستبداد ورفض الإقصاء والتهميش. ومنهم من يراه إرهاباً وإخلالاً بالأمن. وأحسب أن مثل هذا اللون يتسع لكل القراءات، وتحكمه الظروف وطبيعة الأوضاع. ف(الأكراد) مثلاً تتقاسمهم عدة دول، وليست لهم حقوق مستقلة، وقد تكون مقاومتهم في بعض الأحوال مشروعة، ولكن التعدي على الآمنين والأبرياء مجال اختلاف واسع، والإطلاقات غير الدقيقة لا تصيب المحز، ولا تحق الحق، وحتى قمع تمردهم داخل الدولة مسألة فيها نظر، فهي إرهاب عند قوم، وتصرف مشروع عند آخرين. ومثلما تعرضت (أفغانستان) للتدخل (السوفييتي) فإنها تعرضت مرة ثانية للتدخل (الأمريكي)، ولغة الخطاب مختلفة إزاء التدخلين. وفي مثل هذه الحالات تجب الدقة وعدم المجازفة في الأحكام. و(الجهاد) و(المقاومة) و(الإرهاب) ممارسات لا يجوز الخلط فيما بينها، ومع كل التحفظات فإن الأحكام تنطلق من مفاهيم متباينة ومصالح متعددة. ومع صعوبة التقارب في وجهات النظر يجب على كل مستقل أن يتحرى الحق، وأخطر من ممارسة الإرهاب تناقض المواقف، وفقد المصداقية، فربط الإرهاب بنحلة أو قومية، لا يختلف عن وصف المقاومة بالإرهاب، أو جعل الجهاد الإسلامي إرهاباً.
وفي ظل اختلاف المفاهيم والمواقف فقد تستخدم الإرهاب جماعات إرهابية بطبعها ووضعها، ومثل هذا المفهوم ينطبق على (الإرهاب اليهودي)، فلقد تشكلت عصابات إرهابية قبل الإعلان عن قيام دولة يهودية في أرض إسلامية يعد اليهود أقلية فيها. ولقد مارست هذه العصابات أبشع العمليات الإرهابية، عبر عصابات يهودية مدربة، مثل عصابات (أرغون زفاي) و(شترن) و(آغودات) مثل نسف المنازل، وإلقاء المتفجرات في الأسواق، واغتيال الأطفال والنساء، وتنظيم المذابح الجماعية، كمذابح (دير ياسين) و(ناصر الدين) و(حوامسة) و(عليوط) و(حلحول). وكان الهدف من هذا الإرهاب حمل السكان الأصليين على الهجرة، وإخلاء القرى والضواحي والمزارع والمدن، تمهيداً لاستيلاء الصهيونية عليها، بمواطاة ودعم من دول العالم، ولو لم يكن هناك حبل من هذه الدول لما استطاع اليهود إقامة دولة عنصرية مغتصبة، فالاستعمار البريطاني أعطى الوعد، والولايات المتحدة تعهدت بدعمه وحمايته. ولم يكن الإرهاب شرقياً، إذ هناك جماعات إرهابية أوروبية مثل جماعة (بادر هوف) الألمانية و(الألوية الحمراء) الإيطالية و(توباماروس) بأمريكا الجنوبية. ولقد نيفت المنظمات الإرهابية على الثلاثمائة منظمة، كلها شرقية أو غربية، وإن كان هناك جماعات مقاومة ليست من الإرهاب في شيء، تطلق على نفسها جماعات التحرير، واكبت الاستعمار التقليدي، وقاومته: سلماً وحرباً، وخاضت معه المؤتمرات، ومثل هذه الجماعات، تمتلك شرعية المقاومة، فيما يطلق عليها الطرف الآخر صفة الإرهاب، مثل (الجبهة الوطنية) في مصر التي أسست عام 1936م للتفاوض مع الحكومة البريطانية، ومثل (جبهة التحرير الوطني) في الجزائر التي تشكلت عام 1951م، ورسمت لنفسها سياسة تقوم على مقاومة الاستعمار، وإنشاء دولة جزائرية، ومثل (جبهة تحرير الجنوب المحتل) في عدن.
وهناك جبهات شرقية متعددة، مثل (الفييت كونج) الفيتنامية لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وقد تتكون جبهات لمقاومة حكم قائم، وليس لمجابهة مستعمر خارجي، ويندرج تحت هذا المفهوم أحزاب المعارضة. وعلينا أن نفرق بين (الجريمة المنظمة) و(الإرهاب) ف (المافيا) غير (الموساد) ومثل هذا يدخل في تعدد المفاهيم والرؤى. ولو نظرنا إلى ظاهرة (الحرابة) في الفقه الإسلامي، لوجدناها لوناً من ألوان الإرهاب غير المنظم، وقد يتخذ الإرهاب مفهومه الدقيق حين يخيف المجتمع، ويعرضهم للقتل ويعرض ممتلكاتهم للتدمير.
وإذ نقول بأن الإرهاب لم يكن عربي الأصل والمنشأ والولادة فإن ما نقوله ليس ادعاءً لا نقيم عليه حجة، فالمتتبع للأحداث في السبعينيات والثمانينيات يدرك أن دولاً أوربية ك(فرنسا) و(ألمانيا) و(إيطاليا) و(إسبانيا) تجرعت مرارات الإرهاب، وها هي الأحداث الموجعة في (إسبانيا) التي أدت إلى تفجير القطارات، تؤكد أن الإرهاب عالمي الأصل والولادة والنشأة. ومثل هذه الأحداث المروعة تؤكد على أن هناك منظمات لما تزل قائمة، وأفعالها تقع ضمن المفهوم الدقيق للإرهاب، وكم من عمل إرهابي لا يكون لدفع ظلم، ولا لتصفية ثارات، وإنما يكون لإثبات وجود، أو لفت نظر، أو يكون للحيلولة دون نفاذ اتفاق تقترب منه فئتان أو دولتان، ولقد وضع الإسلام أعدل المواقف عند اقتتال الطوائف، فقدم الصلح، وعند البغي شرع القتل، حتى تفيء الطائفة الباغية إلى أمر الله، وبعده تبقى كل الطوائف إلى إطار الأخوة الإسلامية، وقد تتعمد مراكز القوى وجماعات الضغط إفساد بوادر الصلح فتمارس الإرهاب كوسيلة للإفساد والحيلولة دون السلام العادل. ومثل هذه الرسائل الموجعة لا تشكل ظواهر وأعراضاً، وإنما هي تعبير عن الإحباط أو تذكير بالوجود الفاعل والمؤثر، ومما يلفت النظر ويربك المواقف ما تتصف به بعض الدول من عنف في مواجهة الخصوم، ومن ثم تمارس الإرهاب تحت سمع العالم وبصره، نجد ذلك في (إسرائيل)، وقد تمارسه قيادة الدولة عبر عملائها واستخباراتها، حتى إذا انكشف أمرها أذعنت، وتحملت تبعات ذلك. وتاريخ الثورات الحديث مليء بمثل هذه الممارسات الإرهابية، وقد تسهم الدول كافة أو دولة بعينها أو مجتمع من المجتمعات بتشكيل فصائل إرهابية سواء جاء ذلك الإسهام اختياراً أو اضطراراً أو جهلاً أو تعمداً، نجد ذلك عند من حُملوا على المشاركة في (الحرب الأفغانية) فعند عودتهم كانت لهم رؤى وتصورات وتصرفات أخلت بالأمن، ومست سيادة الدولة، ومن ثم أدت إلى مطاردتهم ومحاصرتهم وعزلهم عن المجتمع، وأي انقطاع اضطراري تنشأ عنه عقد نفسية، تتطور إلى حقد فمواجهة، والتعبئة الجهادية التي مارستها كافة الوسائل الإعلامية أثناء (الحرب الأفغانية) وتسهيل مهمة الشباب المتحمسين لمواجهة الاحتلال الروسي لدولة مسلمة شكل ذهنيات ترى مواصلة الجهاد ضد أي دولة غير مسلمة، وحين ضُيق الخناق على عشرات الآلاف من العائدين من أفغانستان والمقيمين فيها، تفرقت بهم السبل، وتلفقتهم عصابات خفية، وظلت فكرة الجهاد قائمة عندهم، وبعض هؤلاء الأشتات دخلوا اللعبة مرة ثانية عامدين متعمدين، مما أضر بالمشروعات الدعوية والإصلاحية، الأمر الذي حفزهم على إعادة تنظيم صفوفهم، وممارسة ضرب المصالح العائدة للدول التي مارست مطاردتهم، ومثل هذا العمل يعد إرهاباً، لأن الدول التي دخلوها ومارسوا الإرهاب فيها، لها سلطاتها، ولها أنظمتها، ولا يجوز الإخلال بالأمن تحت أي مبرر، ومع التحفظ على كثيرٍ من المفاهيم والمواقف فإن ذلك لا يبرر الإرهاب، وبخاصة داخل دولة لا تستدعي أوضاعها أي لونٍ من المواجهة.
ومما يزيد الإرهاب استشراء ويعمق الخلاف، الخلط بين الإرهاب والمقاومة، فكفاح الشعوب من أجل تحرير نفسها من السيطرة أو التدخل الأجنبي عمل مشروع، ومع ذلك لم تمنح هيئة الأمم المتحدة مشروعية ذلك إلا بعد ضغوط ومداولات، غير أن الأقوى هو الأقدر على تحديد المفاهيم، وليس أدل على ذلك من مقاومة الشعب الفلسطيني المستنكر من قِبل الإعلام الغربي وانتهاكات الجيش الإسرائيلي المحالة إلى الدفاع عن النفس. وكيف يقبل عاقل هذه الرؤية الجائرة؟ وهذه المقاييس المغالطة تسقط هيبة القرارات الدولية، وتدفع بالشعوب المغلوبة على أمرها إلى التنظيمات السرية والمقاومة العنيفة، التي قد تطال الأبرياء من رعايا الدول المتواطئة مع الظلم. وخلاصة القول في إشكالية انتماء الإرهاب أن ليس له أبوان شرعيان، وإنما هو لقيط أنجبه اتصال غير مشروع.
|