* مكة المكرمة - عمار الجبيري:
أوصى امام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس المسلمين بتقوى الله عز وجل لما فيه من الخير الوفير والرزق الكثير.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها يوم أمس بالحرم المكي الشريف: لا يرتاب الغيرون على احوال الأمة انها تعيش زمن طوفان الفتن وان واقعها المرير يعج بفتن عمياء ودواه دهياء قد انعقد غمامها وادلهم ظلامها. غير أن هناك فتنة فاقرة وبلية ظاهرة.. فتنة امتحن المسلمون بها عبر التاريخ، فتنة عانت منها الامة طويلا وذاقت مرارتها وتجرعت غصصها ردحا من الزمن، فتنة طال ليلها وارخى سدولها بشتى همومها، كم نجم عنها من سفك الدماء وتناثر الاشلاء وحل جراءها من نكبات وارزاء فهي محيط ملغوم ومركب مثلوم ومستنقع محموم وخطر محتوم.. زلت فيها اقدام وظلت فيها افهام وبالتالي فهي جديرة بالتذكير وبصرخة نذير وصيحة تحذير حتى لا تتجدد فواجع الأمة في العنف والتدمير والارهاب والتفجير.. وانها ظاهرة جديرة بالتنديد والتنكير والمعالجة والتغيير، انها فتنة التكفير وكفى بها من فتنة تولد فتنا.
وقال فضيلته: إخوة الإسلام.. المجازفة بالتكفير شر عظيم وخطر جسيم، كم أذاق الأمة من الويلات ووبيل العواقب والنهايات، لا يسارع فيه من عنده ادنى مسكة من ورع وديانة او شذرة من علم او ذرة من رزانة تتصدع له القلوب وتفزع منه النفوس وترتعد من خطره الفرائض، يقول الامام الشوكاني رحمه لله: وها هنا تسكب العبرات ويناح على الاسلام واهله بما جناه التعصب في الدين على غالب المسلمين من الترامي بالكفر لا لسنة ولا قران ولا لبيان من الله ولا لبرهان بل لما غلت به مراجل العصبية في الدين وتمكن الشيطان الرجيم من تفريق كلمة المسلمين بما هو شبيه الهباء في الهواء، فيالله والمسلمين من هذه الفاقرة التي هي اعظم فواقر الدين، والرزية التي ما رزئ بمثلها سبيل المؤمنين، الى أن قال رحمه الله: والادلة الدالة على وجوب صيانة عرض المسلم واحترامه تدل بفحوى الخطاب على تجنب القدح في دينه بأي قادح وكيف اخراجه عن الملة الاسلامية الى الملة الكفرية فإن هذه جناية لا تعدلها جناية وجراءة لا تماثلها جراءة واين هذا المجترئ على تكفير اخيه من قول رسول الله صلى الله عليه سلم (المسلم اخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) وقوله عليه السلام (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وقوله ژ (ان دماءكم واموالكم واعراضكم عليكم حرام) انتهى كلامه رحمه الله.
وقال فضيلته: اخوة الايمان لقد جاءت النصوص الزاجرة عن هذا المرتع الوخيم والمسلك المشين يقول سبحانه {فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله ژ (اذا قال الرجل لاخيه يا كافر فقد باء بها احدهما فان كان كما قال والا رجعت عليه) وفيهما من حديث ابي ذر انه سمع رسول الله ژ يقول (من دعا رجلا بالفكر او قال عدو الله وليس كذلك الا حار عليه) وعند الطبراني بسند صحيح ان رسول الله ژ قال (من رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله) وعلى هذا المنهج الناصع سار صحابة رسول الله ژ وعلى هذا المسلك المشرق سار السلف الصالح رحمهم الله فوضعوا لهذا الحكم اصولا وشروطا وضوابط، ورسموا لها حالات وموانع لابد من مراعاتها والتثبت فيها وما ذلك الا لخطورته ودقته واهم هذه الضوابط يا عباد الله ان التكفير حكم شرعي ومحض حق الله سبحانه ورسوله ژ يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: الكفر حق الله ثم رسوله بالنص يثبت لا بقول فلان من كان رب العالمين وعبده قد كفراه فذاك ذو الكفران.
ويقول الامام الطحوي رحمه الله (ولا نكفر احدا من اهل القبلة بذنب مالم يستحله) قال ابن ابي العز رحمه الله (ان باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه وكثر فيه الافتراق وتشتت الاهواء والآراء وتعارضت فيه دلائلهم فالناس فيه على طرفين ووسط، ثم قال وانه لمن اعظم البغي ان يشهد على معين ان الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار) وقال الغزالي رحمه الله (والذي ينبغي الاحتراز منه التكفير ما وجد اليه سبيلا فان استباحة الدماء والاموال من المصلين الى القبلة المفرحين بقول لا اله الا الله محمد رسول الله خطأ والخطأ في ترك الف كافر في الحياة اهون من الخطا في سفك دم لمسلم) وقال الامام النووي رحمه الله (اعلم ان مذهب اهل الحق انه لا يكفر احد من اهل القبلة بذنب ولا يكفر اهل الاهواء والبدع وغيرهم) ويقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله (فلهذا كان اهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وان كان ذلك المخالف يكفرهم اذ الكفر حكم شرعي فليس لانسان ان يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنا بأهلك ليس لك ان تكذب عليه ولا تزني بأهله لان الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى وكذلك التكفير حق الله فلا يكفر الا من كفره الله ورسوله) وقال الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب رحمه الله (وبجملة فيجب على كل من نصح نفسه ان لا يتكلم في هذه المسألة الا بعلم وبرهان من الله وليحذر من اخراج رجل من الاسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله فان اخراج رجل من الاسلام او ادخاله من اعظم امور الدين وقد استزل الشيطان اكثر الناس في هذه المسألة).
وتساءل فضيلته كيف يصوغ بعد هذه النقول كلها لمن لم يبلغ في مقدار علمهم وفضلهم نقيرا ولا قطميرا ان يتجاسر على المسارعة الى الحكم بالكفر الصراح في حق اخوانه المسلمين جملة وتفصيلا اما علم هؤلاء ما يترتب على التسرع في التكفير من امور خطيرة من استحلال الدم والمال ومنع التعارس وفسخ النكاح وتحريم الصلاة عليه وعدم دفنه في مقابر المسلمين مع ما يستوجبه من الخلود في النار إلى غير ذلك فلا جرم بعد ذلك كله ان يقف الشرع منه موقفا صارما.
وافاد فضيلته ان من الضوابط ايضا في هذه المسالة الخطيرة ان المسلم لا يكفر بقول او فعل الا بعد ان تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، ومن الضوابط انه يجب التفريق بين الفعل والفاعل والاطلاق والتعيين وتنزيل النصوص على الوقائع والاشخاص، ومن الضوابط ايضا ان الكفر نوعان: اكبر واصغر، اعتقادي وعملي، وهذا مما التبس على كثير ممن يتراشقون بالتكفير فغفلوا عن الجمع بين النصوص والمنهج الصحيح في مظاهره التعارض ولهذا ذهب جماهير العلماء سلفا وخلفا إلى التفصيل في قضية الحاكمية وهو مذهب حبر الامة وترجمان القرآن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما وكذا من هذه الضوابط انه لا يكفر باللوازم من الاقوال ولا يعتبر بما تؤول اليه من افعال وانه لا يكفر الا من اجمع اهل الاسلام على تكفيره او قام على تكفيره دليل لا معارض له.وان من مسلمات هذه القضية العلم بأن هذا العمل كفر فالجاهل لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة وينبغي ان تعلم الموانع المانعة من التكفير ومنها الجهل والخطأ والاكراه وان الغيورين حينما يبينون خطورة المجازفة في التكفير ويذكرون شروطه وضوابطه فانهم يعلنون للعالم بأسره ان الاسلام بريء من هذا المعتقد الخاطئ وان ما جرى في بلادنا المحروسة ويجري في بعض بلاد المسلمين من سفك الدماء المعصومة وازهاق الانفس البريئة واعمال التفجير والتدمير والتخريب والافساد والارهاب لهم من الاعمال الاجرامية المحرمة ولا يجوز ان يحمل الاسلام واهله المعتدلون جريرة هذه الاحداث التي هي افراز فكر تكفيري منحرف مما تأباه الشريعة السمحة والفطر السليمة والعقول المستقيمة.
وقال فضيلته: حينما يهيج الهوى بالنفوس وتعرض عن نور الوحي والنصوص تصاب بسكر أشد من سكر الكؤوس، وان ظاهرة الغلو في التكفير لهي من اخطر ما بليت به الامة وزاد شططها حينما حمل السلاح في وجه الامة وحينما برزت في صورة فتاوى تكفيرية تحريضية تلقفها حدثاء الاسنان سفهاء الاحلام فسلكوا مسالك اهل البغي والاجرام.. متسائلا فضيلته: ابعد هذا يسع السكوت من اهل الاسلام لقد كان الغيور على ابناء امته يرى خلل الرماد وان الحرب اول ما تكون فتية واليوم نرى الامر امرا منكرا فما زال الفكر التكفيري يسري بقوة في صفوف شباب الامة الذين نظر بعضهم الى المجتمعات نظرة سوداوية وانه لا مخرج من المحن والبلايا التي ابتليت بها الامة الا بالتكفير ثم التفجير والتدمير.
وأضاف فضيلته قائلا: مما يزيد في الاسى ما يرى من تسرب هذه اللوثة الخطيرة الى بعض شباب الامة ويعظم الامر حينما يكون الحكم بالتكفير جزافا على ولاة امر المسلمين ومن بايعهم على الكتاب والسنة من العلماء الربانيين فرموا بالعمالة بل لقد سرى الخطر إلى عوام المسلمين وناشئتهم.. ومما مد في اجل هذا الفكر المتهافت هو التقصير في التصدي له وذكر اسبابه والتي من اهمها ضحالة العلم وقلة الفهم والخطأ في منهجية الطلب والتحصيل فلم يؤخذ العلم من اهله المعروفين بل زهد فيهم وافقدت الثقة بهم مع عدم الدراية بمقاصد الشريعة، وقواعد الفقه ورعاية المصالح العليا في الامة والتعلق بشبه ومتشابهات مع ترك للنصوص المحكمات الواضحات اضافة إلى ما يعج به واقع الامة من صور الظلم والاضطهاد غير ان ذلك ليس بمبرر ولا مسوغ للخطأ فالعنف لا يعالج بالعنف واذا كان المصلحون يرون الامة ممزقة والممتلكات مغتصبة والمقدسات مستلبة فهل المخرج من هذه الرزايا بتكفير الولاة والخروج على الجماعة وحمل السلاح في وجه الأمة.
وتساءل فضيلته: الا يفيق هؤلاء؟! الا يعتبرون بمن حولهم؟ الم يقرأوا التاريخ ليذكروا كم اضر هذا الفكر بالامة وصدها عن دينها وخوف شبابها من التمسك بالسنة والتزام الشريعة.. ماذا قدم هذا الفكر الاحادي للامة وماذا اثمر في مسيرة الدعوة والعمل الخيري والاصلاحي افلا يسع هؤلاء ما وسع انبياء الله ورسله وصحابة رسول الله ژ والسلف الصالح ومن تبعهم باحسان فشغلوا انفسهم تعلما وتعليما ودعوة واصلاحا.وأبان امام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس ان العلاج لهذا بالعلم العلم وبالفهم الفهم وبالحوار حتى لا تخرب الديار ويحل الدمار ويلحق بالامة العار والشنار وما اشبه الليلة بالبارحة فلقد كفر اسلاف هؤلاء خيار هذه الامة من صحابة رسول الله ژ ورضي الله عنهم وارضاهم وجاز من كفرهم وعاداهم بما يستحق دنيا وآخرة مشيرا فضيلته الى انه لابد من التأكيد على ان الناس في هذه القضية طرفان ووسط فأهل السنة والجماعة وسط بين الخوارج والمرجئة وكما عانت الامة من فكر التفكير عانت من الارجاء والتأخير، ولهذا وضع اهل العلم باب الردة ونواقض الاسلام غير انه لابد ان يتصدى لذلك ذو العلم والبصيرة وطالب بعض المنهزمين فكريا بتمييع الدين وذوبان الشريعة بدعاوى فجة ونسبوا إلى مناهج التعليم الشرعية النقص لا بلغهم الله ما يريدون.
ودعا فضيلته شباب الامة الى اليقظة والانتباه واخذ الحذر من كل انحراف فكري بجانب منهج الوسطية والاعتدال، كما دعا فضيلته شباب بلاد الحرمين الذين نشؤوا على صحة المعتقد والسنة ومنهج ائمة الدعوة الاصلاحية المباركة ان يحذروا اللوثات الفكرية المنحرفة وان يثبتوا على منهجهم الصحيح رغم التحديات والمتغيرات وان يلتحموا بولاتهم وعلمائهم وان يحذروا من ان يستغلوا او يستهدفوا ويستفزوا في أفكار دخيلة او مناهج هزيلة كما دعا فضيلته المصطادين في الماء العكر المستغلين كل هفوة من بعض الاخيار والصالحين بالكف عن تعميم الاحكام والوقيعة في شباب الاسلام.وقال فضيلته لن تصلح حال الامة الا بالقيام بأمر الدين ونصرة حملته والذب عن اعراض الصالحين المصلحين والدعاة الصادقين واعلاء راية الحسبة والدعوة الى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة.
|