هناك كلمات لم استخدمها كثيراً في حياتي مع الكتابة، أخشى منها وأظنها في بعض الأحيان بلا معنى. وأخرى أحس أنها ضخمة إلى درجة أنها لا يمكن أن تجد من تنطبق عليه أو تصفه ولو من بعيد، ولكنها لم تخلق في اللغة إلا لتستخدم ولا بد أن هناك مناسبة وأشخاصاً يستدعون حضورها في لحظة من اللحظات.
عندما خرج فهد العريفي من المستشفى العام الماضي طاف في بالي أن أعبر عن تقديري له من باب الوفاء. جلست على الطاولة وبدأت الكتابة وفي كل مرة أكتب تطرأ على بالي كلمة (نبيل). عندما أحسست أنها تريد أن تفرض نفسها على المقال قررت ألا استمر في الكتابة. فهذه الكلمة صعبة جداً وحساسة وتحتاج إلى اختبارات كثيرة حتى يستحقها بشر. لا أتذكر أني وصفت بها أحداً بصورتها الحقيقية. أنا بطبعي أخشى الكلمات وأزنها قبل أن أصف بها الأشخاص.
لا أستطيع الآن أن أحلل الكلمة وأقدر وزنها وأحدد الإنسان الذي يستحق أن تصفه بها. فهذه الكلمة مليئة بالمعاني مزدحمة بالدلالات. تضررت كثيراً من الاستخدام المبتذل. فالمنافقون لم يوفروا كلمات معينة لنصف بها أصحابها. حتى وإن قفزت على هذا الثالوث وبحثت عن هذه الكلمة بنقائها في ضميرك لن يكون لها دلالة حقيقية. فهذه الكلمة لا يمكن أن تصف إلا ميتاً. يقال لا تراهن على حي. فالإنسان لا يمكن أن تنضج مسيرته وتصبح الكلمات قابلة للاستخدام معه إلا بعد موته. الحي يمكن أن يتغير في أي لحظة ويخسر جزءاً من دلالات الكلمات.
مات فهد العريفي وأصبح ملفه متكاملاً في ذمة التاريخ. لا يمكن أن يضيف إليه أي شيء. وتحررت من خوفي وأصبح بإمكاني أن أصفه بالكلمة التي ضنيت بها عليه في حياته. فالكلمة التي حامت على مقالي وتصارعت معها عندما قررت أن أكتب عنه في حياته أراها الآن تضيء بحضورها كل ذاكرتي عن فهد العريفي.
التقيت به لأول مرة في عام 1980م وربما قبل هذا التاريخ بقليل في مكتبه بمؤسسة اليمامة الصحفية. عندما دخلت عليه لأسلم وأرحب به بعد أن تسلم منصبه كمدير عام للمؤسسة. قبل أن أصل إليه قام وخرج من وراء مكتبه وعانقني كأنه يعرفني من عشرات السنين. ورحب بي بالاسم. وبعد قليل امتدح واحدة من مقالاتي. خرجت من عنده وأنا ممتلئ بنفسي، إلى هذه الدرجة أنا كاتب مميز. وبعدها عرفت أن هذا الشعور يخرج به كل من يلتقي به. مزيج من التواضع الأصيل والاعتداد بالنفس. تأخذ راحتك معه ولكنك في الوقت نفسه لا يمكن أن تتخلى عن احترامه. إذا كان يصغي لا يلقي بظهره على مسند الكرسي وإنما يضع كامل ثقله على الطاولة كأنه يستمع إلى بيان خطير.
لم أكن أتخيل أن يكون لقائي به في أحد المكاتب بالصدفة هو آخر لقاء به. كان يجلس أمام الموظف عندما دخلت سلمت عليه وعلى الفور استدرت على الموظف وسألته: هل تعرف هذا الرجل الجالس أمامك؟ لم يتردد الموظف فقال: فهد العريفي. خشيت أن جيل الشباب لا يعرف من هو فهد العريفي، فقلت: وهل تعرف من هو فهد العريفي؟ فقال: كاتب. شعرت بالراحة وقلت: هذا معلمنا في الكتابة الوطنية الصادقة. احتج أبو عبد العزيز على هذا المديح وشعر بقليل من الإحراج. ودعته ولم أكن أعرف أنني أودعه إلى الأبد.
عندما قرأت نبأ وفاته شعرت بالحزن العميق ليس لأننا فقدنا واحداً من أعظم الكتاب في بلادنا ولكنني حزنت على نفسي لأنني ترددت أن أصفه بالصفة التي استحقها طوال حياته الحافلة. الرجل النبيل.
فاكس: 4702164 |