إن الحديث عن الرجال الذين ساهموا في بناء مجتمعهم وخصوصاً من الناحية العقلية لهو حديث جدير بالأهمية لما فيه من بيان دورهم المحمود، وفضلهم المورود، وإبراز جهودهم الحثيثة، وتطلعاتهم النفيسة، التي طالما غدت بهم إلى عملهم الذي قدموه، وعلمهم الذي نشروه، فشمل جميع أفراد مجتمعهم بالتثقيف والتعريف، واستحقوا بهذا أن يكونوا من الأعلام الذين لهم كبير الإسهام، بما قدموه من ريادة وسيادة وسبق في مجالات متعددة، أبرزها المجال العلمي وبناء صروح المعرفة.
ومن بين هذه النخبة الممتازة، والمجموعة الرائدة الشيخ ناصر بن إبراهيم السكران إذ إن ما قدمه إلينا في أعوامه الخمسة والثلاثين، إنما هو عمل يستحق عليه التكريم من المسؤولين، فقد رعاه على تطاول الأزمان، حتى غدا عملاً وصرحاً كامل الأركان تام البنيان، وإن هذا الذي نراه من آثاره موجب للعرفان ومعلن عن إقدام الأدباء الشجعان وكل هذا وذاك إنما يعيدنا إلى نشأة الشيخ الأولى وأيام شبابه ورشده، وعمله وتعهده وصبره، ودأبه وشغفه، وحكمته، فأوليات الشيخ أنه ولد بمدينة المذنب سنة (1364هـ) من أبوين كريمين، فوالده كان أميراً ببلدة السكران وصاحب الأيادي البيضاء في نهضتها وجده لأمه الشيخ هندي بن عبد الله الخريدلي أحد أبرز الشخصيات في عهده. نشأ الشيخ ناصر في بيئة محبة للعلم وتأثر بمن حوله من رجال العلم والعقل، حمل على عاتقه آمال وطموحات استطاع أن يحققها بالجد والعمل الدؤوب والمثابرة والبذل والعطاء، فقد كافح مع جيل الرواد ذلك الجيل الذي حقق رجاله نجاحاً كبيراً في مسيرتهم وحملوا الكثير من أجل ذلك حتى اكتسبوا صلابة الصمود أمام التيارات القاسية.
فقد نال غايته بعلو الهمة وقوة العزيمة، اعتمد على الله ثم على نفسه شق عباب الأيام ليصل إلى أرض العطاء وغاية طموحه أن يبني على أنجادها بيت مجده، لم تثنه العقبات ولم تحبط هممه المعوقات، مضى في طريق النور يحدوه أمل أشعل جذوة طموح وألهب عاطفته، لم أسمعه يوماً يشتكي من مجابهة تقلبات الأيام رغم تعاقبها عليه
إن الكريم ليخفي عنك علته
حتى تراه صحيحاً وهو مجهودُ |
يعامل الناس بأخلاقه الجمة لا يعجل ولا يعنف وهو يرى أن القسوة من أهم الأسباب التي تفرق القلوب وتسبب التنافر بين أفراد المجتمع ويظهر ذلك جلياً في خطبه وحديثه.
لم يركض وراء المنافع الشخصية والمصالح الدنيوية ترفَّع عن الزلل وحارب الجهل، اتصف بالصدق مع نفسه التي ثقفها ثقافة ذاتية عن طريق الاطلاع والقراءة، نشأ ميَّالاً إلى الأدب عكف على مطالعة كتب الأدب والسير والتراجم والكتب الدينية المختلفة فقد سلك سبل المعرفة وتغذى من ينابيعها التي أكسبته معرفة راسخة أثَّرت في سلوكياته وبناء شخصيته وساهمت في توجيهه التوجيه الصحيح، وهو إضافة إلى ذلك يتمتع بثقافة دينية واسعة اكتسبها من خلال دراسته على عدة علماء خلال دراسته النظامية وبعدها، ومن بين هؤلاء الشيخ العلاَّمة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -، والشيخ محمد بن صالح المقبل - رحمه الله - والشيخ عبد الرحمن بن عبد الكريم العتيق - رحمه الله -، وقد كانت دراسته بكتب العقيدة والتفسير والفقه وغيرها، وقد استفاد من والده الذي كان له دور كبير في توجيهاته العلمية، وقد طبَّق ما تعلَّمه وعمل به وعلَّمه، وكان خلال ذلك مثالاً للأخلاق الفاضلة مخلصاً لدينه وأمته جمع بين العلم والعمل الجاد، له أسلوب مميز في إدارة الحوار والاستماع والإصغاء بطريقة حضارية، وكانت سعة صدره مثاراً لإعجاب الجميع وقد اتبع أسلوباً عظيماً من أساليب الدعوة إلى الله من خلال الدروس التي كان يعقدها في الجوامع، وهذا العمل أجل أعماله التي لم يتحدث عن كثرتها وجلالتها كان وما زال ينبذ الكذب والمحايلة والتملق والنفاق، تواقاً لحب الفضيلة التي نشأ عليها، فمنذ صغره وهو يؤم الناس بالمساجد ولما كبر تولَّى إمامة الناس بالجوامع وأصبح يخطب بهم ويعظهم، فقد كان إماماً وخطيباً لجامع الضاحي 1393 - 1415هـ ومن ثم إماماً خطيباً في جامع المقبل.
إما سيرته التعليمية فقد التحق بالمدرسة السعودية بمدينة المذنب سنة 1372هـ وأكمل دراسته بالمدرسة الفيصلية وتخرَّج منها عام 1378هـ، ثم التحق بمعهد المعلمين وتخرَّج منه عام 1382هـ، وفي عام 1382هـ عيِّن مدرساً بالعوشزية وفي عام 1386هـ انتقل للتدريس في مدرسة الحسين بن علي بمدينة المذنب، وفي نفس العام انتقل للتدريس في مدرسة الفيصلية وظل بها مدرساً ثم مراقباً حتى عام 1394هـ.
لقد أدرك هذا الشيخ الفاضل ضرورة وجود مكتبة تروي ظمأ الباحثين وطلبة العلم وتسهِّل عليهم الوصول إلى المعلومة التي يريدونها من خلال الكتب التي تحتويها هذه المكتبة، وقد قام الشيخ بعمل جبار خلال تأسيسه لها، وهذا العمل استنفد منه وقتاً طويلاً تعامل من خلاله مع عدد كبير من المؤسسات العلمية ورجال المعرفة والجهات المسؤولة مما أثمر عن مكتبة علمية عامة تحوي كل فنون العلم والمعرفة من كتب دينية وعلمية وتاريخية ولغوية وغيرها الكثير، وكان من المراحل الأولى لتأسيس المكتبة يشتري الكتب على حسابه الخاص، وكان له ذوق رفيع في اختيار موادها التي يحتاجها جميع أفراد مجتمعه، وقد بلغ عدد تلك الكتب خمسة آلاف كتاب. أما الآن فقد بلغ عدد الكتب التي تحتويها رفوف المكتبة خمسة وعشرين ألف كتاب، فكان بعمله هذا قد أحدث نهضة علمية شاملة انتفع بها كثير من الباحثين والمؤلفين، كما أنها زادت من فعاليات المراكز العلمية، وتهدف هذه المكتبة إلى تأمين المادة الثقافية الشاملة بمختلف مستوياتها، وقد جهزت بأفضل الوسائل العلمية الحديثة، ويقوم بإدارتها جهاز وظيفي متخصص، ولعل أهم الأهداف لهذه المكتبة هو دعم النهضة العلمية في مدينة المذنب ورفع مستوى الفرد ثقافياً واجتماعياً.
ومن أنشطة المكتبة طرح المسابقات العلمية ودعم الدراسات ونشر المعلومات المختلفة وإقامة الندوات العلمية والثقافية والدينية، ولقد قام الشيخ ناصر بدعم المكتبة ورفدها ومدها، وبذل الكثير من وقته وصحته من أجلها وها هو اليوم يسلِّم إدارة هذا الصرح العلمي إلى كفاءة تستحقها ليتفرغ للتدريس والتأليف. ودعها صاحب الريادة في تأسيسها وتنظيمها رحل تسكنه مساحات بيضاء من الحب والعطاء، كنا نجده في مكتبه يستقبل رواد المكتبة ببشاشته المعتادة وبخلواته يستنطق الكتاب ويستضيف المعرفة ويسافر إلى عالمه الذي أحبه منذ نعومة أظفاره كان يحث موظفيه على خدمة رواد المكتبة يوجه ويسدي النصائح ويستثير الهمم ويثني على النتاج العلمي ويبث روح العزيمة ونور المعرفة بالمتحلقين من حوله حتى أصبح حبيب القلوب ونديم العقول يأسر المتلقي ببشاشته وحسن أخلاقه ويستفيد من طرحه ونصائحه وحكمته من سعد بالجلوس معه وتشرَّف بمرافقته يقرب الزائر إليه ويسأله عن أحواله وتوجهاته ودراسته واهتماماته العلمية، يغرس بالنشء حب الفضيلة والعلم والمعرفة يذكِّرهم بصفة أجدادهم ومواقفهم المشرِّفة لكي يحذوا حذوهم ويتمسكوا بمبادئهم الشريفة وعلى ما كانوا عليه من حيث الصدق والنزاهة والتقوى والزهد والورع. أتقنت حافظته التي لم تؤثِّر عليها عوامل الزمن شتى العلوم فأنس الناس بحديثه وحرص المثقفون على منادمته، كلامه شيِّق وألفاظه عذبة.
ودعنا وما زالت شخصيته العفيفة المكافحة راسخة في أذهان من عرفوه وأحبو صدقه وطرحه داعياً الله العلي القدير أن يجعل ما قدَّمه في موازين حسناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
|