في الحلقة الأولى من هذا الموضوع ماعرضته ما هو إلاَّ من باب الحكمة القائلة: خاطبوا الناس بما يعرفون حتى لا يكذّب الله ورسوله.
وإنّ من طريقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عندما جاءه شابّ يطلب منه أن يأذن له في الزنا، ولمّا همّ به الصحابة أومأ إليهم فتركوه، ثم قال للشابّ: ماذا قُُلتَ.. فأعاد السؤال.. فأجابه الصادق الأمين: أتحبّه لأمك؟ قال: لا. قال: لأختك؟. قال: لا.. فما زال يعدّد عليه محارمه، وهو يقول: لا. فقال -صلى الله عليه وسلم-: الناّس كذلك.. وهذا جواب مقنع.
ولما كان ربنا سبحانه, وهو الأعلم بطباع عباده: قال: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (120)سورة البقرة. فإن منهجنا غير منهجهم، وشرعنا غير ماهم عليه، وخير ما أجده مقنعاً لمن يريد الوصول للحقيقة، أن أورد سؤالاً وجوابه، ورد لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في نور على الدرب الشريط رقم 73، لسائلة من جمهورية مصر العربية تقول فيه السؤال الثالث:
س: هل فكرة الحجاب غلط، وما رأيكم في زوج ينهى زوجته عن الحجاب؟
ج: فأجاب سماحته بإيضاح وافٍ، كما يبين من آخر الجواب قائلاً: الحجاب فيه تفصيل: أمّا كونها تستر شعرها وبدنها كلّه إلاّ الوجه والكفين، فهذا لازم عند أهل العلم..، وهكذا القدمان عند جمهور أهل العلم، سترهما عن الرجال، هذا ليس محلّ خلاف، تستر شعرها وبدنها وصدرها وجميع بدنها حتى القدمين، هذا واجب على النساء عن جميع الرجال الأجانب، ما عدا الوجه والكفيّن للخلاف..
لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن الواجب عليها تغطية الوجه، لأنّه عنوان المرأة: جمالاً ودمامة، لقول الله سبحانه {َ وإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} سورة الأحزاب (53). ولم يستثن الله سبحانه: الوجه ولاغيره، وإن كان بعض أهل العلم قد قال: إن الوجه واليدين ليسا بعورة، إذا كان الوجه ليس فيه ما يدعو إلى الفتنة من كحل أو زينة أخرى، وكذا الكفان.. أما القول الآخر، وهو الأرجح فإنه يجب سترهما عن الأجانب.
والأدلة على هذا القول كثيرة، لأن الوجه: زينة المرأة وعنوانها، جمالاً ودمامة، فالواجب ستره إلاّ عن المحارم، أو الخاطب الذي يريد أن ينظر إليها.
فالرسول أذن للخاطب أن ينظر، أمّا ما سوى ذلك، فالواجب ستر الوجه والكفّين حذراً من الفتنة، ومن الأدلة على هذا قوله سبحانه {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} سورة الأحزاب (53) . وإن كانت الآية في أزواج الرسول- صلى الله عليه وسلم-، فالحكم عام، إلاّ بدليل يخصّهن، ولأن العلة عامة {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ..} فإذا كان أطهر لقلوب زوجات النبي فغيرهن أحوج إلى ذلك.
لأن أزواج النبي- صلى الله عليه وسلم-، أتقى لله، وأكمل إيماناً ممن بعدهن، وإذا كان الحجاب أتقى لأزواج النبي- عليه الصلاة والسلام- وأطهر للقلوب، فما بعدهن في أشدّ الحاجة إلى ذلك، ولأن الربّ سبحانه لم يستثن، فلم يقل إلاّ الوجه والكفين، بل أطلق.. وهكذا قوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ } سورة النور (31). ولم يقل إلاّ الوجه والكفيّن. بل أطلق.. وأما قوله في أول الآية: {الاّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ففسره ابن مسعود بأن المراد الملابس التي تلبسها المرأة.
وأما ما روي عن ابن عباس وجماعة: أن المراد به الوجه والكفان.. فهذا محلّ نظر، لأن بعض أهل العلم قال: إن المراد بذلك يعني قبل الحجاب، مراد ابن عباس قبل الحجاب، وقال آخرون: إن مراده بعد الحجاب، وبكل حال: فإن قول ابن مسعود يعارض قول ابن عباس، وإذا تعارض القولان: وجب تحكيم الأدلة، والرجوع إلى الأدلة، فالله سبحانه يقول: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}النساء (59). ويقول سبحانه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ }سورة الشورى(10) ، فإذا رجعنا إلى كتاب الله وإلى حكمه، وجدناه سبحانه يقول {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} سورة الأحزاب (53)، ومن استثنى فعليه الدليل.
وهكذا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} سورة الأحزاب (59)، والجلباب ثوب تطرحه المرأة على جسدها وبدنها للستر، ولم يستثن من ذلك الوجه.
ثالثاً: قوله سبحانه: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ }سورة النور(31)، ولم يستثن شيئاً.. ومعلوم أن الوجه من الزينة, بل هم أعظم الزينة.
فتقرر بهذا وجوب ستر الوجه والكفيّن، حذراً من الفتنة.. وقد يحتجّ بعضهم لبعض من أجاز الوجه والكفيّن بحديث ضعيف رواه أبوداود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت عليّ أسماء بنت أبي بكر - أختها _ رضي الله عنها، زوجة الزبير، وعندي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقال: يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه. قالوا: هذا يدل على جواز إبداء المرأة وجهها وكفيها، والجواب عن هذا الحديث من وجوه:
الوجه الأول: أنه ضعيف لعدة علل الأولى: أنه لم يثبت عن عائشة، بل هو منقطع لأنه من رواية خالد بن دربك عن عائشة، ولم يسمع منها، والحديث المنقطع لا يحتج به، بل هو ضعيف . الثانية: أن في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج به عند أهل العلم.
الثالثة: أنه من رواية قتادة عن خالد بن دربك، وهو مدلس، ولم يصرح بالسماع من خالد، والمدلّس إذا روى عنعنة لا يحتج به.
هذه ثلاث وهناك علّة, رابعة: أن الحديث لم يصّرح أنه بعد الحجاب, فقد تكون هذه القضيّة قبل الحجاب، وقبل أن ينزل الحكم، فلهذا لوصحّ ترك تغطية الوجه والكفيّن، لأن النساء قبل الحجاب يكشفن عن وجوههن وأكفهن، هكذا كان قبل الحجاب.
وعلّة خامسة عندي أنها أيضا وجيهة: وهي أنه يستغرب جداً أن تكون أسماء زوج الزبير بن العوام، وهي أكبر من عائشة قد تفقهت في الدين، وهي بنت أبي بكرالصديق،أن تدخل على النبي في ثياب رقاق تُرى منها العورة. هذا بعيد من أسماء، وهو يدل على نكارة المتن، فهو منكر غير صحيح، لأنّ تقواها لله وإيمانها بالله وتقدّمها في الإسلام والهجرة، كل ذلك يقتضي أن تكون في غاية البعد عن الصّفة المذكورة.
والزّوج الذي ينهى زوجته عن الحجاب، لاشك بعد هذا أنه غالط، وقد يكون جاهلاً ، فيعلّم نسأل الله له الهداية.
لكن لا يلزمها طاعته: (إنما الطاعة في المعروف) كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-، والمشكلات التي تقع بين الأسرالتي لا تخالف النصوص، وهي عادية بين الناس، ويكون حلّها، باتفاقهم لابأس: في الأمور العادية كالمآكل والمشارب, أوأنواع الملابس، وما أشبه ذلك.. أمّا مشكلة قد جاء النصّ بإيضاحها من كتاب الله وسنة رسوله، قد بينها الله أو رسوله فلا قول لأحد يخالف شرع الله.
فمن قال بخلاف شرع الله لا يطاع، إنما الطاعة في المعروف: كالسّفور أو التبرج في الأسواق، أو الوقوف مواقف التّهم أو ما أشبه ذلك.. كل هذه أمور الشرع قضي فيها، فالواجب الالتزام بالشرع: فلا يجوزللمرأة أن تتبرج بين الرجال، ولا يجوز لها أن تبدي زينتها وغير ذلك.. ولا يجوز للرجل أن يقف مواقف التهم.
المقصود: أن هذه أمور واضحة حلها الشّرع وبينها الشرع والواجب الالتزام بالشرع.. وفق الله الجميع.. انتهى كلامه رحمه الله.
وللشيخ -رحمه الله- فتاوى عديدة في الموضوع، ضمن أسئلة ألقيت عليه, كما في الشريط 139 فتوى طويلة عن سائلة من إحدى الدول العربية تقول في سؤالها: إنها متحجبة لكن لا تغطي فمها وأنفها فما الحكم, فأوجب ذلك عليها مستشهداً: بأن الخمار ما يغطى به الرأس وضربه على الجيوب، معناه على الوجه والرأس، لأن الجيب مدخل الرأس, والمعنى على موضع الجيب، وذلك هو الرأس، والوجه بعد موضع الجيب، لأنه يخرج من الرأس، ويبدو منه الوجه، هذا هو محل التخمير.. إلى آخر ماجاء في هذه الفتوى من توضيح كالسابقة.
وبعد توضيح سماحته- رحمه الله- وترجيحه، نجد أن المائلين لإبراز الوجه والكفيّن، اعتمادهم على رأي ابن عباس، والسيوطي - رحمه الله - في تفسيره أورد لابن عباس خمسة آراء في دلالة: (إلا ما ظهر منها) مستنداً على رواية المحدثين لكل حالة هي: 1 - الكحل والخاتم والقرط والقلادة، 2 - خضاب الكفّ والخاتم، 3 - وجهها وكفاها، 4 - رقعة الوجه وباطن الكفّ، 5 - الخاتم والمسَكَةْ - وهي نوع من الحلي.. وبمثل هذا قال: قتادة والمسور بن مخرمة، وغيرهم. (6:179 - 181) الدر المنثور.
والرد عليهم نقول فيه: لماذا تمسكتم برأي واحد من آرائه وتركتم الأربعة.. وهذا برهان على صواب ما قاله الشيخ عبدالعزيز بن باز في فتاواه، ومن ذلك الفتوى أعلاه، تعليلاً عقليا ونقلياً، وشيء آخر فقد يكون ابن عباس، كما ذكر بعضهم تراجع عن الوجه واليدين والآراء، الثانية التي ذكر السيوطي بديلاً، والرأي الأخير ينفي الأول.
آداب إسلامية
أخرج الطبراني عن سلمان عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: من سرّه ألا يجد الشّيطان عنده طعاما ولا مقيلا ولا مبيتاً، فليسلم إذا دخل بيته، وليسمّ على طعامه، وعن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: إذا قام أحدكم على حجرته ليدخل، فليسمّ الله، فإنه يرجع قرينه من الشيطان، الذي معه ولا يدخل، فإذا دخلتم فسلموا فإنه يخرج ساكنه منهم، وإذا وضع الطعام فسمّوا، فإنكم تدحرون الخنيث إبليس عن أرزاقكم، ولايشرككم فيها، وإذا ارتحلتم دابة فسمّوا الله حين تضعون أول حلس، فإن كل دابة مقتعدة، وأنكم إذا سمّيتم حططتموه عن ظهرها، وإن نسيتم ذلك شرككم في مراكبكم، ولا تبيتوا منديل الغمر معكم في البيت، فإنها مقعد الشيطان، ومضجعه، الغمر ما تعلق به ريح اللحم أو دسمه.
ولا تسكنوا بيوتاً غير مغلقة، ولا تتركوا العمامة ممسيّة إذا جمعت في جانب الحجرة, فإنها مقعد الشيطان، ولا تفترشوا الزبالا التي تفضي إلى ظهور الدواب، ولاتبيتوا على سطح غير محجور، وإذا سمعتم نباح الكلاب، أو نهيق الحمار فاستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنهما لايريان الشيطان، إلا نبح الكلب ونهق الحمار.
وعن أنس قال: أوصاني النبي- صلى الله عليه وسلم- بخمس خصال قال: أسبغ الوضوء يزد في عمرك, وسلم على من لقيت من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت بيتك فسلّم على أهل بيتك يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأوّابين قبلك، يا أنس ارحم الصغير، ووقّر الكبير، تكن من رفقائي يوم القيامة.
وروى قتادة في قوله تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} قال: إذا دخلت بيتك فسلّم على أهلك، وإذا دخلت بيتاً لا أحد فيه فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإنه كان يؤمر بذلك، وحدثنا أن الملائكة عليهم السلام تردّ عليه.
|