كان جدي إبراهيم يعد المائدة بالقرب من والدته الضريرة والطاعنة في السن والمضطجعة على الفراش حين التفت إليّ وأنا أهمُّ بالدخول بعينيه الحزينتين بعمق والغاضبتين دائما وقال: جيد تعال لتتغدى.. كنت آنذاك في السادسة من العمر وكان جدي -رحمه الله- يحبني كثيراً.
جلست بجانبه بينما قام هو برفع غطاء القدر الصغير وأخذ يغرف الأرز في تلك السينية المعدنية المزخرفة بألوانها الحمراء والصدئة في بعض من جوانبها وبما أن جدي كان بحاراً فإن الإدام غالباً ما يكون سمكاً بالإضافة إلى أنها الطبخة الوحيدة التي يجيد جدي طهوها لذا فإن رائحة ذلك السمك المقلي جعلت من قط المنزل الضخم الأصفر اللون نشطاً ذلك اليوم في تملقه وحك جسده بظهري وظهر جدي الذي لم يمنعه ذلك من متابعة غرف ما تبقى من أرز في القدر ثم وبهدوء بدأ يضع الزبدة المذابة في يده اليمنى ثم يفرج بين أصابعه ممررا الزبدة على الأرز ثم يربت بباطن يده وظاهرها على الأرز ليخلصها مما علق بها من أثر ذلك الدهن!.
بعد ذلك يأخذ المغرفة التي لم يعد بحاجتها الآن ويرفعها للأعلى ثم يستدير إلى ذلك القط المتملق لينزل بها كالصاعقة على ظهره فينتفض بعض الأرز الملتصق في المغرفة ليلتصق بعضه بوجهي وجفوني بعد ذلك يضع السمكات على قمة الأرز المتكوم في الصحن ثم يطلب إلى والدته بعصبيته المعهودة وصوته الأجش أن تعتدل حيث موضع المائدة.. وحين يكون البطيخ الأحمر (الجح) مضافا إلى مائدته ومقطعا على شكل أهلّة يغضب جدي عندما لا أتناول إلا الجزء العلوي من كل قطعة فقط.. فأنا حين أشعر أن نسبة السكر فيه قاربت على التلاشي أرمي به جانبا فيأخذ كل قطعة ويضعها أمام عيني قائلا: لماذا لا تأكل هذا إنه ما يزال أحمر؟.. انظر! ثم يرفعها إلى فمه ويقضمها بغضب!.
يجد جدي في مجيئي في مثل هذه الأوقات فرصة يطلب إلي فيها شراء علبة البيبسي الزجاجية التي كانت في ذلك الوقت بأربعة قروش من دكان لا يفصله عن منزل جدي إلا ممر بالكاد يكفي لمرور سيارة البيبسي نفسها.. كنا نسمي ذلك الدكان بدكان أبو أحمد عباس.. لا أذكر ما الذي كان مكتوباً في اليافطة المهترئة والمعلقة على ذلك الدكان.. فأنا لم أكن أستطيع القراءة بعد.. وكنت أنا بدوري أرحب بذلك الطلب.. فشراء علبة البيبسي يعني أنني سأشاركه فيها حيث سيشرب منها ليترك الباقي لي.. في الحقيقة كان البيبسي في ذلك الوقت يعد شراباً سحرياً وموسمياً.. وأقول موسمي لأن موزع البيبسي ما كان منضبطا في أوقات مجيئه لتزويد تلك الدكاكين من ذلك الشراب السحري وقد يكون عدم توفر وسائل الاتصال هو العامل المسبب لذلك أو ربما تلك الدكاكين البسيطة في تلك الأحياء البسيطة أيضا!! لم تكن ذات طائل بالنسبة لتلك المؤسسة! لذا تتقاعس أحيانا عن تزويد دكان أبو أحمد بما يحتاج من ذلك الشراب الغازي الغريب.. صناديق علب البيبسي الفارغة والمركونة بجانب المحل تقف عليها شمس الصيف الساطعة وتثير رائحتها لتعبق في الأنوف من مسافات بعيدة، تلك الرائحة التي لا تقاوم. عندما كان جدي وأنا وأخي الأكبر ووالدة جدي المسنة في تلك الغرفة قرر جدي وبعد تناول الغداء أن يعطيني الأربعة قروش تلك لشراء واحدة.. فذهبت بتلك العملة الثقيلة الصدئة قليلا وتوجهت لمنزل أبو أحمد، حيث كان من الطبيعي آنذاك أن يكون الدكان مغلقا في وقت الظهيرة! دخلت منزل أبو أحمد الجميل حيث وجدت الرجل مضّطجعا في إحدى الغرف عندما كان الباب مفتوحا، وكان يضع رجلا على أخرى حيث يظهر سرواله القصير المشجر..
قلت له: أعطنا بيبسي... قال لي دون أن ينهض من مكانه كم لديك ؟؟
- أربعة قروش- لا.. العلبة أصبحت الآن بستة قروش! أقفل راجعا لمنزل جدي.. الذي وجدني لا أحمل العلبة معي قبل أن يسألني أخبره أن أبو أحمد عباس يقول إن العلبة أصبحت بستة قروش! ماذا ؟؟!! بستة قروش !! هات النقود لا نريد أن نشتري منه شيئا .
** كان يشاع عن جدي القصير القامة بأنه قوي البنية جدا!.. وأتذكر أنه كان لدينا في المنزل عصا غليظة نحتفظ بها لا لنمارس بها العنف ولكن لأنها كانت عصا مميزة وحدث أن كان جدي في زيارتنا ذلك اليوم فأردت أن أثبت لنفسي صدق مايشاع عن قوته البنيوية فجلبتها له وقلت له: اكسرها! فوضعها كل طرف منها في يد ورفعها ثم وضع باطن قدمه في وسطها وراح يضغط بكامل قوته إلا أن العصا لم تنكسر وسمعت قرطعة لا أدري إن كانت من العصا أم أنها صدرت من بين أضلاعه؟.. ثم قال دعها فأنت ولد شقي.. وقد تحتاجها والدتك!.. قال والدتي ولم يقل والدي لأن والدي لم يكن يضربنا على الإطلاق. يصادف كثيرا عندما يصحبني جدي معه أن يجد في الطريق من لا يعرفه جيدا فيسأله عني قائلا هل هذا ابنك؟؟
فيجيبه جدي بعد قليل من الصمت: (كلا إنه ابن ابنتي !).بلى كان جدي سيئ الحظ من هذا الجانب على الأقل.. فالابن الذي كان يولد له كان يتوفى قبل أن يتجاوز سن المهد.. لم تبق غير والدتي.. كما أن جدي لم يكن أرملا غير أن جدتي هجرته وهما في ذلك السن المتقدم لتنتقل إلى غرفة أخرى في ذلك المنزل الهرم والكبير الذي كانت تقطنه أكثر من عائلة من أقاربنا، في الحقيقة لم يكن هناك سبب واضح لخلافهما حتى أن جدي أدرك ذلك بعد حين.. بينما جدتي لم.... !. وحيث أصبح كل منهما وحيدا كنا نتناوب أحيانا أنا وأخوتي بشكل غير منتظم في المبيت عند أحدهما ولم يكن والدانا يمانعان في ذلك.. وفي الحقيقة كانت جدتي تطهو طعاما طيبا.. إنه على الأقل أطيب من الطعام الذي يطهوه جدي! إذ كانت تضيف إلى طعامها الفاصوليا والخضار الذي حرمت مائدة جدي منه منذ أن هجرته.. وهذا شيء أدرك جدي أنه افتقدهُ.. لكن بعد حين أيضا! كان الحاج إبراهيم لايزال (نوخذة) في ذلك الحين.. أي ربان سفينة إلا أنه لم يكن يتحلى بمزايا الربان الناجح فهو برغم هيئته التي تصلح أن تكون هيئة ربان بالفعل من حيث اللحية البيضاء القصيرة والممتدة لتشمل عارضيه.. وبرغم ملامحه الوقورة ونظرته الصارمة.. فقد كان ينقصه الحزم كثيرا.. لقد كان عمال البحر لا يجتمعون على كلمته.. وربما تثاقل معظمهم أحيانا من اللحاق به حين تأزف ساعة إقلاع السفينة لتمخر البحر الواسع.. لم تكن المسألة مسألة تهاون، غير أنه لم يكن من النوع الذي يراجع أحدا قال له ( لا ) كان يصمت ويترك الغيظ باديا على محياه! في عينيه الصغيرتين اللتين ينبئ احمرارهما عن قهر ما كان يعانيه ذلك الشيخ، خاصة بعد أن أصبح وحيدا إلا من والدته الضريرة والقليلة الكلام والحركة.. تلك المرأة العجوز.. يا لله!..
كم أدرك اليوم مدى الوضع المحزن الذي كانت عليه.. ومدى اللؤم الذي كنا عليه نحن، عندما كنا ندخل الدار في غياب جدي على رؤوس أصابعنا كي لا تشعر بنا وتطلب إلينا أن نأخذ بيدها إلى منزل لأحد الجيران لقضاء حاجتها..؟! لست أدري كم من الوقت كانت تقضي تلك المرأة وهي تتأمل أحداً ما يأتي.. وإن أتى يرضى بأن يصحبها إلى هناك.. لقد كانت امرأة تعايش الحياة بدون ألوان.. راضية بالأبيض والأسود في معنى حياتها.. وبالأسود فقط في واقع حياتها المعاش.. لم تتعلم كيف تطلب شيئا جديدا غير نمطية الغذاء حين يأتي موعده.. وموعد العشاء حين يأتي موعد العشاء.. لا أدري في واقع الأمر.. لعلها طلبت مطالب لم يحققها لها أحد طوال حياتها حتى قررت السكوت أخيرا.. ومع ذلك كانت أطيب من أن توصف بامرأة طيبة.
يطيب لجدي أحيانا أن يصحبني معه حين ينوي زيارة بعض أقاربه أو أصدقائه حيث غالبا ما يجتمعون في دكان خاص ببيع المعلبات أو محل لبيع الفاكهة والخضار وربما واجه في طريقه أحداً ما يعرض عصفورا للبيع فيشتريه لي بعد مساومة طويلة ويقوم بربط إحدى رجليه بخيط طويل بالقَدْر الذي يكفي لتركه يمشي أمامي حين أمسك أنا بطرف الخيط الآخر حتى نصل معاً إلى حيث يوجد أصدقاؤه.. وذات مرة سأله بعض المتواجدين هناك ممن لا يعرفه جيدا عني قائلا.. هل هذا ابنك ؟؟ وهذه المرة ضحك جدي ونظر إليَّ بسعادة قائلا: نعم.. إنه ابني!
|