لم يدر بخلد أيِّ عراقي قبل عام واحد فقط أنّ مقابر النجف ستكون ساحة للقتال، وأنّ الشوارع والأزقة المحيطة بمراقد الإمام علي بن أبي طالب في النجف ومرقدي الإمامين الحسين بن علي وأخيه العباس بن علي ستشهد قتالاً مريعاً بين المقاتلين العراقيين وقوات الاحتلال الأمريكية والبولندية وعناصر الباشمركة الأكراد وأفراد فيلق بدر العراقيين.
فالقوات الأمريكية وحليفتها القوات البولندية استعانت بقوة من الأكراد العراقيين المقاتلين وأفراد من فيلق بدر الشيعي التابع لحزب الثورة الإسلامية الذي يرأسه عبدالعزيز الحكيم لإخراج أفراد جيش المهدي المؤيد لمقتدى الصدر، الذين التجأوا إلى المقابر في النجف واحتموا في المراقد الثلاثة للأئمة في النجف وكربلاء ظناً منهم أنّ قوات الاحتلال ستحترم قدسية الأماكن بالنسبة للمسلمين وتوقف تعقُّبها لمقاتلي جيش المهدي وتحل المسألة عبر التفاوض.
ولكن الأمريكيين وجدوا دعماً وموافقة من قوة مشتركة من المقاتلين المسلمين من الأكراد الباشمركة وعناصر فيلق بدر الشيعي الذين قبلوا أن يقاتلوا إخوانهم المسلمين حتى وإن أدى ذلك إلى انتهاك حرمة المراقد للأئمة الثلاثة ومقابر المسلمين الشيعة، فالمعروف أنّ الشيعة يحرصون على دفن موتاهم في مقابر النجف وتصل يومياً إلى هذه المدينة التي يقدسها الشيعة، كونها تضم ضريح الإمام علي بن أبي طالب، مئات الجنائز الموضوعة في توابيت خاصة قادمة من جميع المدن العراقية وغير العراقية من إيران والهند وباكستان ولبنان ودول الخليج، ولهذا فإنّ هذه المقابر تضم رفات ملايين المسلمين الشيعة من كل أنحاء العالم الإسلامي وبالتالي فإنّ الإقدام على تحويلها إلى ساحة معركة يُعدُّ تجاوزاً ما بعده من تجاوز، وستترك هذه التجاوزات آثاراً سلبية عميقة ولوقت طويل بين الشيعة من جهة وبين قوات الاحتلال والعناصر القتالية من الأكراد وفيلق بدر الذين شاركوا قوات الاحتلال في مطاردة أفراد جيش المهدي.
وبغضِّ النظر عن تأييد أو موافقة الشيعة لما يقوم به مقتدى الصدر وجيش المهدي، إلاّ أنّ انتهاك حرمة مراقد الأئمة والمقابر يعتبر كارثة لا يمكن التجاوز عنها، ولهذا سيخلّ بالتوازن بين الشيعة أنفسهم وبين الأطراف الأخرى التي ساندت الهجوم على النجف وكربلاء.
وهكذا فإنّه من الواضح الآن أنّ الغزو الأمريكي للعراق قد سحق بالكامل توازن القوى الداخلي الذي كان يسود البلاد منذ فترة زمنية طويلة وفتح الباب أمام بلورة وتعميق مشاعر الانفصال والتفرقة على أساس الانتماء الديني والطائفي والعرقي والعشائري وحتى السياسي بين أبناء المذهب الواحد كما سيحصل الآن بين جماعة الصدر والحكيم. فقد فتح الأمريكيون جرحاً لن يلتئم بإشراكهم عناصر فيلق بدر والباشمركة في مهاجمة جيش المهدي في النجف وكربلاء.
هذا الجرح المرشح للاتساع يضاف إلى جروح التباعد التي حصلت بين أهل السنَّة والشيعة من جانب وبين العرب والأكراد من جانب آخر.
ولم تنجح حتى الآن المحاولات الأمريكية المكثفة لإعادة التوازن السابق وملء الفراغ عن طريق إنشاء الهيئات الحكومية الاصطناعية ومحاولة إرضاء أطراف طائفية على حساب الأخرى.
ويرى البعض أنّ انتفاضة مقتدى الصدر الشيعية ما هي إلا مقدمة لما يمكن أن يحدث في العراق بعد 30 يونيو - حزيران بسبب تخبُّط الأمريكيين وتصلُّبهم وإطلاق يد الحاكم الأمريكي بريمر لتنفيذ خطة تقليص صلاحيات الحكومة العراقية القادمة وهو ماسيؤدي الى اندلاع حرب واسعة النطاق ضد القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها شبيهة بالذي يحصل في النجف وكربلاء وما حصل في الفلوجة، ومزيد من العمليات الإرهابية الدامية داخل أراضي الدول التي لديها قوات في العراق، وقد يمتد تدهور الوضع إلى سوريا والأردن وفلسطين وحتى تركيا وإيران.واشنطن تحاول تطويق امتداد انتفاضة الصدر والانتفاضات الأخرى القادمة بمحاولة إشراك الأمم المتحدة من خلال استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يحوِّل قوات الاحتلال إلى قوات أممية بعد تشكيل الحكومة العراقية لتخفيف العداء ضد الأمريكيين، إلاّ أنّ المحللين يرون أنّ هذه المحاولة لن تجدي نفعا،ً هذا إذا استطاعت واشنطن إقناع الدول الأربع الأخرى الكبار في مجلس الأمن للموافقة على مثل هذا المخرج، ولذا فإنّ من الأجدى والأنفع للأمريكان وللعراق وللمنطقة جميعاً هو الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي عاجل برعاية الأمم المتحدة دون هيمنة أمريكية تشارك فيه كل الأطراف المعنيّة بما في ذلك جميع القوى السياسية العراقية دون أيّ إقصاء لأيِّ طرف، والدول المجاورة للعراق والأعضاء الدائمون بمجلس الأمن الدولي لبحث كافة السبل وإيجاد طرق لتسوية تستجيب لمصالح كل الأطراف بداية بمصلحة الشعب العراقي.
|