يروي أصحاب السير؛ كابن هشام وابن كثير، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حكاية هجرته؛ حيث قال: تواعدْتُ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة، أنا وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي بن وائل السهمي على أن نلتقي في موضع يقال له: (التَّناضِب) من ديار بني غفار، وقلنا: أيُّنا لم يصبح هناك فقد حُبس، فليمضِ صاحباه دون أن ينتظراه، فأصبحت أنا وعياش بن أبي ربيعة عند التناضب، وحُبس عنا هشام، وفُتن في دينه فافتتن.
فلما قدمنا المدينة نزلنا في قباء، ولم يلبث أن خرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام من مكة إلى المدينة؛ طلباً لعياش بن أبي ربيعة، وكان ابن عمهما، وأخاهما لأمهما، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، فلما لقيا عياشاً قالا له: إن أمك قد نذرَتْ ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك، فرقَّ لها، فقلتُ له: يا عياش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم. فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها الحر لاستظلَّت. فقال: يا عمر، لا بأس أن أرجع معهم، أبرُّ أمي، ولي هنالك مال فآخذه، فقلت: والله إنك لتعلم يا عياش أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما، فأبى إلا أن يخرج معهما. فلما أبى، قلتُ له: أما إذا قد فعلتَ ما فعلتَ فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول، فالزم ظهرها، فإن رابك من القوم ريب فانْجُ عليها.
فخرج عليها معهما، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو جهل: يا ابن أخي، والله لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟ قال: بلى، فأناخ، وأناخا ليتحولا عليها، فلما استووا بالأرض عدا عليه صاحباه، فأوثقاه وربطاه، ثم دخلا به مكة وقالا: كذا يا أهل مكة فافعلوا بسفهائكم، ثم حبسوه.
قال عمر: فكنا نقول: ما الله بقابلٍ ممَّن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ أصابهم، وكانوا هم يقولون ذلك لأنفسهم، ويعتقدون أنه لا توبة لهم. فلما قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم- المدينة أنزل الله تعالى فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} الزمر.
قال عمر: فكتبتُ هذه الآيات بيدي في صحيفة، وبعثتُ بها إلى هشام بن العاصي في مكة، فقال هشام: فلما أتتني جعلتُ أقرؤها بذي طُوى في أسفل مكة، أصعِّد فيها وأصوِّب، ولا أفهمها، حتى قلتُ: اللهم فهِّمنيها، فألقى الله تعالى إلى قلبي أنها إنما أنزلتْ فينا، وفيما كنا نقول في أنفسنا، ويُقال فينا، فرجعت إلى بعيري، فجلست عليه، فلحقت برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بالمدينة.
إنها رحمة الله الواسعة، وفضله العميم العظيم، تتسع حين تضيق الحياة بأصحابها، وتفتح أبوابها حين تغلق الأبواب في قلوب الناس وصدورهم، إنها قصة ذات أبعاد متعددة، تصور معاناة المسلمين مع المشركين، وماذا واجهوا من الأذى، وتصور فطنة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وفهمه، وتصور أهمية اللجوء إلى الله -عز وجل- في قول هشام: (اللهم فهمنيها). وتصور باب التوبة المفتوح أمام التائبين مهما أسرفوا على أنفسهم، فلا نامت أعين الغافلين.
إشارة:
قصير مدى الدنيا طويل عناؤها
وحبل أماني الغافلين قصيرُ |
|