*د.علي عبدالرحمن أباحسين:
لا شك أن تاريخ الأمم رهين بتراثها، ومن ذلك التراث (الوثائق)، فهي من المصادر الأولى في التدوين التاريخي، فلا تاريخ بدون وثائق والوثيقة: لغة من وثق يثق: أي ائتمن، والوثيق هوالمحكم، والوثائقي حارس لأثمن الكنوز، والوثيقة صلة بين ماضينا وحاضرنا، وإن اختلفت الوثائق في أهميتها وفقا للزمان والمكان الذي وقعت فيه الحوادث التاريخية المدونة في الوثائق من معلومات، عن أشخاص أو مواضع أو وقائع تاريخية، ومن الوثائق ( الرسائل) والتقارير التي يكتبها الحكام والسفراء والقناصل والمعتمدون السياسيون والوكلاء اعتماداً على مخبريهم، وهنا يدخل عامل التحيز المقصود أو غير المقصود، لأنهم يكتبون والحالة هذه وفقا لمنظورهم أو سياسة البلاد التي ينتمون إليها.
وأحياناً يكتب لهم الخبر شخص لا يتحرى الدقة في كتاباته، فتأتي مخالفة للحقيقة أو بعيدة عنها، ولما كان الباحث في التاريخ يبحث عن الحقيقة أينما كانت، ليصل إلى القرار النهائي، فيجد الحقيقة في الوثيقة التي تكشف عن حقيقة الماضي سواء كانت مكتوبة أو خريطة أو صورة على ورق أو شريط مرئي أو مسموع أو محفورة على حجر، أو نحو ذلك، فهي التي تدل الباحث على الحقيقة المنشودة، ومن هنا ظهر الاهتمام بالوثائق، ومنها (الرسائل) والحفاظ عليها وتخزينها على ميكروفيلم وعمل فهارس لها، خاصة تلك التي كتبت بأمانة وصدق وبخط أصحاب الشأن، أو ختمت بأختامهم، وبنفس الزمان والمكان موضوع البحث، وبذا تكون أكثر دقة في الغالب، ويعتمد عليها الباحثون إلى حد كبير، لأنها تؤرخ أحداثاً، وتصف وقائع وصفا قريباً للحقيقة، إن لم تكن الحقيقة نفسها لأنها تمتاز والحالة هذه بالدقة في التوقيت والوضوح في الوصف، وكتبت من شاهد عيان يكتب أو يملي على من يكتب بصدق وأمانة وتلك لعمري ما وجدته في عشرات الرسائل الأصلية غير المصورة للملك عبدالعزيز- رحمه الله- والمحفوظة في مركز الوثائق التاريخية في البحرين والمختومة بخاتمه ذي الحبر الأزرق أحيانا، أو الأسود أخرى، والتي وجهها لشيوخ البحرين عبر مائة سنة خلت، وأقدمها يعود تاريخه إلى 1319هـ مختومة بخاتم الإمام عبدالرحمن آل فيصل، ورسالة مؤرخة في 5 شعبان 1320هـ من الملك عبدالعزيز إلى شيخ البحرين.
هكذا ترك الملك عبدالعزيز سفرا خالداً من الرسائل التي ختمها بخاتمه، وأرخها باليوم والشهر والسنة، وهي تحكي تاريخ معاركه حيث كتب يقول: حدثت المعركة (ضحى) أو (في السحر) أو (عند الفجر) بدقة التوقيت التاريخي.
وعودا على بدء فإن الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه- بعد أن دانت له نجد قد جعل (من مدينة الزبير) موضعاً يفضل أن ينزل فيه حتى يراجع الحكومة العثمانية لتحقيق الأمن والسلام في ربوع دياره وديار آبائه وأجداده من الجزيرة العربية تحت شعار سياسته التي استندت على ما جاء في الشريعة الإسلامية المستمدة من كتاب الله تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله لرجاله: (حاربوا من حاربكم وسالموا من سالمكم، أما البيوت فلا تدخلوها، وأما الحريم فمن اعتدى عليهن فيدي عليه)(1) والوثيقة أو الرسالة التي تحكي لنا نزول الملك عبدالعزيز- رحمه الله- في (مدينة الزبير) مرفقة صورتها أدناه ومؤرخة في 19- 2 (ربيع ثاني) 1329هـ الموافق التاسع عشر من ابريل 1911م وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل إلى جناب الأجل الأمجد الأفخم بهي الشيم الوالد المكرم عيسى بن علي آل خليفه (أدام الله بقاه آمين بعد إهداء السلام ورحمة الله وبركاته على الدوام مع السؤال عن شريف خاطركم العاطر لازلتم بخير وسرور. أحوالنا من كرم الله جميلة. بعده نعرف جنابكم ان حنا عدينا من (الردينية) قاصدين (سعدون) والظفير، ويوم وردنا (الحفر) بلغنا الخبر أن سعدون والظفير تكاونوا وصار بينهم ذبح جيد من الجميع والعياذ بالله وكسروا الظفير سعدون وزبن الخميسيه خيال، وعدينا قاصدين (بن صويط) واستخبر بنا بن صويط ونطحونا بهدوهم وطاحوا علينا وعفينا عنهم (ونزلنا الزبير) قصدنا المراجعة بيننا وبين الحكومة من قبل الحسا وأطرافه. وبعد ذلك ضربنا على الكويت موجب الزهاب. وحال التاريخ متوجهين لحملتنا (باللصافه) ويصير لنا إن شاء الله سنع مبارك ويجيكم الخبر الذي يسر خواطركم ان شاء الله. هذا والرجاء ان لا تقاطعونا أخبار سلامتكم وسلامنا على الاولاد الكرام. ومن عندنا محمد وسعد وسعود وكافة السعود يسلمون ودمتم).
19 ربيع ثاني 1329هـ
هكذا كان الملك عبدالعزيز ينعت حاكم البحرين الشيخ عيسى بن علي آل خليفة بالألقاب والصفات الحميدة التي هو أهل لها والذي حكم من 1286هـ الموافق 1869م حتى وفاته وهو (راكع يصلي صلاة الفجر) في اليوم العاشر من شعبان 1351هـ الموافق في التاسع من ديسمبر 1932م، وله من العمر 87 سنة قمرية، أو 84 سنة شمسية- رحمه الله- وقد رثاه أحدهم بقوله:
موت النبيين والأبرار ميتتهُ
في ركعة الفجر منه الروح ترتفع(2)
وبعد الديباجة يذكر الملك عبدالعزيز في رسالته أنه قصد (سعدون والظفير) وذلك بعد ترك موضع (الردينيية) فوصل (الحفر) حيث بلغه الخبر أن سعدون والظفير اختلفوا فيما بينهم فتحاربوا وانكسر سعدون، فاتجه هاربا على فرسه فزين (الخميسيه)، فما كان من (ابن سويط) إلا أن أرسل لابن سعود هدايا فقال الملك: وطاحوا علينا فعفونا عنهم، وتستطرد الرسالة بقوله: (نزلنا الزبير) قصدنا المراجعة بيننا وبين الحكومة (العثمانية) من قبل الحسا وأطرافها، وهي بلاد آبائه وأجداده من آل سعود، ثم اتجه صوب الكويت للتزود بالمؤونة في طريق عودته للرياض، لم يذكر ابن سعود في رسالته كم بقي في مدينة الزبير؟ ولم تذكر حسبما ما تيسر لنا الاطلاع عليه من الكتب المطبوعة التي هي الأخرى أوردت أنه تقدم نحو الزبير دون أن تذكر أنه نزل الزبير بل قال بعضهم أنه ورد ماء كابده بينما لم يذكر ابن سعود ذلك بل قال: (ونزلنا الزبير).
وسار إلى ماء (سفوان) والتقى برسول موفد من الوالي العثماني يرافقه وفد من أهل الزبير ينشدون الأمان، فأمر ابن سعود رجاله: (ان لا يؤذوا أحدا من أطراف البصرة والزبير) وفي طريق عودته إلى الكويت جاءه الشيخ مبارك آل صباح في الجهراء مسلما عليه، ثم عاد ابن سعود للرياض(3).
وربما أن قدوم سعود ونزوله الزبير لأن سعدون عطل طريق الزبير والبصرة لمضايقة الوالي العثماني عام 1329هـ-1911م، فما كان من الوالي إلا ان أرسل قوات لنجدة الزبير، كما دافع أهل الزبير عن بلدتهم، فرفع سعدون الحصار عنها(4).
أما الوثيقة العثمانية التي عاصرت هذه الفترة فتذكر: (أنه وقع اعتداء على أغنام أهل الزبير من قبل رجال سعدون باشا، وذلك بجوار مدينة الزبير) فربما ان ابن سعود هب مسرعا لرد اعتداء رجال سعدون باشا على أهل الزبير على ما أوردته هذه الوثيقة العثمانية المؤرخة في 1329هـ (5) والمرفقة صورتها حيث يتزامن تاريخها مع رسالة ابن سعود إلى شيخ البحرين في 19 ربيع الثاني 1329هـ، وقد لجأت الدولة العثمانية إلى سعدون تطلب منه قمع حركة قام بها الشيخ مبارك والشيخ خزعل والسيد طالب النقيب، فما كان من الشيخ مبارك إلا أن طلب مساعدة الملك عبدالعزيز فتقدم لمساعدته فلم يقدم سعدون على مهاجمة الكويت طيلة وجود الملك عبدالعزيز (6).
وتفصيل ذلك حسب ما ورد في برقية عثمانية تحمل توقيع طالب بك النقيب مرفوعة إلى وزارة الداخلية في اسطنبول حول وصول (عجيمي السعدون) على رأس قوة عسكرية قوامها ألف وخمسمائة من فرسانه ووصولهم بالقرب من (مدينة الزبير) وأشار المتصرف إلى ما بين عجيمي السعدون وطالب النقيب من نفور ومنافسه وإمكان استفادة الحكومة العثمانية من ذلك (7).
بينما ذكر (القطراني): أن (سعدون) هو الذي توجه على رأس جيش قوامه 1500 مسلح نحو الزبير بحجة ملاحقة الظفير، ولكنه توفي إثر زيارته للسيد طالب النقيب على ظهر سفينة عثمانية، فسعدون وليس عجيمي هو الذي اتخذ من الزبير قاعدة لتحركاته(8)، أما في رسالة الملك عبدالعزيز فإن ابن سعود قصد سعدون والظفير.
وفي وثيقة عثمانية مؤرخة في 22 ابريل 1329رومي حول سير عجيمي السعدون إلى جهة مدينة الزبير بألف وخمسمائة من فرسانه، وضرورة اتخاذ التدابير اللازمة للحيلولة دون وقوع ما يخل بالأمن والسكون(9)، وهنا هب ابن سعود لنجدة مدينة الزبير ونزلها للمراجعة مع الحكومة (العثمانية) حول الحسا وأطرافها، وبعد ذلك توجه للكويت.
وورد في مذكرات الشيخ عبدالله بن إبراهيم القملاس: أن الملك عبدالعزيز بن سعود قدم بجنوده فأخذ الإخوان وشردهم جاء (فنزل بين الزبير والكويت) وذلك في شعبان 1348هـ الموافق في يناير 1930م، فوفد عليه كثير من الناس للسلام عليه، فأكثر لهم العطايا، وبقي ابن سعود إلى آخر رمضان، وممن جاء الشريف فيصل فقدم الهدايا، وكذلك فإن ابن سعود قدم للشريف فيصل الخيل وسيفا وخنجرا، وغير ذلك، هكذا حكي لي - والقول لابن غملاس حكى له الشيخ الضرير محمد بن سند (إمام وخطيب مسجد النجادة في الزبير) الذي خرج لابن سعود ومعه إبراهيم الدامغ في شهر رمضان وحلا ضيفين خمسة أيام لدى الملك ثم عادا،وقبيل العيد انتقل الملك ابن سعود إلى الرياض(10).
كانت (قصة الزبير) المكان المناسب الذي اختاره (فهد باشا السعدون) حين طلب من السلطان العثماني أن يسمح له ولعائلته بالإقامة في مدينة الزبير. فصدرت الإرادة السنية بالموافقة على طلبه والسماح له بالسفر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، والإقامة عند عودته مع عائلته في مدينة الزبير، وذلك في السابع من شهر رمضان 1304هـ(11).
وممن طلبوا الإقامة في (مدينة الزبير) (سليمان بن منصور باشا السعدون) فقد ورد في محضر جلسة عقدها مجلس الوكلاء (مجلس الوزراء العثماني) في 27 جمادى الآخرة 1304هـ للبحث في طلبه، وتمخضت الجلسة عن قرار في استعلام الوالي العثماني الذي أيد ذلك الطلب. فصدرت الموافقة في 12 رجب 1304هـ للسماح له ولأفراد عائلته بالإقامة في مدينة الزبير(12).
وبعد وقعة الشنانة أو وقعة وادي الرمة التي حدثت في الثامن عشر من رجب 1322هـ في سبتمبر 1904م لجأت الدولة العثمانية إلى الشيخ مبارك ليتوسط لدى الإمام عبدالرحمن آل فيصل، وطلبت أن يجتمع الإمام مع الوالي العثماني في الزبير، فتوجه الإمام إلى الكويت، واستصحب الشيخ مبارك إلى الزبير، واجتمعا بالوالي العثماني، لكن الامام رفض اقتراحات الوالي العثماني رفضا قاطعا لأن فيه تدخلا اجنبيا في شئون البلاد(13)..
وفي الثامن والعشرين من رمضان 1322هـ الموافق في السادس من ديسمبر 1904م - 24 تشرين ثاني 1320 رومي تشير الرسالة المرسلة من الوالي العثماني مخلص باشا إلى جناب الأكرم صاحب السعادة قائمقام الكويت الشيخ مبارك باشا آل صباح، وقد عرض الوالي العثماني أن يقترح على الامام عبدالرحمن آل فيصل بالاجتماع معه في أحد المواقع المناسبة في الزبير لحل المسألة النجدية بدون حاجة للسوقيات العسكرية(14).
وفي وثيقة عثمانية رقم 8307 تشير إلى زيارة الملك ابن سعود للكويت والبصرة وعقده اتفاقا مع الانجليز الوثيقة مؤرخة بتاريخ 12 مارس 1333رومي الموافق 1335هـ- 1917م ولم تفصح الوثيقة عن مكان عقد الاجتماع الذي تم فيه الاتفاق.
هذه هي (مدينة الزبير) الموضع الذي اختاره الإمام عبدالرحمن آل فيصل والملك عبدالعزيز آل سعود، والشيخ مبارك آل صباح للاجتماع فيه، واستقر فيه السعدون، والنقيب وآخرون لما عرف عن سكانها النجديين من صدق المعاملة وحفظ الأمانة، وولائهم لديارهم التي نزحوا منها، واهتمامهم بالتجارة والتكافل الاجتماعي فيما بينهم، ورعاية العلماء وطلاب العلم، أما السياسة فتركوها لأولي الأمر.
وهي مدينة الزبير بن العوام ابن عمة رسول الله- عليه الصلاة والسلام- ومن العشرة المبشرين بالجنة و (طلحة بن عبيد الله) الذي صد سهما بيده عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في معركة أحد. و(أنس بن مالك) خادم رسول الله و (الحسن البصري) و (ابن سيرين) رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
(1) إبراهيم جمعة، الأطلس التاريخي للدولة السعودية، من مطبوعات دارة الملك عبدالعزيز رقم (11)، صفحة 150، الرياض، 1972م.
(2) الوثيقة، العدد 19، ص 32-66 (القسم الأول) بقلم الدكتور علي أبا حسين يوليو 1991م، البحرين.
(3) الأطلس التاريخي للدولة السعودية، ص 156، والقطراني، حسين علي عبيد، الزبير في العهد العثماني، ص 180، رسالة ماجستير 1988م ود. أمين سعيد، تاريخ الدولة السعودية ص 476.
(4) القطراني ص 180.
(5) برقية داخلية سياسية رقم 16-6-66 مؤرخة في 8 يوليو 1328 رومي الموافق 1429هـ- 1911م البرقية من جلال باشا إلى وزارة الداخلية تسلسل 2714.
(6) الأطلس التاريخي ص 153.
(7) وثيقة عثمانية داخلية سياسية رقم 1- 4-97 مؤرخة في 13 نوفمبر 1328رومي الموافق 1329هـ والمحفوظة في أرشيف رئاسة الوزراء العثماني في اسطنبول ومرافق صورتها أدناه.
(8) الزبير في العهد العثماني، ص 180
(9) وثيقة عثمانية رقم 1-4-97 في 20 ابريل وأخرى مؤرخة في 22 ابريل 1329رومي تسلسل 3153 وتسلسل3155
(10) صورة هذا النص مرفق من صفحة 454، 455 من مخطوط التذكرة والعبرة في تاريخ بلد الزبير والبصرة لمؤلفه الشيخ عبدالله بن الشيخ إبراهيم القملاس الحنبلي قاضي الزبير.
(11) إرادة مجلس شورى الدولة رقم 4664 تسلسل 2800-رقم البحث 4576 بتاريخ 7 رمضان 1304هـ الموافق 18 مايو 1303 مالية الوثيقة من محفوظات ارشيف رئاسة الوزراء العثماني باسطنبول.
(12) مجلس وكلاء مضبطه لري. رقم 18 صفحة 72 بتاريخ 12 رجب 1304هـ ووثيقة رقم 20 صفحة 23 مؤرخة في 29 شعبان 1304هـ رقم الإرادة 3773و 4572و4573
(13) الأطلس التاريخي ص 144
(14) صورة الوثيقة مرفقة مؤرخة في 28 رمضان 1322هـ.
|