قبل خمسة وعشرين عاماً أو تزيد قليلاً زارني الأستاذ فهد العلي العريفي عندما كنت أعمل بمكتب الرئاسة العامة لرعاية الشباب بحائل. وكان المكتب وقتها يشغل شقة صغيرة مظلمة في وضح النهار في وسط السوق وقبل بناء المركز الرياضي الذي انتقل له المكتب بعد ذلك عام 1400هـ.
كعادة الأستاذ فهد في تشجيعه للعاملين، وشد أزرهم، وشحذ هممهم في كل مكان وفي حائل عند زياراته المتعددة، يزور هذا ويزور ذاك وبالذات المسؤولين عن المؤسسات ذات الخدمة العامة لتشجيعهم وتلمس مشكلاتهم وحاجاتهم والكتابة عنها سواء بخطابات مباشرة للمسؤولين أو عن طريق الصحافة.
جاء للمكتب بدون موعد مسبق، وعندما لم يجدني وقتها انصرف، وبعد عودتي أخبرني الزميل عبدالعزيز المشاري بزيارته، فعرفت أنه بحائل، ووعدني أن يدلني بعد مغرب اليوم على منزله.. وكما جاء بلا موعد ذهبت له بلا موعد فوجدناه يهم بركوب سيارته، وعندما رآنا عاد ورحب بنا وأصر على أن ندخل لتناول مستلزمات الضيافة.. شكرته لزيارته للمكتب واعتذرت لعدم مقابلتي له.. فقبل العذر وشكرني على ما يُنفَّذ بالمنطقة من أنشطة ثقافية واجتماعية ورياضية وطالب بالمزيد.. فكان في لقائه لطيف المعشر، طليق الوجه، كريم الأخلاق.
تكررت زيارته لحائل، وقل أن يذهب بدون لقاء بيننا سواء بالمكتب أو بالنادي أو في منزله أو لدى بعض أحبابه وأصدقائه وأقاربه.
تحولت المعرفة إلى صداقة، فكنت كلما أحضر للرياض لمراجعة الرئاسة العامة لرعاية الشباب أزوره في منزله بالشميسي، ويرفض إلا أن أسكن معه في منزله، بل ويسلمني مفتاح سيارته ويقسم بالله أن ليس له بها حاجة، فلديه والحمد لله غيرها. فكنت ضيفاً ثقيلاً أسكن وآكل وأتنقل على حسابه.
كان يصر أن تبقى معي السيارة حتى موعد سفري لحائل، واتفق معي على أن أتركها في مكان محدد جنوب المطار القديم وبجوار القهوة وأضع مفتاحها تحت الدعاسة وأقفلها. وكان يحضر أو يرسل أحد أبنائه بالمفتاخ الآخر ويأخذها، وهكذا في كل مرة.
عرفني بعدد كبير من الأدباء وجمعني بهم في كثير من الأمسيات الجميلة، أذكر منهم أبا عبدالرحمن بن عقيل الظاهري وصالح السعد اللحيدان والمرحوم فوزان الدبيبي وغيرهم.
كان الدبيبي يناكفه كثيراً وفي كل شيء إلا النيل من حائل أو الكلام فيها بما يسيئ، فتجد أبا عبدالعزيز - العريفي - يتغير وتتبدل تقاسيم وجهه فكأنك رميته بما يشين.. فكان الجميع يردون على فوزان: كلش إلا حائل.
عرف أنني أنوي الانتقال من حائل، فحاول ثنيي، بل ورجاني أن أؤجل الانتقال حتى يرشح أو يتقدم من يستطيع مواصلة أو إكمال ما بدأته.
عدت في العام التالي 1401هـ إلى الرياض وبقيت علاقتنا وتواصلنا، فعندما توليت القسم الأدبي بالشؤون الثقافية برعاية الشباب واقترحت إصدار سلسلة (هذه بلادنا) وكان أن دعوته للمشاركة فرحب، وأسعده أن يكون باكورة افتتاح السلسلة بكتاب عن حائل.. وهكذا كان، فقد بدأت السلسلة برقم (1) حائل بتقديم لسمو الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز وقتها.
وقال الشيخ حمد الجاسر عن الكتاب في تقديم لطيف:
«الابن الكريم فهد العلي العريفي
أمضيت فترات قصيرة من الزمن تحت تأثير ضعف في صحتي - بمطالعة كتابك «لمحات عن مدينة حائل» فوجدت فيه من المعلومات الشيقة عن هذا الجزء الحبيب من بلادنا ما يجعله جديراً بالنشر.
وتمنيت لو أن كل كاتب في بلادنا يتصدى للتأليف عن منطقته بما يحيط بها علماً مما يتعلق بمختلف أحوالها، إذ بمثل هذا العمل تتكامل لدى الباحث ما يحتاج إلى معرفته عند دراسة أية ناحية من نواحي الحياة في هذه البلاد التي لا تزال جوانب كثيرة من مظاهر حياتها قديمها وحديثها مجهولة، أو بحاجة إلى ما يضيف إلى ما عرف عنها من معلومات ما هو وأوفى وأكمل.
وحمدت لك في كتابك عدم طغيان العاطفة فيما تحدثت به من محاسن هذا القطر الكريم الذي هو جزء من بلاد طويلة عريضة تتشابه كل أقطارها في جميع أحوالها.
زادك الله قوة ونشاطاً، ووفقك لما فيه النفع لأمتك وبلادك».
المحب
حمد الجاسر
هكذا صدر الكتاب في مستهل هذه السلسلة التي تجاوزت الستين من مدن المملكة، مستعرضاً الوصف الجغرافي ونبذة عن تاريخها ومعلومات مفصلة عن التعليم والحالة الاجتماعية والاقتصادية قديماً وحديثاً، وبعض الألعاب الشعبية والتراث والأغاني واللهجات وعلاقتها أو «التطابق في الألفاظ والمعاني العامية بين الجزائر في المغرب العربي وحائل في المشرق العربي».
واختتمها بالأوائل في حائل وبعض أصحاب (المضافات) والطرق... إلخ
بلغ الكتاب 170 صفحة من القطع المتوسط وطبع عام 1403هـ.
أقول: إن الأستاذ فهد العريفي يحب ويشجع كل العاملين المخلصين الغيورين على وطنهم، وبالمقابل يكره ويزدري كل المنافقين والمتشدقين والمدعين والمرتشين ويندد بهم ويفضحهم، وبالتالي لا يكل ولا يمل من الإلحاح بالقول والعمل بما من شأنه إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهو دائم الكتابة بالصحف والمجلات عما يهم المجتمع وعن رفع الظلم ومساندة المظلوم حتى ينال حقه من ظالمه.. فمنذ عرفته من خلال ما يكتب عندما كان رئيس تحرير مجلة حماة الأمن عام 1382هـ، أي قبل ثلاثة وأربعين عاماً، وهو يحمل هذا الهم، فها هو يقول في افتتاحية العدد 24 لشهر شوال 1382هـ: «عزيزي القارئ، رب كلمة صغيرة تحول القلوب المتنافرة إلى قلوب متلائمة متحابة، ما تفعله الأولى، فتعمل على تحطيم أواصر الصداقة وتهدم صروح المحبة من أساسها مهما كانت راسية!!
فإذا كنا نستطيع أن نستخدم في علاقتنا مع الناس كلمة الخير.. الكلمة التي تزيل كل أثر من آثار التفرقة والتباعد، فلماذا نبخل بها؟!
وإذا كنا نقدر على كسب صداقة الآخرين ومحبتهم بالكلمة الطيبة، فلماذا لا نستخدمها؟!
وإذا كنا نتمكن من زرع بذور التآخي والألفة مع أقراننا وزملائنا والمحيطين بنا بالكلمة الحلوة، فلماذا لا نفعل؟!
قد يقول قائل: إن عثرات اللسان هي التي تؤدي دائماً إلى إفساد الصلات بين الناس.
ولكنني أقول: إن اللسان نفسه يستطيع أن يصلح ما أفسد.
فعلينا جميعاً ألا نقول إلاّ خيراً.. وإذا قلنا خلافه وجب أن نتدارك غلطاتنا ونعمل على إصلاحها.
وباعتقادي أن أي عمل لا يمكن أن يزدهر ويؤتي ثماره إلا بالمحبة والثقة المتبادلة.
فبالثقة يشاد البناء!
وبالثقة تعمر النفوس المؤمنة!
والثقة والثبات هما سر النجاح!
وعرفت بعد ذلك أنه كان قبل ذلك مراسلاً لجريدة المدينة ومجلة المنهل وغيرهما، ويرسل مقالاته ومطالباته من حائل قبل مجيئه إلى الرياض وانتسابه إلى جامعة الملك سعود وعمله مديراً للعلاقات العامة بوزارة الداخلية.
أختتم هذا بأن علاقتي ولله الحمد بأبي عبدالعزيز كانت طيبة باطراد، وحمدت الله على شفائه بعد العملية الجراحية في القلب منذ سنة، فقلبه ما زال كبيراً يتسع لمشكلات وقضايا أبناء بلدته ووطنه الكبير، فكما قال عنه ابن (قصر العشروات) بحائل جبير المليحان: إنك كجبل أجا تتسع لكل البشر والحجر والطيور والمواشي وتيحملهم ومشاكلهم.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته ولا حول ولا قوة إلا بالله.
محمد القشعمي |