منذ ما يزيد عن أسبوعٍ بقليل، بدأ المسؤولون الأمريكيون والبريطانيون بتقديم اعتذارات متتالية لكل من الشعب العراقي، بل وللشعب العربي، والمسلم في بعض الحالات، وللمساجين الذين عُذِّبوا أشد التعذيب و نُكِّل بِهم أشد التنكيل، في سجون الاعتقال في البلد العربي الشقيق.. العراق.
وللوهلة الأولى بدا هذا الموقف، من كل من اعتذر من المسؤولين، بأنه موقف شجاع ونبيل ونادمٌ على ما فعله جنوده وضباطه، فهو يتعاطف مع الإنسان كإنسان، ويتعامل مع المسؤولية كما يقتضيه القانون الدولي، وتقتضيه أخلاق الحرب (التحريرية!)، وأخلاق المحررين الشرفاء.. القادمين من أقاصي الأرض لوضع النموذج الديموقراطي، وأنهم سيتحملون هذه المسؤولية والوفاء بمتطلباتها والسهر عليها، ولكن إنسانية المسؤولين هنا، ما ظهرت إلاّ بعد أن افتضح أمر الصور وأشرطة الفيديو، وأُعلن عنها على الملأ من بعض وسائل الإعلام، فقال المسؤولون عن الاحتلال، وعلى كافة المستويات، بأنهم ما كانوا يعلمون عنها شيئا، ولا يعلمون عن المآسي التي أظهرتها.. إلاّ بعد هذا الافتضاح.
والشعور بالمسؤولية ما ظهر إلا بعد أن اهتزت الدنيا تحت أقدام هؤلاء المسؤولين، واستأسد عليهم خصومهم ومنافسوهم، فتلطف بعضهم واقترح هدم سجن (أبو غريب)، وصفق بعضهم تصفيقاً حادًّا لهذا الاقتراح الجهبذ، وصوروا أن هدم هذا السجن اللعين هو الحل لهذه المآسي.. تكلموا عن سجن (أبو غريب) بأنه معقل الرذائل والبلاوي منذ العهد السابق، وصوروا لوسائل الإعلام وكأن هدم سجن (أبو غريب) يماثل هدم سجن (الباستيل الفرنسي) الذي فرحَ الشعب الفرنسي بهدمه، في القرن السابع عشر، بعد نجاح ثورته على الظلم والاستغلال.
وفي نظري، فهدم المكان لا يعني شيئاً بقدر هدم العقلية والمبادئ التي تستعمل ذلك المكان، ومع ذلك، فالتلطف بالاعتذار وحده لا يكفي أبداً، وهدم سجن (أبو غريب) لا يكفي حتى لو هُدمت معه كل السجون العراقية التي يستخدمها جيش التحالف وغيره.
ولكي يُثبِتَ لنا هؤلاء المسؤولون حقيقة إنسانيتهم وصدقها، وحسن نواياهم وجديتها، واستعدادهم الصحيح لتحمل المسؤولية، فإن ما يجب فعله حالاً، ودون أي تأخير، هو الآتي:
أولاً: إطلاق سراح كل مسجون ومأسور لحقه أذى.
ثانياً: علاج من يمكن علاجه في بلده أو إيفاده للعلاج الصحيح في أي بلد هو يختاره.
ثالثاً: التعويض المالي، أما التعويض المالي، فنحن لدينا معيارٌ سليمٌ نقيس عليه مقدار التعويض.. هو مقدار التعويض الذي دفع عن ضحايا حادثة (لوكربي).
إن من قام بتعذيب السجناء العراقيين هم أمريكيون وبريطانيون، والطائرة التي أُسقطت فوق (لوكربي) هي طائرةٌ أمريكية. والمدينة التي سقطت عليها هذه الطائرة هي مدينة بريطانية، وما أمكن لمشكلة (لوكربي) أن تنتهي إلاّ بتعويضٍ مقداره عشرة ملايين دولار أمريكي عن كل ضحية من ضحايا هذه الحادثة.. سُلِّمت عدًّا ونقداً وقسراً وفكًّا من الشر والأذية.
إلاّ أن حادثة (لوكربي) لم يُعذب ضحاياها قبل الموت، ولم تهتك أعراضهم وتُهدر كرامتهُم، وتصور الأحداث المخجلة المقززة المفزعة التي قام بها سجانوهم وجلادوهم، أو أُجبر السجناء على ارتكابها.. الصديق مع صديقه، والأب مع ابنته أو ابنه، ولم تستبح دماء ضحايا 'لوكربي' وجَزْرهم جزراً وصعقهم صعقاً، ولم يُستهتر بهم، وبديانتهم، وبإنسانيتهم، ويبال عليهم، ويجبروا على ارتكاب ما يتنافى مع أبسط أخلاق الإنسان.. وأبسط شرائع الحرب والاحتلال.
قلت الاحتلال، وأي احتلال؟ الاحتلال القادم لبث القيم الغربية الراقية!، بدلاً من همجية قيم العراق!. وتخليص الشعب العراقي من براثن حكامه، كما يقولون!.
ولذلك، فإن التعويض عن جريمة القتل (النظيف!) أي التي لم يسبقها تعذيب وما إلى ذلك.. يجب ألاّ تقل عن عشرة ملايين دولار. وجريمة القتل (غير النظيف!) أي التي سبقها تعذيب وما إلى ذلك.. يجب أن تزيد عن العشرة ملايين دولار بمقدار عذاب السجين، ولو وصل ذلك إلى ضعف هذا المبلغ.
إن دموع التماسيح التي تُذرف.. يجب أن يتوقف ذرفها ممن ارتكب كل هذه الفواحش والجرائم، وإن عبارات النفاق الأجوف السخيف.. يجب أن يُحاسب عليها كل من يطلقها، والمحاسبة لا تكون إلاّ بأن يثبت هذا المنافق بالأفعال، لا الأقوال، إنه لم يكن ينافق، وإن الضحك على الإنسان العربي، يجب أن ينتهي بوعي الإنسان العربي والمسلم، الذي يجب أن يشعر بثقلِ الأمانة التي ألقاها رب العالمين على عاتقه ليقوم بها بين الناس كافة.
رابعاً: أثبتت الأحداث والأيام أن هذه الحرب على العراق، لم تكن حرباً من أجل القيم الديموقراطية. فقد علمتنا العكس، ولا حرباً لها أغراض إنسانية، فقد علمتنا العكس أيضاً، ولا حرباً لتدمير أسلحة الدمار الشامل، فما وُجدت في العراق أسلحة دمار شامل، بل إن الأحداث أثبتت أنها حرب مصالح، واستلاب ثروات، وسيطرة على موقع استراتيجي، ومحاربة حضارة بعينها، وتمهيد لمخطط بربري رهيب بدأ منذ زمن بعيد ضد شعوب المنطقة، وأن من الغنائم، مصالح شخصية لبعض الذين قاموا بِهذه الحرب وزجوا بأبناء الشعب الأمريكي والبريطاني ومن لف لفيفهم فيها.
خامساً: إنهاء الاحتلال والاحتكام إلى العقل والبحث عن مواقع المصلحة الحقيقية للشعوب الأمريكية والبريطانية والغربية والعربية والإسلامية على سواء، فالعرب والمسلمون يقارب عددهم المليار ونصف المليار نسمة، وهم أهل حضارة سامقة لاينكر الجميع فضلها على البشرية جمعاء، وأنها ستبقى وستظهر ظهوراً بنّاء حتى وإن تخاذل أبناؤها في هذا العصر، وهم الأفضل سوقاً، والأضمن حليفاً، والأصدق تعاملاً مِمن يتعامل الغرب والشرق معه الآن، باعتراف العقلاء من الغرب والشرق نفسه.
وأخيراً: إذا نفذت كل هذه الأشياء، نرجو أن يغفر الشعب العراقي والعربي والمسلم الحساسيات والمرارات التي خلقتها هذه الحرب في نفوسهم، وخلفه التحيز الأعمى غير المنصف إلى جانب أعداء العرب والمسلمين.
|