كنت أشعر بالقهر، والغيظ يتغلغل في داخلي، كلما سمعت مسؤولاً في الإدارة الأمريكية يتحدث عن القيم والحرية والديمقراطية والحقوق!!
ولقد وصف كبير الأغبياء الحرب على العراق بأنها واحدة من أكثر الحملات العسكرية إنسانية في التاريخ.
أقول: لستم أهلاً لأن تعطوا الناس دروساً في هذا المجال، وأنتم أول من يطيح بها!
ويشاء الله إن تتعرض هذه الإدارة لامتحان عسير في ما أسمته (حرباً على الإرهاب) وأن تتكتم لفترة على ممارساتها الوحشية في أفغانستان، وغوانتانامو، ثم في العراق، لينكشف الأمر غير بعيد.
إن آلاف الصور التي نشرتها الصحف، ومحطات التلفزة الأوروبية، والأمريكية، تفضح ممارسات في غاية البشاعة ضد الإنسانية والأخلاق، فتعرية الأجساد، والإجبار على الممارسات الجنسية، والإهانات النفسية، والسحل، والسحب، والضغط الهائل، والتضليل والقتل المتعمد هي مفردات في سجل أسود لهذه الإدارة وآلتها العمياء (البنتاجون).
والذي ظهر ليس سوى جزء من جبل الجليد!!
فهناك المزيد مما لم تصله الكاميرات، أو وصلته ولم يصل بعد إلى وسائل الإعلام.
ولقد يقول المرء:
إن ممارسات البعث البائد أهون مما عملته هذه الإدارة خلال عام، أو أقل!!
ولو أتيح لكل امرئ أن يتحدث ويظهر أمام وسائل الإعلام ليبوح بمعاناته، لكنا نسمع ونرى ما تشمئز منه النفوس، وتنفطر القلوب، وتدمع العيون مما ينسينا ما سمعناه من أمثالهم عن الحقبة السابقة.
ولعل هذا اليوم غير بعيد.
والإدارة ظلت متكتمة على هذا الإجراء الإجرامي لبضعة شهور، حتى فضحتها الصور، فقال كبيرها:
إن الأمر لا يعجبه..!!
ثم رفع اللهجة ليقول:
إنها ممارسات شائنة!
لكن تظل الإشادة المفرطة بأداء العسكريين، ومحاولة حصر المسؤولية بعدد محدود من الجنود ليذهبوا ضحايا.
ومن الواضح أن الذي حدث هو جزء من عملية واسعة، للتحقيق، والإذلال، وانتزاع الاعترافات، وتدمير عوامل القوة والاعتزاز في نفوس العراقيين، بل في نفوس المسلمين، وأنها أمور مبيَّتة على أعلى المستويات.
ويأبى الله إلا أن تتحول الشواهد والصور ووسائل الإعلام إلى أدوات لتعرية وجه أمريكا القبيح، وأعمالها الوحشية، واستخفافها بالقيم الإنسانية..
فلقد أصبحنا نعرف جيداً ما تعني الحرية التي تعدنا بها أمريكا..
وماذا تعني حقوق الإنسان..
وماذا يعني الإصلاح، والشرق الأوسط الكبير الذي يبشِّرون به.
وها هم يعلنون الحرب على الحرية في القنوات العربية التي لم تندمج في برنامجهم، ويمارسون الضغط السياسي الكبير، والإجراء الأمني والعسكري لعرقلتها، أو تعويق أدائها كما فعلوا مع الجزيرة، والعربية، وغيرهما!!
وها هي (الحرة) تغرِّد خارج السرب، وتتجاهل معاناة الناس، وهمومهم الحقيقية، وتشاغلهم بقضايا خارج التاريخ، ولكن دون جدوى.
إن الأمر أكبر من الاعتذار!
وهذه الصور وقود جديد لكراهية عارمة ضد أمريكا، قد تتحول إلى طوفان جارف لا يميز، ولا يفرق، وتصعب السيطرة عليه، أو التحكم في برامجه واتجاهاته وردود أفعاله، أو محاكمته بالمنطق.
وإذا كنا رأينا آلاف الاعتداءات العنصرية على مسلمين في أمريكا، وأوروبا بعد أحداث سبتمبر.. فكيف نتخيل ما سيقع نتيجة هذا القهر والعدوان الرسمي الموثَّق.. والمرتبط بعدوان أوسع على استقلال وإرادة الشعوب الإسلامية في العراق وفلسطين وغيرهما.
إنني أرى الأمر يتجه نحو مزيد من الوضوح والحسم.
وإن شعوب الإسلام اليوم لم تعد تتحمل المزيد.
وهذا الإجرام الأمريكي، والصمت الدولي، والاستسلام العربي، والإسلامي، سيصنع المزيد من الاضطرابات في الشعوب الإسلامية، وسيحولها إلى برميل بارود قابل للانفجار.
ولعل أمريكا وإسرائيل تراهنان على زعزعة الاستقرار في بلاد المسلمين، وحرمانهم من السلام الداخلي تمهيداً لتغيير الأوضاع، وفق ما يريدون!!
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلاَمِ والتَّأْمِينِ).
وبيقين فاليهود لا يحسدوننا على مجرد تبادل التحية بيننا، لكنهم يحسدوننا على ما هو أبعد من مجرد اللفظ؛ يحسدوننا على السلام النفسي، والهدوء الاجتماعي، ومتانة العلاقة بين المسلمين، ويسعون في الأرض فساداً، والله لا يحب المفسدين.
نعم!
إن اليهود ومتطرفي الإدارة الأمريكية الحالية يريدون خلخلة الأوضاع، باعتقاد أن خلط الأوراق يمهد لإعادة ترتيبها!
ولكنني أرى هذه حماقة رعناء جديدة، يرتكبها هؤلاء الطغاة، دون أن يستفيدوا من دروس التاريخ، مما يكشف عن هشاشة القيم التي يتشدقون بها.
وليس هذا ببدع في تأريخهم، فقد واجهت الجالية اليابانية داخل الولايات المتحدة اضطهاداً بشعاً أثناء الحرب العالمية الثانية.
وظلت أمريكا أكبر مصدِّر للعنف في العالم كله، وأكبر متملص من الالتزامات الدولية في مجال العدل والحقوق إلا حينما تكون محتاجة لها.
ويكفي أن 45% من صادرات الأسلحة في العالم أمريكية، ومنها الأسلحة التي يُقتل بها الأبرياء في فلسطين.
يبقى السؤال الكبير منتصباً أمامنا جميعاً:
ماذا يتوجَّب علينا أن نصنع من أجل الإصرار على السلام في داخلنا؟
كيف نتغلب على أسباب التوتر الذاتي الذي تحدثه لنا تلك الممارسات؟
كيف نجمع بين رفض مؤثِّر، وصوت مسموع، ضد الاعتداءات المتكررة على كل ما هو مقدس لدينا.. وبين بعد النظر والرؤية المستقبلية، التي تضمن لنا موقعاً سياسياً ومعلوماتياً وحضارياً أفضل بين أمم الأرض؟
كيف نتلافى الغضبية المفرطة، التي هي من لوازم رؤية العار الذي يلحق بنا دون أن نحرك ساكناً؟!
إن السلام النفسي والاجتماعي في خطر..
وعلى الذين يدركون أهمية المحافظة عليه أن يعلموا أن الصمت المطبق، والسكوت المهين أمام غطرسة المتغطرسين هو أقوى عناصر هذا التفجير.
من حق كل مسلم أن يشعر بأن هذه الصور وما سيخرج بعدها يعنيه بصفة شخصية وكأنه يحدث له أو لعائلته، فهذا أقل مقتضيات الإيمان {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}، (كمثل الجسد الواحد)، (كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا).
ومن حقه وواجبه أن يتدبر الوسيلة التي يعبِّر بها عن امتعاضه وانزعاجه لهذا الاحتقار اللعين لأبناء ملته ودينه.
وكيف لا وقد بدأت الخيوط ترشد إلى أن كبار المتطرفين الدينيين لهم أصابع في استخدام هذا النمط من الأذى النفسي والجسدي لتحطيم امتناع السجناء وتدمير رجولتهم وإنسانيتهم.
إن المطالب ليست هي رأس وزير الدفاع، ولكنها رأس السياسة الأمريكية العدوانية عديمة الحياء، والتي تعلن تأييد العنف الإسرائيلي، وتعلن العقوبات على سوريا، في الوقت ذاته الذي تستبطن المزيد من صور الممارسات البشعة التي يمهدون لظهورها وانتشارها.
ولو أن كل مسلم سجَّل شعوره الحي تجاه هذا البغي السافر في مقال، أو نشره في موقع، أو أعلنه في قناة فضائية، أو نادى به في مجلس لما كان لصوت مليار وربع المليار أن يذهب أدراج الرياح.
وربما كانت الأدلة تتزايد علينا يوماً بعد يوم لتقول لنا:
إن كنتم صادقين في لجم هذه الحرب الصليبية فوحِّدوا المعركة ولا تضيعوا جهدكم القليل في صراعات صغيرة حقيرة لا تليق إلا بعقول التافهين.
لقد أسمعت لو ناديت حيَّا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو ناراً نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في رمادِ |
|