جعل الله جل وعلا في القصاص حياة، ونص القرآن: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} ففي الحياة مباهج لعل من أعلاها التوبة النصوح التي مردها الجزاء الأوفى من الله دنيا وآخرة، ومن عُفي له من أخيه فيا طيب الحياة لمن ملك العفو. ولقد اختص الله أولي الألباب بالخطاب. ولم يكن الأمر أن القتل أنفى للقتل فليس في هذا حياة ولا خطاب لأولي الألباب.
خلال الأشهر القليلة الماضية تناقلت الأخبار عن بعض الحوادث المفزعة التي استزل فيها الشيطان بعض الصبية بقتل رفاق لهم، وفي مظنة حسن التربية والصحبة وكريم الخلق، لكن تسويل الشيطان كان أطغى عياذاً بالله. لقد تابع المجتمع في تبوك عروس الشمال ورصيفتها في الدل والبهاء أبها الحادث المؤسف الذي ذهب ضحيته فتى خطفه الموت غيلة وهو لما يؤنس والداه منه غاية الرشد، وممن؟ من صنوه في المدرسة. ويمضي القضاء عدلاً واقتضاءً في الحكم في القصاص من الجانين ولم يخل الأمر من وجاهات وبذل أموال، لكن حكم القضاء، وكان والد الجاني الشيخ الغريض طريح فراش المرض ووجع الشيخوخة قد استسلم لأمر الله على سرير المرض، وفي موعد القصاص كان الشيخ العسيري عائض بن صبر، في ساحة العدل معرضاً عن الدنيا كلها وما قدم من أموال ووجاهات، أعلن العفو وعتق الجاني من القصاص، كان هذا مثلاً في قوة الإيمان وشهامة الإنسان المؤمن بالله وأن لكل أجل كتاباً. لقد مضى الحدث. وأنا لا أعرف ابن صبر هذا إلا أن له من اسمه نصيباً وله في مقام العز والشهامة والاقتدار القدح المعلى وشرف الاعتزاز بأن ابنه قد مضى إلى أجله، وأما الغريض الأب فأعرفه رجل شهامة، قدم إلي قبل عقدين من الزمان وكنت حديث عهد العلم في تبوك، وقال لي يا رجل لا نعرفك ولا تعرفنا، لكني سمعت عنك الذكر الطيب، أنا جئت إليك باذلاً جاهي، فإن قدرته فلك مني الشكر، وإن تعذر الأمر فالخيرة فيما اختاره الله. جاءني شافعاً في موظف أهمل فأخطأ، وقد قبلت وجاهة الرجل على مضض، لكني كنت أبصر في قسمات وجه الغريض علامات الصدق والنزاهة. لقد شدني موقف ابن صبر كثيراً، لكن ما شدني أكثر وأثّر في مشاعري وعواطفي هو تلك الأم العسيرية الصابرة المحتسبة، حين نشرت الصحف لقاءً معها عن كيفية سريان مجريات عفوها وحليلها عن قاتل ابنهما. فقد قالت: لقد فكّرت كثيراً في الأمر. وقلت لو اقتص من الابن القاتل لابني، فهل سيعيد لي هذا ابني؟ أم أن الحال سيضع أماً مثلي ثكلى، فتوكلت أنا وزوجي على الله، واخترنا العفو لوجه الله، فله ما أعطى وله ما أخذ.
أي شهامة وأي إيمان هذا يا آل صبر، زادكم الله ثباتاً على الحق وغفر لابنكم وعوضكم الجنة.
وما كادت الأخبار تتوارى في موجات الأثر لا الأثير حتى كان الحكم بالقصاص من أمير سعودي، كان في نزوة من عمل الشيطان فقتل منذر القاضي زميل الدراسة، وبعد سنوات من التقاضي حكم القضاء حكم الله بالقصاص. وكما هو الحال فقد بذلت وجاهات وبذلت أموال لكن ثبات الحق وقوته في شخصية الشيخ الجليل سليمان القاضي أعزه الله بطاعته كانت أقوى من ألم فقد فلذة كبده منذر غفر الله له. وقد كان في المقابل الأب المكلوم الآخر الأمير نايف بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود. فقد وقع في مصيبتين لا يخرج من هم واحدة حتى يقع في دوامات وظلمات الأخرى. فقد ابن أخ ومصيبة ابن صلب؟ وقد صدر الحكم بشرع الله، وجلب ابن ليلحق بالابن الآخر، وعنت الوجوه للحي القيوم في انتظار فرج من الله ورحمة منه أن تنزل، وما خاب الرجاء فقد توجه الشيخ القاضي إلى أعدل وأرحم الراحمين، فصلي مستخيراً، ثم أعلن عتق رقبة النادم فهد بن نايف الذي كان قد عرف الندم وكتب وصيته التي برزت فيها معاني الندم والقبول بحكم الله وقضائه، وهنا تأجل الأجل إلى الموعد المحتوم الذي اختص به الله في علمه.
هنا لا أعتقد أن هنالك كلمات أو مجالات للثناء على شهامة الشيخ سليمان القاضي سوى الشهادة له بالإيمان إذ هو عواد للمسجد، وقد رام مجداً أخروياً ليس له جزاء إلا أن نقول له ربح البيع لله يا أيها الرجل الشهم. ليس لي بالشيخ القاضي معرفة، لكن أمانة الحرف تقتضي مني أن أعزيه في فقيده، وأعلي من قدره ونخوته ورجولته، التي أرجو الله أن تكون درساً بليغاً مثلما كان حال سابقه ابن صبر في بذل الاحتساب لله جلّ وعلا، وسلوك درب الشهامة لكي تكون مثلاً أعلى وقمة تستعلي بها القيم في العفو لوجه الله تعالى إذا وقعت البلوى، شكراً لك أيها النبيل فما عفوت من أجل جاه ولا مال ولا سمعة ولا رياء ولا طمعاً وما كان أكثر ما كان معروضاً لكنه الإيمان والحق، عدل الله بك عن كل هوى، وأثابك على ما صنعت. أما نايف بن سعود فهو رجل فيه من دماثة الخلق ما يسع الحلم والعقل، ما كنت أحسبه قد وقع في المصيبة، رغم إني أرى في ملامحه الطيبة كلما قابلته في مجلس الأمير سلمان بن عبدالعزيز حزناً عجيباً، تطغى عليه بسمة رضى وخلق أصيل. هو صديق فيه وفاء وحياء عجيب. ولا عجب فهو ابن الملك سعود رحمه الله، الذي هو ركن ركين من أركان الدولة والوطن. شاهدت الملك سعود غفر الله له في الطائف المأنوس في أواخر السبعينيات الهجرية في نادي الضباط حين كنت طفلاً برفقة والدي غفر الله له، وقبلني رحمه الله ومسح على رأسي داعياً لي بالبركة، كان مهيب الطلعة والطلة، وله في تاريخ الوطن مكان الثريا وشعاع سهيل، كنت أود أن أعزي أبناء الملك سعود في فقيدهم وفقيد الوطن منذر القاضي لكني أشترك معهم في الدعاء للشيخ القاضي الذي كان شجاعاً في المطالبة بالحق كما كان شجاعاً في الحق والرضى بما كتب الله واختياره إمضاء حكم القضاء ونزوعه بعدئذ إلى العفو طلباً لعفو الرحمن الرحيم. وإذا كان القاضي قد فعل هذا الفعل الحسن، فإنه كان سبباً في قدوم الأمير فهد بن سعود ليكون شريكاً له في تقبل العزاء في منذر ليس باسم أبناء سعود بن عبدالعزيز رحمه الله بل باسم الوطن. والشكر موصول للأمراء محمد بن سعود، وعبدالرحمن بن سعود وعبدالعزيز بن سعود ومنصور بن ناصر وكل الخيرين من أسرتنا الكريمة وأهني زملائي الأمراء يزيد بن سعود وسطام بن سعود وهذلول بن سعود غفر الله لأبيهم ولأبي، وثناءً وشكراً واحتراماً لوالدنا سلمان بن عبدالعزيز الذي كان ولا يزال من أركان الوطن والدولة والحكم.
أما الأمير فهد بن نائف، لقد قلت بما يكفيك من الندم، ولعل الوفاء ببناء مسجد صدقة جارية عن أخيك منذر القاضي هو دين عليك واجب الأداء.
باحث ومستشار إعلامي
|