طاعتاد مجتمعنا على التسامح والمحبة والأخوة في الله، وكثيراً ما نسمع أن فلاناً تنازل عن دم أبيه أو ابنه أو أخيه، وتلك سجية حسنة، وهي أجر لمن يتنازل لوجه الله لكن هل يتحول هذا المنحى إلى تجارة أو بيع وشراء؟
نحن نعرف أخلاق العرب وعاداتهم وتقاليدهم، إذ يكون لديهم ما يسمى (الجاهيّة) أو غيرها من الأسماء والمسميات، بحيث يقوم قوم ممن صدر ضد أحدهم قرار بالقصاص بأن يذهبوا إلى أهل القتيل يطلبونهم العفو عن تنفيذ القصاص، وكانت أخلاق العرب (خاصة مجتمع القبائل) أنهم لا يردون أولئك خائبين، وأولئك يجمعون كل من يعرفون أن له تأثيرا على من يقومون بالجاهيّة عليهم، فيأخذون معهم شيوخ قبائل وقضاة ورجالاً مشاهير ليكون التأثير أكثر والمفعول أكبر، فيتجاوب أولئك تقديراً لمن أتوهم، وهذه من العادات الحسنة عندهم بل من شيم الرجال والمسلمين حقاً.
لكن هل استمرت تلك العادات إلى اليوم؟ وهل كل من يقومون بالجاهيّة نضمن أنهم أكثر نزاهةً أو براءةً وحباً لفعل الخير؟ أم أن لهم هدفاً دنيوياً لم نعرف عنه؟
وهل ما يحصل اليوم من أخذ الملايين من الريالات وما يلحق بها هو ما كان عليه العرب من الأخلاق السابقة؟ وهل جاء الأحفاد مثل الآباء؟
أي إذا كان العفو مشروطاً بملايين من الريالات، هل يصبح عفواً أو نسميه بيعاً للدم؟ أرجو معذرتي في هذا التعبير، فربما قال قائل: وهل يذهب الدم هدراً أيضاً؟
وأقول: لا .. لا يذهب هدراً، ولكن هناك ما يسمى قبول الدية المقررة شرعاً، لكن لا يصبح الدم سلعة تخضع للمزايدة والمغالاة، لأن المتنازل يتنازل لوجه الله أولاً ثم تقديراً لرجال لهم التقدير في المحل الذي حلوا فيه. ولعل شيم العرب تأبى مثل ذلك الأسلوب الذي صار الآن يكثر للأسف في مجتمعنا كله دون استثناء أبداً، حتى لو أخذ اسم العفو عن القصاص، لأن من يستلم الملايين لا يصح أن يسمى عافياً عن القصاص.
والغريب في الأمر أن (بعض) من يتوسطون ويسعون إلى الحصول على الصلح أو العفو هم من المستفيدين فعلياً من ناحية المادة، فبعضهم يشترط أن يكون له كذا قبل أن يدخل في وفد الجاهيّة!! وبعضهم يشترط أن يكون طرفاً في جمع المبلغ من المحسنين، لهدف أن يجمع ما يستطيع جمعه عن طريقه هو، وربما لا يسلّمه كله، لأنه يستفيد منه ويجمعه باسم ذلك الدم.
وهناك مسألة أخرى تترتب على مثل تلك المغالاة، حيث اعتادت بعض القبائل على أن يقوموا بتوزيع المبلغ على العاقلة، بحيث يدفع كل واحد من العاقلة ممن له دخل شهري جزءاً من المبلغ المطلوب، فإذا كان المبلغ ملايين كثيرة فيزيد السهم المطلوب من كل شخص ، لكن بعض العاقلة فقير قد لا يجد غذاء أولاده، ومع ذلك يجب أن يدفع وإن لا فسوف يلحقه عار القبيلة!!
ثم هناك سؤال آخر وهو: هل يستحق بعض من تدفع الملايين من أجل أن يعتقوا من القصاص تلك الملايين؟ صحيح أن الرجال يختلفون قيمةً وقدراً، لكن بعضهم لا يساوي الدية نفسها، فكيف تبتلي عشيرته بمبالغ باهظة من أجل إنقاذ حياته؟
أعتقد أن ظاهرة المغالاة في طلب المقابل للعفو هي ظاهرة حديثة لم نعرفها من قبل بهذا الشكل، لكن الذي ساعد عليها هو أنهم يجدون كثيرين من المحسنين يشاركون في دفع مبالغ طائلة من أجل الرقاب جزاهم الله خيراً، وإلا فما معنى تلك المبالغ الخيالية التي تدفع في الدم الذي العفو فيه خير من أخذ العوض؟
إما أن نقول عفا فلان دون مقابل أو أن نقول لم يعف لكنه طلب مبلغ كذا مليون مقابل العفو، ولا نسميه عفواً أبداً، لأنه قد قبض مقابله مالاً أكثر من الديّة المقررة شرعاً.
لكن متى يعود الناس إلى أخلاقهم التي تفوح شهامةً وكرماً وارتقاءً وسمواً أخلاقياً؟ وهل المادة قد دخلت حتى الدماء النقية الزكيّة؟
لا أدري لكن الذي أدريه وتعلمونه هو أنه يجب أن يُوضع حدٌ لمثل تلك الظاهرة التي قد تصبح واقعاً ومفاصلة بيع وشراء ومستفيدين يثرون على حساب غيرهم، خاصة من يسعون للصلح ولهم أهداف مادية بحتة، ولا يسعون من أجل مصلحة الطرفين.. والله المستعان.
فاكس 2372911
|