والدي الحبيب: يختلط الدمع بالحبر وتتضارب المشاعر والذكريات ويرتعش القلم في يدي ويقف عاجزاً وأنا أحاول أن أخرج ما في داخلي من بعض الحزن الدفين عليك والحب الكبير لك، لا أعرف من أين أبدأ ومن أين انتهي، لن اتطرق لأعمالك الجليلة الخيرة التي نعلم منها الشيء القليل ولا يعلم عن أغلبها إلا الله، ولا عن أخلاقك الحميدة التي أصبحت مثالاً وقدوة حسنة للجميع، ولكن سوف أتطرق إلى عطفك وحنانك والقلب الأبيض الكبير ونيتك الصافية الطاهرة وإلى صفاء سريرتك ونقاء معدنك.
والدي الحبيب: أذكر بعد تخرجي من الجامعة أنني ذهبت لمكتبك المبارك لأودعك قبل سفري للدراسة في الخارج، أذكر جيداً نصائحك الأبوية الدافئة التي بدأتها بمراعاة حدود الله ولا أنسى الجملة التي ذكرتها حرفياً (هالله هالله بالصلاة وأنا أبوك) ومن ثم نصحتني بالجد والاجتهاد في الدراسة والعلم، ثم ضربت لي المثل الذي دائماً تردده على أحفادك: (العلم يبني بيوتاً لا عماد لها) يا لها من نصائح وحكم أبوية مخلصة.
والدي العزيز: أذكر ايضاً عندما التحقت بالعمل في إحدى شركات المجموعة وبعد صلاة العشاء مشيت معك من المسجد إلى مجلسك العامر وقلت لي (العمل مهم وأنا أبوك، وجاء دوركم لتكملوا ما بدأناه والبركة فيكم)، ثم ذكرت لي مثلاً دائماً تذكره في حب العمل: (وهل راحت الإنسان إلا بالعمل) يا لها من كلمات، يا له من دافع، ما أكبره من حافز يجعلني أعمل بكل جد واجتهاد وحماس لأكون عند ثقتك وحسن ظنك أيها الطيب الحبيب.
المواقف والذكريات معك أيها الفقيد الغالي كثيرة لا يمكن أن تحصى في صفحة أو صفحتين، ولا حتى مجلدات ودواوين لأنه مهما كتبت عنك أيها الفاضل لا يعطي ولا يصف خصلة كاملة من خصلك الحميدة.
والدي: لن أنسى آخر تسعة أيام من حياتك العامرة والتي تشرفت بها بمرافقتك في المستشفى، لن أنسى في منتصف الليل عندما تنادي: (مساعد) أذّن وانا أبوك؟
فأجيبك: لا طال عمرك.
فتسألني: كم باقي من الوقت على الأذان؟
فأجيبك: ساعتين الله يسلمك.
ثم تذكر الله وتوصيني: البركة فيك وأنا أبوك إذا أذن تنبهنا.
في أقصى درجات مرضك يا والدي الفاضل لم تنس أو تتكاسل ابداً عن الصلاة وكان لسانك رطباً بذكر الله أيها النقي الطاهر.
كذلك أيضاً قبل حدوث النكسة الصحية لك أيها الحنون وبعد منتصف الليل استيقظت وكان أحد أحفادك الكرام بجوارك فبعد سؤالك المعتاد عن وقت الأذان تنبهت أني لست موجوداً ووقتها كنت في الصالون المجاور لغرفتك، فسألته: أين مساعد؟
فأجاب: مستريح في الغرفة الثانية طال عمرك.
فسألته بكل حنان: (عسى مهوب مريض)؟
فأجاب: لا يا أبوي الله يسلمك بس مرتاح شوي.
فسألته بكل أريحية وعطف: ممكن أشوفه؟
فجاء وأيقظني وقال لي: الوالد يبيك، وذهبت إليك مسرعاً فأمسكت بيدك الطاهرة المليئة بالأجهزة الطبية يدي وقلت لي بكل حنان: عساك مرتاح وأنا أبوك. سبحانك يا الله اي حنان وطيبة في قلب هذا الرجل.
وهذه المشاعر الفياضة المليئة بالدفء ليس لأني حفيدك فقط فوالله مع كل من يعرفه أو لا يعرفه فأذكر أنه عندما وقع الانفجار الغاشم في مبنى قوى الأمن وكان من ضمن المصابين أحد الضباط من رجال الأمن البواسل في الغرفة المجاورة لغرفته في المستشفى فكان يسأل عن صحته ويوصينا بزيارته والاطمئنان عليه. وهكذا أنت يا والدي الطيب الوفي سبحانك يا رب فقد نسي كل ألمه ومرضه في وقت يصعب على المرء أن يفكر في أي شيء غير ما هو به ويسأل عن احوال غيره، حقاً أنت دائماً هكذا أيها الطيب الحنون تؤثر أهلك واقاربك واصدقاءك والناس عموماً على نفسك، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
والدي الحبيب: إن اصعب شيء في هذه الحياة الفانية هو الفراق، وخاصة إذا كان المودع شخصا مثلك له أفضال كثيرة على كل أقاربه واحبابه، نعم نودعك أيها الرجل العصامي المكافح البار، نعم نودعك أيها التقي النقي الطاهر الحبيب، نعم نودع جميع صفاتك الطيبة وخصالك النزيهة وأخلاقك النبيلة، لكن ليس نحن وحدنا أقاربك بل جميع محبيك وأصدقائك وموظفيك والكبير والصغير والغني والفقير والمريض واليتيم والمعاق وأهل قريتنا الحبيبة (شقراء).. وجميع الوطن يودعك بصوت واحد (نستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه أيها الفقيد الصالح).
والدي الحبيب: لا نقول إلا ما يرضي الله سبحانه ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، فنم قرير العين فقد أديت الأمانة إن شاء الله فقد بنيت اسماً طيبا لامعا وكياناً شامخاً سيبقى فخراً لنا جميعا وسوف نحافظ عليه بالسير على نهجك الطيب والاقتداء بأخلاقك الحميدة إن شاء الله وليس أمامنا سوى رد بعض الجميل لك بالدعاء لك، قال تعالى: {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ}.
اللهم ارحم فقيدنا رحمة واسعة وتغمده برحمتك، اللهم ارحمه فوق الأرض ويوم العرض عليك، اللهم قه عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم نور له قبره ووسع مدخله وأنس وحشته، اللهم ارحم غربته وانقله من ضيق اللحود إلى جنات الخلود، اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة، اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وأكرم نزله ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد، اللهم ثبته بالقول الثابت وارفع درجته وثقل موازينه، اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى نزلاً له، وابنِ له بيتاً في الجنة واجعل ملتقاه هناك، اللهم حرم لحمه ودمه وبشرته عن النار، اللهم ارزقه لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، اللهم ارجع نفسه إليك راضية مرضية وأدخله جنتك، اللهم أظله تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك ولا باقي إلا وجهك. اللهم بيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، اللهم ثبت قدمه يوم تزل فيه الأقدام، اللهم اكتبه عندك من الصالحين والصديقين والشهداء والأخيار والابرار، اللهم إني أتوسل إليك باسمائك الحسنى وصفاتك العليا وباسمك الاعظم ان تتقبل دعاءنا بقبول حسن وأن تجعله خالصاً لوجهك الكريم. آمين.
|