جعل الله تبارك وتعالى أرض الحجاز أرضاً مباركة وحباها بمزيد من العناية والألطاف الربانية وكرمها بحبيبه وخليله وخاتم أنبيائه المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان من بركات هذه الأرض السعيدة أن كانت سنة النبي الكريم وسيرته محط العناية الفائقة للأمة كلها حفظاً واتباعاً وتفننت في خدمتها تدويناً وصيانة وتعريفاً برواتها، ووضعاً لقواعد وضوابط روايتها، وبياناً لفقهها، ولم تنقطع تلك الجهود الجبارة على مرّ القرون متناغمة مع حوادث الأزمان.. حتى كان العصر الحديث فكانت المملكة العربية السعودية رائدة في خدمة السنة النبوية والسيرة العطرة مختصة بذلك، وكانت الجهود المبذولة مؤسسة بكل وعي وعناية، فاتجه التخطيط أولاً إلى تشييد المؤسسات العلمية المسايرة للتطور الذي يعرفه عصرنا فكانت الجامعات السعودية الرائدة كجامعة محمد بن سعود بالرياض والجامعة الإسلامية بالمدينة وجامعة أم القرى بمكة وغيرها.
وقد احتضنت تلك الجامعات الأعلام من الشيوخ والأساتذة.. والنخبة من الطلبة والباحثين الذين كان همهم - إلى جانب أولي الأمر الذين شيدوا تلك المعالم -مدارسة الحديث النبوي وعلومه والسيرة المشرقة ومصادرها ومناهجها وتكوين المختصين الذين ينتفعون وينتفع بهم، ومما اشتهر وذاع أن تلك المؤسسات الجامعية لم تألُ جهداً في خدمة هؤلاء أساتذة وطلاباً وتشجيعهم بكل وسيلة وتذليل ما يصعب عليهم ليتفرغوا للعلم والبحث ويجدُّوا فيه، وقد ظهرت النتائج الطيبة المباركة متمثلة في تخريج العشرات من المتخصصين في علوم السنة النبوية والسيرة أساتذة وباحثين مرموقين ومؤلفين مشهورين.
ولا ننسى أيضاً أن تلك الجهود استمرت مشجعة هؤلاء على العطاء والإنتاج العلمي في مجالي السيرة والسنة عن طريق: إنشاء مراكز البحث العلمي بالمؤسسات الجامعية وخارجها، وهي المراكز التي نهضت مشكورة بعبء البحث في العلوم الإسلامية وعلى رأسها علوم السنة والسيرة النبوية.
وهذه المراكز تتوج جهودها بنشر الأعمال الجادة تعميماً للفائدة وتثبيتاً لدين الإسلام في نفوس أهله وتعريفاً به في بقاع العالم، بالإضافة إلى ذلك تنظيم مسابقات ذات جوائز محفزة على الكتابة في هذا الشأن. وإنشاء دور الطبع والنشر التي أخرجت للعالم كنوزاً من المخطوطات ونفائس في الأبحاث يكفي أن نذكر منها كتاب التاريخ للإمام يحيى بن معين بتحقيق الأستاذ الدكتور أحمد محمد نور سيف. وكذلك توزيع مئات الآلاف من الكتب على المسلمين في العالم بمختلف اللغات، إسهاماً في الدعوة الإسلامية وتعريفاً بالإسلام وبمصدريه القرآن والسنة وسيرة نبيه المصطفى، وغير ذلك مما كان له الأثر الطيب المبارك. وعقد المؤتمرات والندوات التي تجمع المتخصصين في السنة والسيرة يتدارسون فيما بينهم قضية مختارة وينسقون حولها آراءهم وجهودهم.
ولا شك أن هذه الندوة الدولية حول السيرة والسنة النبوية الذي عقد الأسبوع الماضي بالمدينة المنورة حلقة بارزة من حلقات جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف ولبنة من اللبنات التي أضافها هذا المجمع الجاد بمشاريعه وبأهدافه وبالقائمين عليه، أثاب الله الجميع وشكر لهم جهودهم في خدمة السنة والسيرة النبوية، وجعل ذلك لهم ذخراً متصلاً جارياً.
ولا يسع المرء إلا أن يثمن الجهود الكبيرة التي بذلتها المملكة العربية السعودية حكومة وشعباً هيئات وأفراداً، والأمل أن تتطور وتزيد وأن يكون التعاون في حقل الدراسات الإسلامية عموماً بين المؤسسات والمراكز السعودية ونظيراتها في البلاد العربية قوياً ومكثفاً لملء الفراغ المهول الذي أصبح يخيم على التوجهات العامة في ميدان البحث العلمي.
( * ) كلية الآداب جامعة محمد الأول - وجدة - المغرب |