* قراءة: علي سعد القحطاني:
كتاب (الفصول) للعقاد من بواكيرانتاجه الادبي واوائل مؤلفاته التي لفتت اليه الانظار وكانت ارهاصاً للمنزلة العليا التي سوف يبلغها في عالم الأدب والفكر والفلسفة وهو مجموعة مقالات أدبية واجتماعية وخطرات وشذور تنم عن نزعة قوية الى التجديد في الأدب واتخاذ أسلوب في الكتابة يلائم العصر الحديث الذي بلغت فيه آداب الأمم المتقدمة أعلى الذرا من حيث نصاعة التعبير وسداد التفكير، هذا ما جاء في تقديم الأستاذ منيف لطفي للكتاب،
ميخائيل نعيمة
ولقد زكى الأستاذ ميخائيل نعيمة هذا الكتاب وقال: تصفحت كتاب (الفصول) فألفيته من الكتب التي تشارك في تأليفها قلب شاعر واع وفكر متنبه ممحص وقلم عربي صميم، سهل القيادة في أكثر مسالكه، فتي الروح، مستقل النزعة، وما أندر القلوب الواعية، والأفكار المتنبهة، والأرواح الفتية والنزعات المستقلة في آدابنا العربية.
داروين وأبو العلاء المعري
وقد تناول العقاد في كتابه جملة من المواضيع يحسن الوقوف عليها للتعرف على رؤاه تجاه تلك القضايا حيث يرى ان مذهب دارون في النشوء والارتقاء وتنازع البقاء قديم شعر به الناس منذ ان وجدوا وصرح به حكماؤهم وشعراؤهم في الامثال والاشعار كل على طريقته ومنواله، وتحمل قصائد أبي العلاء المعري تلك النزعة حيث يقول العقاد: فإذا قيل ان دارون واضع المذهب في عالم العلم ساغ لنا ان نقول: والمعري واضعه في عالم الأدب والشعر.. ويقف العقاد أمام اللوحة التشاؤمية التي تحتفي بها قصائد ابي العلاء المعري ويقارنه بإمام المتشائمين في العصر الحديث آرثر شوبنهور ويقول: إن المعري وشوبنهور اتفقا على كل رأي اشتركا في الإلمام به ولو لم يكن من أصول فلسفة التشاؤم، وإليك مثلا إدراكهما للزمان فإن المعري يتصوره كأنه نفس طائر في أثر نفس وكأنه اجزاء متفرقة يجمعها كل واحد فيراقبه مراقبة لا يسهو عنه ومن هذا قوله:
لهفي علي ليلة ويوم
تآلفت منهما الشهور |
ويلحق به قوله:
قديم الزمان وعمره ان قسته
فلديه أعمار النسور قصارُ |
وكذلك يقول شوبنهور مع الفرق بين الاسلوبين الشعري والفلسفي: الزمن هو ذلك الذي يفتأ يجعل الأشياء لا شيء في أيدينا فتفقد بذلك قيمتها.
منشأ الأساطير
ويرى العقاد ان الرأي التشخيصي هو أصوب الآراء في تعليل منشأ الأساطير وأقربها الى الاجماع بعد أن درس ثلاثة آراء في هذا الجانب.
الرأي الأول: الرأي التشخيصي الذي نطق به الأستاذ الايطالي تيتوفينولي في رسالته الموسومة (بالخرافة والعلم) وذهب في رأيه الى ان منشأ الأساطير يرجع الى ان الإنسان يخلع شخصيته على الموجودات ويتثمل ذاته في القوى والعناصر المجردة.
الرأي الثاني: وهو للفيلسوف الانجليزي هربرت سبنسر الذي له رأي في منشأ الاساطير والخرافات فعنده انها ترجع الى عبادة الموتى وتفسير ذلك ان الهمج كانوا يعبدون أرواح أسلافهم وآبائهم ويعزون اليها ما يصيبهم من الخير والضر.
الرأي الثالث: في منشأ الاساطير للبحاثة اللغوي ماكس مولر، ويقول هذا البحاثة ان وصف الكائنات بصفات الإنسان ضرورة اوجبها ضيق اللغة في الأيام الفارطة.
المسعودي وأساطير العرب
ويعرج العقاد الى اساطير العرب ويقول: إن ملكة الأساطير مستقرة في كل نفس مشاعة في كل جنس، فما بال أمم نراها لا تلزم بالأساطير حدا، ويستحسن مقولة ما كتبه المؤرخ المسعودي في هذا المعنى اذ يقول: إن ما تذكره العرب وتكنى به من ذلك انما يعرض لها من قبيل التوحيد في القفار والتفرد في الأودية، والسلوك في المهامه الموحشة لأن الإنسان إذا صار في مثل هذه الأماكن يوجد له تفكر ووجل وجبن واذا هو جبن داخلته الظنون الكاذبة والأوهام المؤذية الفاسدة فصورت له الأصوات ومثلت له الأشخاص وأوهمته المحال بنحو ما يعرض لذوي الوسواس، ومن العجب ان القصيدة (المواكب) للشاعر جبران خليل جبران لم تحز على رضا العقاد ويقول: أما القصيدة فليست في استطاعتنا ان نسميها شعراً صحيحاً، لما يعتريها - على حد قوله - من الخطأ اللغوي وضعف التراكيب وغلبة العبارة النثرية على النغمة الشعرية في أبياتها.
العقاد.. والزاعقون
ويعيب العقاد في زمنه على (مغني المجالس) الذي يبدو أنه قد حضر مجلسه على مضض ويقول وهو يصف اللحظات في انتظار ذلك المغني: (ومضت بعد ذلك برهة في التشوف والانتظار، ثم مضت برهة ثانية في النقر واصلاح الآلات، ومضت البرهة الثالثة - ويبدو أن العقاد كان يتميز من الغيظ - ولا ندري كيف مضت، لأننا فوجئنا بزعقة هائلة لم نعلم أمن السماء هبطت أم من الأرض صعدت، وصوت صارخة هي تعدد أم صوت قتيل يستنجد. استغفر الله بل لم نعلم أهي صوت إنسان أم عزيف طائفة من الجان، ولمّا افقنا من غشيتنا وجدنا بعضنا ينظر الى بعض واذا بالمغني يصيح: يا ليل يا ليل، وأيقنا أنه صاحب الزعقة الأولى.
وماذا لو امتد بالعقاد العمر وحظي بسماع زعقات أخرى كالتي تجود بها حناجر شعبان عبدالرحيم وغيره.. ما الذي كان سيقوله، هل سوف يندد بهم كما ندّد وعاب على ذلك المغني في زمانه أم أنه سيسعى الى تصويب رميته ورميهم بالنبل من الألفاظ العقادية.
البؤساء
وقرأ العقاد كتاب البؤساء ونظر الى أدب هيجو ووقف على أطلال المذهب المادي حيث يشيد بالبحاثة فريد وجدي الذي اخذ صاحبنا يزكي عمله ويقول: للأستاذ البحاثة فريد وجدي، فضيلة خاصة قل ان رأينا لأحد غيره من كتاب مصر وعلمائها في هذا العصر وهي فضيلة المثابرة على العمل وخلوص النية للعمل والكتاب الذي بين أيدينا اليوم - يشير العقاد الى كتابه.. (اطلال المذهب المادي) - من مصنفاته الكثيرة الميمونة ومخصص لنقض المذهب المادي وايراد أقوال طائفة من كبار الفلاسفة والعلماء على بطلانه والدلالة على قصر نظر المتشبثين بالمادية.
العقاد والكتب
والكتب عند العقاد - كالناس منهم السيد الوقور، ومنهم الكيس الظريف ومنهم الجميل الرائع والساذج الصادق والأريب المخطئ، ومنهم الخائن والجاهل والوضيع والخليع والدنيا تتسع لكل هؤلاء ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلاً كاملاً للدنيا.
القزويني وعجائب المخلوقات
ويعلق العقاد على كتاب وضعه القزويني وسمّاه (عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات) ويقول: لو سماه (عجائب المختلفات وغرائب المعدومات) لأنصف ولكان الكتاب قطعة جميلة من إبداع الخيال ووحي الفكاهة تشهد لصاحبها بالافتنان في القصص والقدرة على التصور.
|