في أحد الأيام وفي الثمانينيات الهجرية وأنا طالب وقع في يدي أعداد مجلة وزارة الزراعة، وعثرت فيه على موضوع شيق شدني عن منطقة حائل، وما فيها من ثروات زراعية، وحيوانية، وطبيعة خلابة، وقد دعم الكاتب مقالته الحية بإحصائيات، وأرقام ومعلومات عما تُصدِّره هذه المنطقة من الحبوب والفواكه والأغنام في الداخل والخارج..، وهذا ما أعطى المقالة قوة غير عادية في نظري أما ما جذبني بشكل أشد فهو الحب الذي يتدفق بين السطور، ويفيض على الصفحات.
وتأملت صورة الكاتب ملياً وكأني بها ستقفز من إطارها تنبض حيوية وتتقد حماسة.. حينها كانت بداية معرفتي لِعَلَمٍ بارزٍ من أبناء هذه المنطقة العزيزة ذلكم هو أستاذنا أبو عبدالعزيز. إنه الرجل الذي زرع الساحة منذ شبابه المبكر وكما قيل: «إذا لم تفعل هذا، وأنت شاب فلن تفعله أبداً»، وخلال نصف قرن أو أكثر مروجاً من الحب والعطاء والأعمال الإنسانية والاجتماعية ليكون أحد الرموز بل الرمز الأشهر في حائل الذي رسخ في الأذهان نكهتها ومذاقها المميز.
لأبي عبدالعزيز - يرحمه الله- فضائل وأعمال وإنجازات لست بصدد تعدادها أو حصرها، ولكني سأسمح لقطرات صافية من مخزون لا يحد لنتذوقها ونتلمظ بها في هذه الليلة السعيدة.
يخفق قلب أبي عبدالعزيز بهاجس وحيد أنه أبناء هذا الوطن هذه الأمة، إنه الإنسان..
وحين تتداخل دوائر الوطن في أحاسيسه، نجد أنه أحب في حائل الإنسان ماضيا ومستقبلاً، وكان رهانه الأول على الوعي والثقافة والإبداع والفكر والعلم محذرا من مجتمع يتسم بالذاتية أو الأنانية أو الطمع أو الجمود أو أسباب التنازع.. لم يهتم كثيراً بالدرهم والدينار لا في حياته، ولا للآخرين إلا بحدود أنها وسيلة لتحقيق مقاصد الحياة السامية، ولهذا نذر نفسه لكل ما يدعم التوجه الثقافي والإبداعي في هذه المنطقة قديماً وحديثاً من المكتبات والأندية والمراكز وتشجيع المبدعين والإصدارات وأخيراً كفاحه في سبيل توفير التعليم الجامعي لأبناء المنطقة بأية صورة أهلية أو حكومية ولم ينس تاريخ هذه المنطقة في خضم اهتماماته المتنوعة، وكأنه يقول طموحاتنا لا تطمس بداياتنا.. تحدث عن حياة أناس هربت منا ذكرياتهم وهي عزيزة فأمسك بها لئلا يبتلعها الضياع وكرسها معالم للسائرين مبرزاً ما فيها من المعاني والمغازي الجديرة بالاحترام.
وهناك أشياء خاصة بنا في حائل في أحيائها، وأزقتها، وأشخاصها أقنعنا بأسلوبه الحميمي انها تستحق منا قبلة الوداع وقد كان فعلاً ذلك..
قد لا تكون حائل أجمل مناطق هذا الوطن، ولكن لو ادعينا ذلك لما عارضنا أحد. بلدةٌ جديرة بالحب مجبولة بسحر وغموض وأصالة معتقة وأبو عبدالعزيز أحد العوامل التي أزاحت الحجب عن هذه السمات، ولم يرضه في يوم من الأيام أن تكون الصورة الحائلية نمطية لأن النزوع إلى التكرار اندثار، يرى أن القدرة الحائلية هي في التنويع على النسق الأصيل، الابتكار كما يحلو مع الاحتفاظ بخطوط من النسيج الأصلي النكهة والخصوصية.
لأبي عبدالعزيز صفات وسمات وجوانب لا ترتوي منها. تعيش معه لا تحس بالزمن لأن حياة العظماء مزيد من الإنجاز والتغيير والعطاء إنه من الطراز الذي يشعرك أن التقدم في العمر يجب ألا يفوتك.
لقد أثقلت الهموم قلب أبي عبدالعزيز نحن في زمن حتى الأحلام أصبحت من النوع الذي يفزع.. عملت الأجيال ننشد البصيرة، ولكن كل ما يحصل عليه الناس في العالم وفي العالم العربي بالذات مزيداً من الأسى بعد كل هذا الجهد الجهيد.
فحق لقلب أبي عبدالعزيز أن يحتج.. ولكننا فعلاً شعرنا بنبضات الخوف وطرقات الخطر، فالعظيم عظيم في السراء والضراء، وتنفسنا الصعداء وحق لنا أن نسعد، ونفرح، ونفوز بشعور الطمأنينة ونحن نعيش مع أبي عبدالعزيز قطعا مؤقتة من الأبدية نحلق خلالها. نتأمل السر واللغز ونحملق في المستور ماضياً ومستقبلاً لعلنا نكتشف ما هو جدير بالدهشة.
* د. رشيد فهد العمرو
مدير عام التربية والتعليم ورئيس النادي الأدبي بحائل |