تخلينا عن تذكرة العودة بالطائرة من فاس إلى الدار البيضاء، ورأينا أن نركب الحافلة إلى الرباط، وكانت مسافة الطريق التي تزيد عن ساعتين مغرية.. غادرنا فاس ونحن نتمنى البقاء فيها.
لفت نظرنا وأثار إعجابنا بمحطة الحافلات النظافة، والنظام، وانضباط المواعيد، وعلامة تحضر أي بلد تكمن في هاتين النقطتين النظافة في المرافق العامة وانضباط الخدمات العامة.. وانطلقت الحافلة تشق الطريق الأخضر عن يمين وشمال.. وكنا في المقدمة نتابع هذا الشريط الأخضر فقد تفضل موظف الحجز - دون أن نطلب منه - على إعطائنا مقاعد في الصف الأول لما عرف أننا غرباء، وكانت هذه لفتة لا تراعى للسائح في بعض البلدان العربية.
وصلنا مدينة مكناس بعد ساعة تقريباً وكنا نتمنى زيارتها والوقوف على معالم تاريخها وكدنا نستجيب لإلحاح الصديق الطالب المغربي إدريس ريان الذي كان يصر على استضافتنا هناك في بيت أخيه لكن ضيق الوقت كان يطاردنا. وانطوى الطريق في حديث شهي مع الصديق الدكتور محمد حسن الزير في التاريخ والأدب وذكريات حضارتنا العظيمة في هذه البلاد.
كانت لنا جولة في ربوع الرباط جاءت بالمصادفة أثناء البحث عن فندق مناسب يجمع بين الهدوء والنظافة ومواصفات الموقع تجولنا على شاطئ الهرهيرة الشهير حيث توجد به أجنحة وبيوت للإيجار يرتادها السائحون من المشرق في الصيف، وكانت هناك بعض الفنادق على البحر، ورأينا أن السكنى هناك لمثلنا الذين لن تزيد عن يومين تنقطع بنا عن المدينة التي نريد أن نراها.
حططنا الرحال في فندق جمع الصفات التي نريد ما بين منطقتي (الضريح) ووسط المدينة.. والمقصود بالضريح مدفن الملك محمد الخامس، خرجنا إليه مشياً على الأقدام، فإذا به مساحة كبيرة تقع على ربوة مرتفعة تطل على أجمل ضواحي الرباط.. وهذا الموقع نفسه كان مسجداً أثرياً لم تبق منه إلا منارته التاريخية وبعض أعمدته التي كانت مسجداً، إنه (مسجد حسان) الذي يقال إن عدد أعمدته كان 360 عموداً بناه السلطان يعقوب المنصور الموحدي وكان من أكبر المساجد في عهده، إلا أن البناء فيه توقف بعد وفاته سنة 1199م ثم تقوض معظم ما بقي منه بعد زلزال سنة 1755م، ولكن الآثار المتبقية تشهد على ضخامة مشروع المسجد الذي يبلغ طوله 180 متراً وعرضه 140 متراً.. أما المنارة التي تسمى (صومعة حسان) التي لا تزال قائمة تشهد لعصرها ولبانيها، فيبلغ ارتفاعها 44 متراً ولها مطلع داخلي ملتو يؤدي إلى أعلاها ويمر على ست غرف تشكل طبقات، وقد زينت واجهاتها الأربع بزخارف ونقوش مختلفة على الحجر المنحوت على النمط الأندلسي المغربي.. وبقي في أذهاننا سؤال عن حسان المقصود في التسمية هل هو حسان بن ثابت أم حسان آخر؟..
وفي أقصى الجهة المقابلة لصومعة حسان أقيم مبنى ضريح الملك محمد الخامس.. مبنى ضخم مهيب متاح يطل عليه الزوار من أعلى حيث يقع الضريح في وسط حجرة مهيبة، وفي أحد أركانها يوجد - بحجم أصغر - ضريح الملك الحسن الثاني.
وقد أعطى اختياره لمدفنه في هذا الموقع من الحجرة انطباعاً بإجلاله واحترامه لأبيه وحفظاً لمكانته في تأسيس الدولة التي لا يدانيها أحد.. وفي كلا الاختيارين اختيار مع موقع الضريح ذاته على ربوة مسجد حسان، واختيار الحسن الثاني لموقع ضريحه على مسافة من أبيه وبحجم أصغر منه دلالات عميقة لا تفوت الزائر المتأمل في الحكمة الراغب في التعلم.وبعد ذلك انطلقناً نجوب ما بقي من آثار في هذه المدينة التاريخية التي تأسست في عهد المرابطين، وسميته برباط الفتح لأهميتها الإستراتيجية أمنياً وعسكرياً في العهد الموحدي حيث تحولت في عهد عبدالمؤمن الموحدي إلى قصبة محصنة لحماية جيوشه التي كانت تنطلق في محلات جهادية صوب الأندلس.. وفي عهد حفيدة يعقوب المنصور تحولت الرباط إلى عاصمة الدولة وأقيم حولها سورا سمي بالسور الموحدي، وفي عهد السعديين أقيم حولها سور آخر سمي بالسور الأندلسي.
وبعد أن تجولنا في المدينة القديمة أسواقها وحول أسوارها، وأزقتها التي تحمل طابع المدينة العربية التقليدية، وصلنا إلى شاطئ نهر صغير رأينا الزوارق الصغيرة التي تتحرك بالمجداف اليدوي تنقل الناس للضفة الأخرى.. وقيل لنا إن هناك أفضل مكان لأكل السمك، وكان الجوع قد أخذ منا كل مأخذ، وقادنا عشق زميلي د. محمد حسن الزير للسمك للركوب مع الناس والعبور للضفة الأخرى.
وعرفنا أن النهر الذي عبرناه يسمى (نهرو أبو رقراق) نسبة لدويلة أبي رقراق والبر الذي وصلناه هو مدينة (سلا) التاريخية التي تعد اليوم - عملياً - ضاحية من ضواحي الرباط الكبرى.. وقد توحدت عدوتي الرباط وسلا تحت حكم دويلة أبي رقراق التي أنشأها الموزيسكيون.. وقد اشتهر أبناء (سلا) بنشاطهم البحري، وأطلق عليهم الأوروبيون اسم (قراصنة سلا)، واستمر جهادهم ضد البواخر الأوروبية لغاية سنة 1829م.
كانت وجبة سمك لذيذة على شاطئ (سلا) الذي اصطفت على طوله مطاعم الشوي الشعبية عدنا بعدها إلى الفندق بالتعب المريح وأجملنا محصول هذا اليوم الثاني والأخير في الرباط فوجدناه عدة كتب اشتريناها من إحدى مكتبات باب شاله الواقع داخل السور القديم.
وزيارة لمكتبة باب شالة العامة التي أحسن المسؤولون عنها استقبالنا بعد أن عرفوا أننا غرباء، ولفت نظرنا فيها لزوم الهدوء وكثرة الزوار لها على صغر حجمها.. ولم نتخلص بالطبع من داء شراء الهدايا، والتورط في البحث لها عن أماكن في حقائبنا.. ثم كانت وجبة عشاء خفيف في مطعم جميل مجاور للفندق، ونسمات باردة تهب من البحر تقول لنا وداعاً باسم هذه المدينة الوادعة والوديعة فقلنا:
وداع لكن بعده ألف ملتقى
وما ضر بينٌ يعقب الوصل واللقاء
|