ما شاهدناه من صور لأساليب التعذيب لسجناء عراقيين في سجن (أبوغريب) على الطريقة الأمريكية، وما حدث من استثناءات إنسانية وقضائية للمعتقلين في جوانتناموا، عندما قررت حكومة الولايات الأمريكية المتحدة سجنهم بضع كليومترات خارج الحدود الأمريكية يمثل جانباً من تلك الفصول التي يتقن إعدادها منظرو السياسة الأمريكية، ويتفنن في لعب أدوراها القائمون على تنفيذ مهام السيطرة على مظاهر الحياة في دول العالم الثالث، فنحن في نظر السياسي الأمريكي (هنود) حمر على أرض فقدت القدرة على التواصل والإبداع وصنع مظاهر الحياة، مما يمنحه حق أداء دور المنقذ لهذه الأرض من سكانها المتخلفين جداً، وحق استخدام أي وسيلة كانت لفك أسر الأرض وثرواتها من قبضة سكانها الأصليين، ولعل تلك الصور التي روت بمأساة قصة تعاقب جنود أمريكان على اغتصاب فتاة عراقية تحكي تفاصيل الحال العربية بمنتهى التجرد، ولم يعد على هذه الأرض العربية من قوة ذاتية قادرة على الرد إلا ذلك المشهد المروع، الذي تناقلته الوسائل الإعلامية، ومنتديات الإنترنت، الذي تم خلاله (ذبح) مواطن أمريكي.
والمفارقة في تراجيديا ذلك المشهد هو أيضاً في انتشار ظاهرة الانتحار أوالاستشهاد بين شباب هذا الجيل، فقرار شحن الجسد بالمتفجرات أصبح أمراً ليس في غاية الصعوبة، ولم يعد من ضرب المعجزة البشرية، لكننا بكل تأكيد نرفض دوامة العنف التي صارت تتسع مثل كرة الثلج التي تدور رحاها وتكبر بسبب تسارع الأحداث المأساوية والصراعات الدموية بين من يعشق الحياة ويريد إحكام قبضته على ثرواتها المادية، ومستعد لدفع الثمن الغالي من أجل السيطرة على ثروات المستضعفين في الأرض، وبين فئات تقدم خيار الموت على الحياة، وتبحث عنه في بقاع الأرض شتى، وتجد فيه ملاذها من جحيم الدنيا وامتحانها الطويل.
ودوماً يتبادر في الذهن سؤال وأكثر من علامة استفهام: لماذا تمارس حكومة الولايات المتحدة ضد الشعوب العربية أساليب الاستبداد والعنف؟ فهي منذ عقود تقف ضد أي قرار لمصلحة العرب، وتبحث فرصة تسمح لها بدخول الصحراء العربية بجيشها وخبرائها وجواسيسها! هناك من يرى أنها أي حكومة واشنطن تتبع سياسة في منتهى الذكاء والدهاء، فهي تلجأ لطريقة: (عامل الناس بما يتعاملون به فيما بينهم)، فالمتابع لسياساتها الخارجية سيكتشف أنها لا تقدر على تطبيق تلك الوسائل البدائية في معاملاتها مع الغرب الأوروبي أوالشرق الآسيوي المتطور، ففي تلك الدول قوانين وحضارة وحقوق إنسان ومشاركة شعبية، وإيمان حقيقي بوحدة المصير، وهو ما يشكل حصناً داخلياً ضد مبررات الغزو الخارجي، وماليزيا خير مثال على ذلك، لكن عندما تتعامل حكومة واشنطن مع مثلاً نيجريا أوبلد عربي يقمع الإنسان ويهمش الحريات، ويوجه أسلحته ونظامه الأمني ضد الداخل، فالآمر حينها يختلف، والمعايير تتبدل، والأساليب تتغير فهي تدرك أنها قادرة على ممارسة ضغطها السياسي أوالعسكري من خلال ضعف موقف الحاكم داخلياً، ثم نيل ما تطلبه على وجه التحديد من أقصر الطرق.
أيها السادة نحن في العالم العربي نعيش منذ زمن في بيئة تغذيها ثقافة العنف، وتمدها بالوقود الذي يمنحها الطاقة المطلقة لبث روح الفداء والمقاومة والنضال والجهاد في أجساد أجدادنا وأبدان آبائنا، وعقول جيلنا الحاضر، الذي رضع من ثدي الهزيمة والتبعية والفشل حتى ارتوى.
وإذا أردنا توجيه أصابع الاتهام لمصدر العنف في البيئة العربية، فإلى أي اتجاه يجب أن نصوبها: أَإلى حروب الإبادة التي نمارسها منذ قرون ضد الحيوان في الصحراء العربية، أم إلى جوالعائلة الذي يحكمه الأب بصورة سلطوية مطلقة، أم المدرسة التي قدمت لعقود خيار العصا على الحوار مع الطالب وفضلت وسيلة التلقين على التفكير ومبدأ الإقصاء والتضييق على المخالف على فضيلة التسامح مع الجميع، أم الخطيب الذي يدعو لمحاربة المخالفين أينما حلوا، أوالمثقف الذي يُحمل الدين العنف والإرهاب والقتل بينما هو يمارس أشد أنواع الإقصاء ضد مخالفيه، أم المسئول الذي يضرب بمبادئ اللوائح التي أقرها، أم الوزير الذي يعد بإصلاح حال سوق العمل ثم يوجه ضربته الشديدة ضد صغار التجار فيه، أم هو ذلك الغزو المستمر لطائرات ودبابات وصواريخ وتقنية وأساليب السيطرة والهيمنة التي يمارسها الغرب ضد أوطاننا منذ قرن من الزمان، أم هو يا ترى الاستيطان الصهيوني الذي سرق الأرض في وضح النهار بعد أن طرد سكانها منها؟!
إن سلسة حلقات الغزو والتدمير والتعذيب لشعب العراق التي ظهرت أقبح صورها في مشاهد السجناء في أبوغريب، وردة الفعل الشنيعة التي قام بتنفيذها أحدهم في مشهد ذبح المواطن الأمريكي تمثلان دلائل على تنامي العنف إلى درجات قصوى لا يمكن التنبؤ بما ستنتهي إليه في المستقبل، فالعنف يولد العنف، وينجب دائماً عنفاً أكثر قسوة. والأطفال الذين نجوا بالأمس من إحدى حلقات العنف والجريمة المنظمة، يعرفون جيداً بأنَّ أشقاءهم وآباءهم وأمهاتهم قد قُتلوا أوقضوا تحت وطأة دبابات الغزاة، ويتذكرون جيداً آثار الحصار والدمار في ديارهم، وعندما تأتي فرصة للانتقام سينتهزونها بوحشية ودموية تماماً كما شاهدناها في فيديو(الزرقاوي).
ما نحن في أمس الحاجة إليه قبل فوات الأوان إصلاحات ثقافية من أسفل إلى أعلى والعكس ضد ثقافة وأساليب ومبادئ العنف، وأن نعمل سوياً وبكل شفافية ضد أي سلوك يثير مشاعر العداء والكراهية والعنصرية، ثم سن القوانين التي تؤدي إلى العدالة الاجتماعية على جميع المستويات.
|